المسالخ البشرية – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد الثامن والثلاثون ⁨ذو الحجة ١٤٤٣ هـ

الأستاذ: غياث الحلبي

يجري مسرعا بكل طاقته يعبر الأزقة من زقاق إلى آخر، ينتقل من حارة إلى أخرى؛ محاولاً تضليل من يتبعه، يبتعد أكثر فأكثر، وأخيراً يشعر بالأمان فيقف ليرتاح قليلاً ويجذب الهواء بكثرة إلى رئتيه اللتين أتعبهما كثرة الركض، صدره يعلو ويهبط بسرعة، يلتقط الهواء بفمه بعد أن عجز أنفه عن تلبية حاجة جسمه من الأوكسجين لإفراطه في الجري.

وبعد أن ينال قسطا من الراحة وتنتظم دقات قلبه التي كانت قبل قليل كالعصفور، يعود ثائرٌ متمهلاً إلى بيته، هكذا كان دأبه بعد كل مظاهرة مسائية يخرج فيها.

يبدأ الأمر بصلاة العشاء ثم الخروج من المسجد وتجمع المتظاهرين ثم الهتاف إلى حين وصول قطعان الشبّيحة وتفريقهم المظاهرة بالهروات والسكاكين وعصي الكهرباء، ثم مطاردة بعض المتظاهرين واختطافهم وسوقهم إلى أقبية الأفرع الأمنية؛ حيث يستعيذ شياطين الجن من شر ما يفعله شياطين الإنس، فيد السجانين هناك مطلقة يفعلون ما تمليه عليهم أهواؤهم وأمزجتهم المريضة بداء العظمة.

كان ثائر يخشى أن يقع في أيدي الشبّيحة أسيراً، وكثيراً ما كان يتردد قبل كل مظاهرة… أيشارك فيها مع ما يكتنفها من مخاطر؟ أم يقبع في بيته منتظراً أن تهب رياح التغيير دون أن تكون له يد في صنعها؟

وفي كل مرة كان قلبه ينتصر بعد أن يتسلح بقول الله: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا)، ثم يلتفت إلى نفسه لائماً لها: إلى متى هذا الخوف؟ وهل هي إلا حياة واحدة؟ فإن لم ننفض عنا غبار الذل الآن ونثر على الظلم والاستعباد فسنمضي في حياة أمثل منها حياة البهائم، وأي فرق بين حياة البهائم وحياة شعب لا يلهث إلا وراء المطعم والملبس والمشرب!

وذات يوم خرج ثائر في المظاهرة كعادته وهتف مع المتظاهرين هتافاً تشعر فيه بحرارة الصدق: “الشعب يريد إسقاط النظام”… “هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه” وكالعادة أقبلت قطعان الشبّيحة بهرواتها وعصيها ومُدَاها تريد أن تئد صوت الحرية وتعيد إلى الأيدي والأعناق أغلال الظلم والاستبداد والخوف التي كسرها الشباب الثائر وألقاها مع نفايات الأفكار.

دوت أصوات إطلاق النار في الهواء وبدأ الركض في كل اتجاه للنجاة من الوقوع في أيدي ذئاب في صورة بشر أو بشر بقلوب الذئاب لم تعرف الرحمة يوماً إلى قلوبهم طريقاً أو تجد الرأفة إلى أفئدتهم مسلكاً.

ركض ثائر ذات اليمين وأبصر ثلاثة من الشبّيحة يقطعون الطريق عليه وينتظرون وصوله لينقضوا عليه انقضاض الوحش على فريسته.

انعطف يساراً ليجد سيارتين صفتا بشكل عرضي لتعوق حركة المتظاهرين ممّا يسهل وقوعهم بين براثن قوات الأمن والشبّيحة، استدار إلى الخلف فوجد وراءه عنصرين يتبعانه ملوحين بهراوتيهما، فأدرك أنه قد أحيط به فاندفع راكضا نحو السيارتين لعله ينجو من فرجة بينهما، جرى بسرعة حتى إذا وصل إليهما قفز بقوة وفي الوقت ذاته كانت عصي الشبّيحة تتلقاه قبل أن تطأ قدميه الأرض، والحقيقة أن قدميه لم تطأ الأرض فقد سقط على ظهره واجتمع حوله مجموعة من الضباع البشرية تنهال عليه ضرباً مصحوباً بسباب وشتائم لن تجد أبذأ ولا أقذع منها ولو استعرضت أشعار الهجاء من الجاهلية إلى العصر الحديث، غير أنك واجد في أشعار الهجاء من الجاهلية لمسات بيانية وأساليب بلاغية ولا تجد في سباب هؤلاء القوم سوى الفحش الغبي والإقذاع السمج، فلا يشبهه شيء إلا قبح وجوههم، ولا يدانيه أمر إلا سوء أخلاقهم ورداءة باطنهم وخبث ظاهرهم.

