المعاركُ الجَّانبيةُ ومرارةُ الخُذلان | كتابات فكرية | مجلة بلاغ العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
كنت سأذكر أسماءَ تنظيماتٍ وأشخاصٍ ووقائعَ لتكون الكلمةُ أبلغُ، لكني عَدَلتُ، لتكون الكلمة عامةً موجهةً إلى كلِّ أبناء الأمة، والسعيد من اتَّعظ وانتفع.
في الوقت الذي فشا فيه الظُّلم وتراكَبَ، للمظلوم علينا حقُّ النُّصرةِ بالدَّفع عنه، وللظَّالمِ حقُّ النُّصرةِ بحجزه ومنعه من ظلمه، وإن الظلم الأكبر يقع اليوم على عامة المجاهدين، فهُم على سِندانِ الواقع الصعب، تطرقهم مطارقُ كثيرةٌ تجتمع وتتعاقب عليهم ليل نهار.
وإن أكبرَ ظلمٍ وقعَ على المجاهدين هو حجزُهم عن أمتهم وزجِّهم في معارك جانبية فكرية ولا فكرية، تنظيمية وشخصية، تهدر أغلى ما أعدُّوه ليقدموه في سبيل الله، وتفتِن بعضهم وغيرهم من أبناء الأمة عن الجهاد.
كانت المعارك قديماً تُحسَمُ بالمبارزةِ إما نهائياً بأن تُقتَل نفسٌ واحدةٌ، أو تُؤثِّرُ نتيجة المبارزة على المعركة فتحفظ أنفسٌ كثيرةٌ وتحقن دماءٌ غزيرةٌ، ولئن كانت المبارزة جهداً عضلياً لا تؤثر نتيجته على الحق والاعتقاد به، فإن المناظرة تؤثر نتيجتها على العقولِ وتوجه أهلها بغير دماءٍ، وهي خيرُ ما يحجِزُ بين أبناء الأمة الواحدة إن اختلفوا، أما المباهلةُ فهي آخرُ ما يُلجأ إليه بعد المناظرة التي وصلت حدَّ الإغلاق وجحودِ أحد طرفيها الحقَّ بعد استيقانٍ، ويعقُبُ المباهلةَ الهلاكُ بأحدِ أسبابه أو أكثر.
في الواقع قلَّما يقبل الطرفُ الأقوى بالمناظرة، وذلك لأن التفوقَّ الماديَّ في يده فيتجنب الدخولَ في معركةٍ فكريةٍ قد يخسرُ نتيجتها أسبابَ تفوقهِ الماديِّ، إن كان يتصفُ بالكبرِ واستمراءِ الباطلِ والتهاونِ في سفكِ الدماءِ، أما إن كانَ متخرجاً من مدرسةِ الحقِّ فهو أولُ من يدعو إليها معلناً راضياً، وما خبرُ مناظرةِ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لأوَّلِ الخوارجِ الذين كفَّروا علياً ومعاويةَ رضي الله عنهما بمجهولٍ، فردَّ الله أكثرهم إلى الحق بِبَيانِه، وأهلك من بقي على الباطلِ بأيدي المؤمنين.
ومع رفضِ المناظرة المنضبطةِ المعلنةِ التي تُعرِّي أحدَ طرفيها أو كليهما، ورفض التَّحاكم إلى قضاءِ عدلٍ مستقلٍّ، تنفعُ في بيانِ الحقِّ والدعوةِ إليه مخاطبةُ عقولِ الأتباعِ والمتابعينَ علناً، إن بقيَ الحقُّ هو الهدفُ، أما إن اختُزِلت هذه المواجهةُ في جزءٍ من الحقِّ أو في تنظيماتٍ أو أشخاصٍ لهم اختياراتهم وأفهامهم غير المعصومةِ، فَقَدَ من يدَّعي الحقَّ ويدعو إليه أنصارَ الحقِّ الكاملِ وأنصار الأجزاءِ الأخرى منه.
هناك تكتيكٌ متَّبَعٌ ويكونُ استراتيجيةً أيضاً، تتضمن الإلهاءَ بالجزئيات والمعارك الجانبية، وجرِّ الخصم بعيداً عن أي أنصارٍ محتملين إلى ساحةٍ تكون فيها الغلبة عليه لا له، وهذا ما يحدث مع من يتعصبُ للتنظيمِ واسمهِ ويتغنى بالوكالةِ الحصريةِ على حسابِ انتمائه لأمته وسعيه مع عموم أبنائها لخدمة قضيتها العامة (أن تكون كلمةُ الله هي العليا)، أو يتعصبُ للأشخاصِ وأسمائهم، سواء كانوا أمراءَ أو علماءَ أو شيوخاً، إنما يُعرفون بالحقِّ إن تمسكوا به، ولا يُعرف بهم وبمريديهم.
إن الله ينصرُ المؤمنين بالمؤمنين، ولنا في رسوله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}، أما المنبتُّ الذي يمتازُ عن الأمَّةِ، فلا يعدو أن يكون مُكفِّراً لا يعترف بإيمان أبنائها فهو خارجِيٌّ إلى هلاك، أو معترفاً بإيمانهم ولا ينصرهُم ولا يستنصرُ بهم فهو إلى هلاك، ولا يلومنَّ إلا نفسه إذا وقع عليهِ ظلمٌ أو عَسفٌ ونظر فلم يجد نصيراً.