مرت دقائق وثائر ملقى على الأرض يضرب، ثم شعر بسائل دافئ يسيل على وجهه، ولم يجهد فكره ليعلم أنها دماؤه تنزف، ثم غاب عن الوعي.

لا يدري ثائر كم مر عليه أثناء الإغماء، غير أنه وجد نفسه مكبلة يداه خلف ظهره وهو في صندوق السيارة الخلفي، ولم يحتج إلى كبير ذكاء ليعلم أن أسوأ ساعات حياته ستبدأ بعد قليل عندما يرمى في أحد مسالخ النظام.

توقفت السيارة ليتبادل سائقها بعض الكلمات مع شخص ما ثم تابعت سيرها، فعلم ثائر أنهم وصلوا إلى أحد الأفرع الأمنية وأن الحديث قد دار على بوابته الرئيسية قبل أن يأذن الحرس للسيارة بالدخول.

وسرعان ما فتح صندوق السيارة وأخذت الأيادي تجذب ثائر كأعنف ما يكون الجذب، مع سيل من الشتائم والركلات واللكمات واللكزات والوكزات والصفعات.

لم يدر ثائر أين هو ولم يبصر شيئاً لأن عينيه قد غشيتا بثوبه.

سيق ثائر إلى غرفة تدعى الأمانات ليسلم ما يحمله وتدوّن بيانات في جداول السجناء.

– أخرج ما معك ولاك حيوان.

يخرج ثائر بطاقته الشخصية والجامعية ومفاتيح المنزل وخمسة آلاف ليرة سورية.

يأخذ موظف الأمانات ورقة ويكتب عليها وهو يردد بصوت مرتفع “بطاقة شخصية، بطاقة جامعية” ثم يلتفت إلى ثائر، ويقول: “مثقف كمان يا حيوان” ويتابع: “مفاتيح هني أماناتك في شي تاني ولاك؟”.

يجيب ثائر باضطراب: “في شوية مصاري”.

عندها يثور الموظف ويرعد ويزبد ويصرخ في وجه ثائر: “أي مصاري، لعمى يضربك، أنت ما معك شي، هي أماناتك ما في ولا ليرة”.

يدرك ثائر أنها عملية غصب، والحوار يختص بالبشر، ومن الحماقة محاورة الوحوش حتى لو كانت في مسلاخ إنس، فيقول: “عذراً يبدو أن النقود قد سقطت مني دون أن أشعر”.

– “في المرة الثانية انتبه حتى لا تفتري على الأبرياء”.

وشعر ثائر باحتقار شديد لهذا المخلوق البشع، فمن هو البريء ومن هو المجرم؟

أيكون هذا الكائن الإمعة الذي يسلب حريات الناس ويعتدي على حرماتهم ويغصب أموالهم بريئاً؟ ويكون طالب الجامعة المجد الذي خرج يهتف مطالباً بحقوقه وحريته مجرماً؟

وعلى أي حال فإن الاسترسال في التفكير يعتبر لوناً من ألوان الترف وضرباً من الرفاهية الزائدة، لذلك شعر ثائر بيد غليظة تنهال على قفاه ثم تزبنه زبن المجرمين إلى الزنازين الانفرادية.

أوقف السجان ثائراً أمام زنزانة ثم أخذ يعالج القفل حتى فتح، ثم فتح الباب وجذب ثائر من ناصيته حتى صار مواجهاً للزنزانة، وبركلة عنيفة صار داخلها، ولم ينس السجان أن يودعه بقوله: “بدكن حرية يا عر… هي حرية هلق بتشوف الحرية يا خر…

كان الظلام دامساً في الزنزانة، ولم يستطع ثائر أن يبصر أي شيء، فأخذ يتحسس المكان بيده التي هدته إلى وجود مصطبة ترتفع عن الأرض قرابة نصف متر وتمتد من أول الزنزانة إلى آخرها، وعلى المصطبة وجد غطاء ذا رائحة مقززة وملمس زَهِم.

ألقى بجسده المتعب على المصطبة، وظنّ أنه سينال قسطاً من الراحة قبل أن يخرج إلى التحقيق غداً، ولكن فوجئ بعد بضع دقائق بفتح الباب إليه وسوقه إلى باحة في الفرع؛ حيث جمع عدد من السجناء الجدد وبدأ حفل الاستقبال.

ضرب بالعصي والخراطيم والقضبان المعدنية والبلاستيكية على جميع أنحاء الجسم مع شتائم فاحشة تنم عن وضاعة لافظها وخساسته.

امتدت الحفلة قرابة ساعة ولم تنته إلا بعد أن غطت دماء السجناء أرضية الباحة وسقط نصفهم مغمى عليهم ولعل بعضهم قد فارقته الحياة.

أعيد ثائر إلى زنزانته فرمى بجسده المنهك على المصطبة وقد أثقلته الهموم، وقبل أن يستغرق بضرب من الرفاهية الزائدة -أعني التفكير- راح يغط في نوم عميق لم يستيقظ منه إلا قبيل الفجر، وبالطبع لم يعلم ذلك إلا بعد أن سمع نداء المؤذن قادماً من بعيد يخترق أسوار السجن ويتجاوز الأبواب الحديدية المثقلة بالأقفال ليغسل بنداه قلوباً غلبها الحزن أو تسلل إلى بعضها اليأس ليذكرها من جديد بأن الله أكبر من السجون والسجانين والزبانية والطغاة والظلمة وجيوشهم وبطشهم.

تيمم ثائر ثم صلى الفجر ورفع يديه يناجي ربه ويستمطر رحماته، وفي الصباح تسلل خيط من أشعة الشمس إلى داخل الزنزانة فأبصرت عيناه بصعوبة ما لم يشعر به البارحة.

كان طول الزنزانة مترين وعرضها متر ونصف، نصفه للمصطبة والنصف الآخر احتوى على بضع أحجار يليها مرحاض وصنبور ماء وقصعتين فارغتين إلا من الغبار والزهومة وبعض الحشرات الزاحفة والطائرة.

ثم جاء طعام الفطور، ولم يكن سوى ثلاث حبات من الزيتون ورغيف خبز واحد ليس للسجين سواه طوال اليوم.

وأما الغداء فمقدار كأس شاي صغيرة من البرغل أو الأرز الذي تزيد عدد الحجارة الصغيرة فيه على عدد حبات الأرز أو البرغل، ويرفق الأرز أو البرغل بكمية قليلة من مرقة حمراء اللون لها رائحة كرائحة أي شيء لا يصلح للاستهلاك البشري.

وأما العشاء فلا حاجة له طبعاً فالبلاد تمر بأزمة وأفواه الشبّيحة والقوى الأمنية والمخبرين والمطبلين التي لا تشبع أولى من هؤلاء المخربين الإرهابيين الذين يطالبون بكل وقاحة بالحرية والإصلاح!.

كان ثائر يسمع أصوات المعذبين وصراخهم منذ أن دخل الزنزانة بعد حفلة التعذيب إلى أن خرج إلى التحقيق ولم يعد يسمع إلا صراخ نفسه حتى أغمي عليه قبل أن يوجه إليه أي سؤال.

ولما استيقظ وجد نفسه أمام شخص كأنه الشيطان، فبادره بقوله: أتعترف أم نعيد الكرة؟

– أعترف بماذا؟

– لا تحاول أن تظهر نفسك بمظهر البريء، نحن نعرف كل شيء عنك.

– إذا كنتم تعرفون كل شيء عني لماذا تطلبون مني الاعتراف؟

– اخرس… هذا ليس من شأنك، أنت هنا لتجيب عن الأسئلة لا لتسأل، لقد قبض عليك وأنت بالجرم المشهود.

– هل يعد التظاهر جرماً؟ القانون يكفل لي حق التظاهر.