هناك مشكلةٌ عميقةٌ في تحديد وترتيب الولاءات الأولويات، ونلاحظ خذلاناً متعمداً متبادلاً من جهات كثيرةٍ، أحرى بها أن تتعاون على البر والتقوى والنُّصرةِ في وقتٍ كلهم يحبون فيه النُّصرةَ، ثم لا ينصرُ الجميعَ دون تمييزٍ إلا القليل، والأكثرونَ يخذلُ بعضهم بعضاً، أو ينشغلونَ عن أساسِ القضيَّةِ وعمومِ الأمة بتنظيماتٍ وأشخاصٍ وأجزاءَ من الحقِّ مرجوحةٍ بالأهم.
إن من أهم المبادئِ التي قامت عليها الثَّورةُ السُّوريَّةُ إقامةُ العدلِ ورفعُ الظلمِ دون تمييزٍ أو تقييدٍ، وهذا يوافقُ الشَّرعَ، ولا يخالفهُ إلا جاهلٌ أو ظالمٌ، فلا يُميِّزُ المجاهدُ الصادقُ بين المظلومين سواءً كانوا يتفقون أو يختلفون معه، ينصرونه أو لا ينصرونه، فالخذلانُ رذيلةٌ لا تبرِّرُ الخذلانَ، والتصنيفاتُ المحليَّةُ والدوليَّةُ لا تمنعُ من قولِ الحق والعدلِ، إلا إن كان قول الحق والعدل ادعاءً وانتقاءً يخدعُ المرءُ به نفسه وما يشعر.
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود : 80]، قال أبو جعفر: “يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضي لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ)، بأنصار تنصرني عليكم وأعوان تعينني، (أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، يقول: أو أنضم إلى عشيرة مانعة تمنعني منكم، لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منِّي في أضيافي“. (تفسير الطبري).
إن القوةَ والركنَ الشديدَ في الشامِ بعد مُسبِّبِ الأسباب عزَّ وجلَّ، هم أهلُ الكفالةِ أهلُ الشام بغير انتقاء ولا اجتزاء، هم جزء أصيل من الأمة المسلمة، فيهم من الإيمان والخير ما يصلح الله به شأنهم وشأن غيرهم، لكن لذلك أسبابه ولكلِّ أجلٍ كتابٌ.
فالعجبُ ممن ينحصرون في ضيقِ الشخصيةِ والتنظيميةِ، ولا يتحيَّزونَ إلى الأمة كفئة جامعةٍ فيها المَنَعةُ ونصرةُ المظلومِ ورد الظالمِ وردعه، والعجبُ ممن يحاولونَ حصرهم تحتهم بالظلمِ والقهرِ والإكراهِ، وقد فشلَ من هو أقوى منهم وأكثر جمعاً وأشد فتكاً وإجراماً، وكأنما على أبصارهم غِشاوةٌ فلا يرون ولا يعتبرون.
إن المعاركَ الجانبيةَ التي لا ناقة لعموم المسلمين والمجاهدين فيها ولا جمل، إلا أنها جزء من مأساتهم، تأبى أنفسهم أن يخذلوا المظلوم فيها ولو كان جرَّعهُم مرارة الخذلان عندما ظُلِموا، ثم تجرَّعه مع مرارةِ الغدرِ والبغيِ والافتراءِ، لكن على المظلومِ أن يعودَ إلى أمتهِ مقراً بما كان، راضياً مقتنعاً بما يجب أن يكون، من إعادة تحديد وترتيب الولاءات والأولويات، فاهماً أن المعركة ضدَّ الظلمِ من البعيد والقريب معركةٌ شاملةٌ لا نصر فيها إلا بالاعتصامِ والتعاونِ والتواضعِ، لا ينتصر فيها من لا يَنصرُ، لا ينتصر فيها من يَخذلُ، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج : 40]
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود : 88].
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
لمتابعة مقالات العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية
– هكذا نصروه – التحرير
الركن الدعوي
-الشهوة أصل الشبهة – الشيخ أبو اليقظان محمد ناجي
– عقائد النصيرية 10 – الشيح محمد سمير
– أحكام الجهاد مع الإمام الفاجر – الشيخ أبو شعيب طلحة المسير
– ويمشي في الأسواق – الشيخ همام أبو عبد الله
– حب النبي صلى الله عليه وسلم – الشيخ أبو حمزة الكردي
صدى إدلب
– إدلب في شهر صفر 1442هـ – أبو جلال الحموي
– لقطة شاشة – أبو محمد الجنوبي
– مواقيت الصلاة في إدلب لشهر ربيع الأول 1442هـ – رابطة العالم الإسلامي
كتابات فكرية
– آفة الاستعجال – د. أبو عبد الله الشامي
– المعاركُ الجَّانبيةُ ومرارةُ الخُذلان – الأستاذ أبو يحيى الشامي
– أفغانستان جراح وآمال – إحسان الله (أنس الأفغاني)
– الحق أقوى من إعلامهم – الأستاذ خالد شاكر
ركن المرأة
– طريق الهداية الأستاذة – نسمة القطان
الواحة الأدبية
– بين الإيمان والحب – الأستاذ غياث الحلبي
لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا
لمتابعة قناة مؤسسة بلاغ الإعلامية على التليجرام تابع