– القانون نضعه تحت أقدامنا متى أردنا، وكل القوانين تتوقف عند أسوار الأفرع الأمنية، لا قانون هنا إلا ما نريد… والآن من حرضك على الخروج في المظاهرة؟

– لم يحرضني أحد، كنت في المسجد ولما خرجت سمعت الناس يتظاهرون واشتركت معهم.

– بماذا كنتم تهتفون؟

– بهتافات عادية.

– مثل ماذا يعني؟

– لا أدري، نسيت.

– ولكني أدري… كنتم تقولون: “الشعب يريد إسقاط النظام” يا كلاب، ماذا أنتم لولا النظام يا خونة يا عملاء، النظام جعلكم بشراً يا بقر، النظام وفر لكم الماء والكهرباء والمدارس والجامعات، ماذا تريدون أكثر من هذا؟!!

ومضى المحقق في كلامه وكأنه يشرح درساً من دروس مادة القومية التي تلازم الطلاب من الصف الرابع الابتدائي حتى السنة الجامعية دون أن يستفيدوا منها حرفاً، ففي كل عام الحديث عن حزب البعث والحركة التصحيحية وحرب تشرين والقائد الخالد ونظرته الثاقبة التي تثقب الحاضر لتبصر المستقبل وسياسته الحكيمة التي أدت إلى أن تحسد البشرية بأسرها الشعب السوري على هذا القائد الفذ الذي لا يولد مثله إلا كل ثلاثة ملايين سنة!.

كان ثائر صامتاً يدير الأمر في رأسه، أيظل صامتاً لينجو من مضاعفة العذاب أم يتكلم ولو أدى ذلك إلى تهييج الضباع وتوحشها؟، وأخيراً غلب الأمر الثاني على الأول فاستجمع شجاعته وقال للمحقق: “نريد الكرامة، نريد الحرية، نريد أن نعيش كالبشر”.

ذهل المحقق وهو يسمع هذا الكلام من ثائر، وظل ساكناً نصف دقيقة محاولاً أن يمتص الصدمة التي لم يعتد أن يلامس أدنى منها فضلاً عن مثلها.

لقد كان معتاداً دائماً على سماع توسلات المعذبين وهو يضربهم ويشتمهم فكيف يجرؤ هذا الصعلوك أن يخاطبه بهذه الطريقة الوقحة؟!!

وانتفض المحقق وهو يصرخ بكلام لا يفهم لشدة غضبه، ثم انهال على ثائر ضرباً حتى غاب عن الوعي…

ولما استيقظ وجد نفسه في ممر طويل يقف فيه عدد من السجناء ووجوههم إلى الحائط، وهؤلاء هم المعاقبون الذين لا يسمح لهم بالنوم أو الجلوس طوال مدة عقابهم، بل يظلون وقوفاً على أقدامهم طوال الوقت، ولا يستثنى من ذلك إلا ذهابهم إلى دورات المياه ثلاث مرات في اليوم لا يسمح لأحدهم سوى بدقيقتين في الداخل، وكثيراً ما كان يسقط أحد المعاقبين أثناء وقوفه لشدة الإرهاق والإعياء فينقض عليه السجانون ويوسعونه ضرباً حتى يقف مجدداً.

كان ثائر قد صار أحد هؤلاء المعاقبين عندما سمع صوت السجان يصرخ فيه ليأخذ مكانه واقفاً أمام الجدار، وبين الفينة والأخرى كان السجان يتفقد المعاقبين، فمن وجده واقفاً ليس بهيئة الاستعداد صفعه على قفاه صفعة مقرونة بسبّة قذرة كشبيحة النظام أو كإعلامييه الذين فاقوا الأسود وسجاح ومسيلمة كذباً وإفكاً.

ظل ثائر ستة أيام واقفاً على رجليه معاقباً لا يشعر بالراحة إلا عندما يغمى عليه ويغيب عن الوعي، وكان ما يؤلم ثائر أكثر من وقوفه على قدميه هو تلك الأغاني السمجة الصاخبة التي تمجد رأس النظام وتفديه بالروح والدم بشكل يبعث على الغثيان ويشعر المرء بحاجته إلى التقيؤ.

بعد أن انتهت مدة العقوبة سيق ثائر إلى مهجع جماعي، وما إن رمي فيه حتى أخذ يتمنى أن يعود إلى المنفردة.

كان طول المهجع عشرة أمتار وعرضه ثمانية، وفي زاويته خلاء وحمام، وفي المهجع ما يزيد على ستين سجيناً في جو خانق ورائحة كريهة لا تطاق ورطوبة عالية تجعل التنفس عسيراً، فضلاً عن أعداد هائلة من القمل أخذت مواقعها في جسد كل سجين وثيابه.

اندس ثائر بين السجناء وحدد له مكاناً ضيقاً ليجلس فيه، وفي الليل ينام جزءاً منه ثم يقف ليفسح مكاناً لينام من كان واقفاً، والنوم نهاراً محرم على السجناء.

أخذ ثائر يتعرف إلى بعض السجناء ويسألهم عن سبب القبض عليهم، فكان معظمهم قد قبض عليه أثناء المظاهرات، وهناك عدد من السجناء لا علاقة لهم بشيء غير أن بعض خصومهم قد كتبوا تقارير فيهم ورفعوها إلى أفرع الأمن يتهمونهم فيها بدعم المخربين والمشاركة في المظاهرات، فكان هذا سبباً كافياً عند النظام ليزج بهم في أقبية فروعه المظلمة كقلوب أزلامه.

وأدار ثائر طرفه في المهجع، فرأى رجلاً في العقد الرابع من عمره، بهي الطلعة، يشع الذكاء من عينيه، قسمات وجهه تكشف عن إرادة صلبة ونظراته توحي بعزيمة جبارة قوية، رغم آثار التعذيب التي انتشرت على جسمه ورغم الكسور التي أصابت أصابعه جميعاً.

اقترب ثائر من هذا الرجل، وأخذ يسأله عن حاله، فعلم أنه طبيب يكنى بأبي عمار، وأن سبب القبض عليه هو مساعدته بعض المتظاهرين الذين جرحوا أثناء المظاهرات ثم جاؤوا إلى بيته ليعالجهم ويقدم لهم الإسعافات اللازمة.

وأحس ثائر بالعبرة تخنقه حينما قال له ذلك الطبيب باسماً بسمة يعلوها الألم: وعقوبة لي على علاجي لأولئك المساكين قام المحققون بتكسير أصابعي وهم يصرخون فيّ قائلين: ذق عاقبة مساعدة المخربين يا صاحب المهنة الإنسانية.

حاول ثائر أن يخفف عن الطبيب ويواسيه ويحثه على الصبر والتحمل، فقاطعه الطبيب قائلاً: هذا نظام مجرم فاسد قد ضرب جذوره في الأرض ورسخها عبر ثلاثين سنة، ولا بد من التضحيات والمحن والبلاء، ولن أندم على خير فعلته أو جهد بذلته في إنقاذ المتظاهرين الشرفاء، فهذا واجب أملاه عليّ ديني وضميري، فليفعل الظالمون ما بدا لهم.

وامتلأ صدر ثائر بالعزة والقوة والشجاعة وهو يسمع هذه الكلمات، ونسي الآلام التي أنهكت جسده، وشعر أنه لم يعد يعبأ بكل ما يكتنفه من الشدائد والمشاق، واستولت على تفكيره فكرة واحدة هي الانتقام من هذا النظام القذر وإسقاطه والثأر للأبرياء، وأخذ يردد قول أحمد شوقي:

وللحرية الحمراء باب

بكل يد مضرجة يدق

وذات يوم فتح باب المهجع، ورمي فيه رجل يظهر عليه أنه من طلبة العلم، وكان الدم يسيل من فيه بغزارة، ظن السجناء أن سبب النزيف تكسير بعض أسنانه أثناء التعذيب، وأخذوا يسألونه: “ما بك؟” ولكن الرجل كان صامتاً لا ينطق بحرف، ألحوا عليه في الأسئلة وهو لا يجيب ولا يتحرك من مكانه لا يتقدم ولا يتأخر ولا يجلس ولا يتزحزح قيد أنملة، فأدركوا أن ثمة شيء غير طبيعي قد جرى لهذا السجين المسكين.

استمر الدم ينزف بغزارة، فعزم بعض السجناء على معالجة هذا المسكين ولو بالقوة، فأمسكه أربعة منهم بينما تولى خامس فتح فمه ليعرف سبب النزيف، وما إن فتح فمه حتى صرخ صرخة رعب وابتعد مذعوراً، فسأله رفاقه مندهشين: “ما بك؟!” فقال لهم في رجفة: “لسانه مقطوع!!”.

شُدِه السجناء لدى سماعهم هذا الخبر المريع، أي إجرام ووحشية هذه التي وصل إليها هذا النظام اللعين!!… نظام يقطع ألسنة معارضيه حقيقةً لا مجازاً ثم يتشدق بأن حرية الكلمة متاحة في البلاد وأنه لا يحارب سوى عصابات من المخربين والإرهابيين.

أولى السجناء عنايتهم هذا السجين الجديد، وكانوا يطحنون له الطعام ثم يخلطونه بالماء ثم يتلطفون به حتى يتجرعه، وما زالوا كذلك حتى تحسنت حالته وثاب إليه رشده واسترد شيئاً من صحته وعافيته فأخذ يقص على السجناء خبره، وبما أن الأقلام والأوراق ممنوعة في الأفرع الأمنية فقد أخذ الرجل يخط بإصبعه على الأرض كلمة كلمة.

عرف السجناء أن اسمه الشيخ أحمد، وأن سبب اعتقاله هو خطبة خطبها بعنوان: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، وذكر فيها حقوق الرعية وواجبات الرعية وحرمة الاستبداد وعاقبة الظلم والعسف، وما إن انتهى من أداء صلاة الجمعة وخرج من المسجد حتى كانت عناصر الأمن في انتظاره لتطلب منه مرافقتهم إلى الفرع لمدة خمس دقائق ليسألوه بعض الأسئلة ثم يخلوا سبيله.

ولما وصل إلى الفرع كان في استقباله ضابط برتبة عقيد، أخذ يحدثه عن الوطن وحب الوطن والقائد وسياسته الحكيمة ومواقفه الشجاعة وقراراته الجريئة وقيادته محور المقاومة والممانعة وأن سوريا بهذه القيادة تعتبر عقبة كؤوداً في وجه المخططات الاستعمارية والمشاريع الصهيونية، ولذلك فإنها تتعرض لمؤامرة كونية كبرى يقودها من خلف الكواليس أمريكا وإسرائيل وينفذها ثلة من الأغرار والمجرمين والمخربين والمنتفعين والإرهابيين، ثم طلب الضابط من الشيخ أن يجعل خطبه داعية إلى الوقوف صفاً واحداً خلف القائد المفدى بشار الأسد والتعاون مع الجهات الأمنية المختصة في الإبلاغ عن المخربين والإرهابيين الذين يسعون لدمار البلد.

ولما أراد الشيخ أن يتكلم مد الضابط يده مصافحاً معلناً انتهاء المقابلة قائلاً: ننتظر منكم توجيه الناس في خطبكم للتصدي للمؤامرة الكونية التي تتعرض لها سورية.

وفي الجمعة التالية كانت خطبة الشيخ أحمد بعنوان: “سبيل المصلحين وسبيل المفسدين” تكلم فيها عن طرق الإصلاح وأساليبه وقارنها بنهج المفسدين الذين يصمون الآذان عن سماع الناصحين ويتهمونهم بأنواع التهم ويلصقون بهم شتى الافتراءات والأكاذيب.

وبعد خروجه من المسجد كانت سيارة الفرع ذاتها في انتظاره، وتكرر ما حدث في الأسبوع الماضي ولكنه لما أدخل على الضابط رآه والشرر يقدح في عينيه والغضب قد استحوذ عليه، فالتفت إليه ثم صرخ فيه: “عاملناك بالحسنى فلم يجدِ ذلك معك نفعاً وسنعاملك الآن بالطريقة التي نعامل بها الإرهابيين لأنك لست سوى واحد منهم، ثم أمر بتعذيبه ألوان العذاب، وبعد الفراغ رمي في أحد المهاجع الجماعية وكان له دور في تصبير السجناء وتثبيتهم وحثهم على الصمود وتحريضهم على مواصلة الطريق إن كتب الله لهم الفرج والخروج من السجن.

غير أن أحد الجواسيس الذين دسهم النظام بين السجناء وشى بالشيخ أحمد فأخرج إلى الضابط الذي قال له: لسانك قد طال جداً ونحن لدينا العلاج، ثم أمر بقطع لسانه وتحويله إلى مهجع آخر.

اختلطت مشاعر الحزن والغضب في صدر ثائر، فلم يدر أيبكي إشفاقاً على هذا الرجل أم يصرخ غضبا على أولئك المجرمين الذين تجردوا من الإنسانية حتى لم يبق في كيانهم منها ذرة، وانسلخوا من الأخلاق حتى لم يبق في إهابهم منها سوى المرذول والمستقبح منها، وانخلعوا من كل صفات حميدة أو خصال مجيدة حتى تمحضوا شروراً خالصة وآثاماً صرفة لا يخالطها من الخير قليل أو كثير.

كانت الأيام تتعاقب وثائر في سجن لا يصلح زريبة للحيوانات، ولكنه كان يعلم أن النظام فعل ذلك ليقضي على آمالهم وطموحهم، ويجعل فكر السجناء منحصراً في أقل ضرورات الحياة من المطعم والمشرب والمنام بعد أن كان يطالب بالحرية وإسقاط النظام وإزاحة الكابوس الذي جثم على صدور الأمة ثلاثين عاماً متواصلة.

وأشد ما كان يحز في نفس ثائر هو أولئك السجانون الجهلة الذين لا يحسن أحدهم أن يصوغ جملة مفيدة، ومع ذلك أطلقت أيديهم في تعذيب السجناء بوحشية تزداد مع ازدياد المكانة الاجتماعية أو الشهادة العلمية للسجين، وكأن النظام يقول لهم: “من رضي أن يعيش ذليلاً تحت سلطتي رفعته على رقاب الشعب ومكنته من فعل ما شاء ولو كان أحمق من هنبقة وأعيا من باقل، ومن رفض ذلك سلطت عليه الجهلة والأغبياء ولو كان أذكى من إياس بن معاوية وأفصح من سحبان”.

مضى على ثائر ثلاثة أشهر ونصف في الأسر ثم تقرر إطلاق سراحه، ولم يكن الزبانية يوم إطلاق سراحه أقل إجراماً منهم يوم القبض عليه، فقد جمع السجناء الذين تقرر إطلاق سراحهم في باحة واسعة ثم وقف أحد الضباط فيهم فقال:

“أنتم أجرمتم بحق بلدكم وسلكتم سبيل المفسدين، ولكن السيد الرئيس بسعة صدره ووفور حلمه وعظم رحمته قرر العفو عنكم ومنحكم فرصة جديدة لتكونوا مواطنين صالحين وتساعدونا في القضاء على المؤامرة الكونية التي تتعرض لها سوريا بلد المقاومة والممانعة.

ليعد العامل إلى عمله والطالب إلى جامعته والموظف إلى وظيفته، وإياكم والعود إلى حبائل الفتنة التي نجوتم منها بحسن سياسة القيادة.

ونحن نعلم أنكم تعرضتم لبعض الشدة عندنا ولكن يجب أن تعلموا أن هذا كان لمصلحتكم كما يفعل الطبيب الجراح عندما يبتر العضو المريض كي لا يسري الداء إلى سائر الجسد، فعليكم أن تشكرونا على ذلك” ثم صاح فيهم: والآن بصوت واحد من هنا إلى أن تخرجوا عليكم أن تهتفوا: “بالروح بالدم نفديك يا بشار”، “الله سوريا بشار وبس” مفهوم؟

ولم يجد السجناء بداً من الهتاف كما أمرهم الضابط، وعلى بوابة الفرع كانت آلة النظام الإعلامية تصور مشهد السجناء الذين غرر بهم وهم يهتفون للنظام بعد أن شملهم السيد الرئيس بعطفه وعفوه!.

أما ثائر فقد لبث في بيته شهراً حتى استرد عافيته ورجعت إلى جسده بعض قواه، ثم اتصل ببعض أصدقائه الذين حملوا السلاح وبدأوا الطريق قبله، فنسق معهم ليلتحق بهم، وبعد بضعة أيام كان ثائر في المعسكر يستلم سلاحه وقد أقسم ألا يضعه حتى يسقط النظام أو يسقط شهيداً دون ذلك.

انتهت.


لتحميل نسخة من مجلة بلاغ اضغط هنا 

لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد 18 اضغط هنا 

Exit mobile version