المجاهد المتخاذل (2) – مجلة بلاغ العدد ٦٦

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛

كنا قد تكلمنا في المقال السابق عن الخذلان تعريفه وبعض أنواعه وبعض من وقع فيه من المجاهدين والنخب والكوادر والمثقفين ولعظم الموضوع كان لا بد من مقال ثان لتبيين عظيم هذه الجريمة “الخذلان” وما يترتب عليها من إهدار دين وأممٍ وأنفس وأموال وأعراض ودماء ومقدسات.

الكلُ مشتركٌ في جريمة الخذلان ولكن كان العنوان “المجاهد المتخاذل” لأنه القمة رأس الهرم العالي ذروة سنام الإسلام، هو المجاهد الذي ضحى وبذل وهجر دنياه وترك أهله لأجل نصرة الدين والمستضعفين من المسلمين فكان من غير المقبول تراجعه وخذلانه وسكوته عن الجرائم المنتشرة في الأمة من تضييع الحقوق ووجود مظالم، فكان لا بد من تذكيره بواجبه المنوط به وهو في ذروة السنام لتحقيق مهمته التي خرج إليها ابتداء ثم تذكير المسلمين بما عليه تجاه أمتهم.

لا شك أن الخذلان جريمةٌ لا تقل في الحجم والمكانة عن جريمة المجرم المعتدي الصائل على الدين والأرض والعرض، ثم هي مشاركة مع المجرم في إجرامه، ثم بعد ذلك هي ضوءٌ أخضرُ للمعتدي للتمادي في إجرامه، وفي النهاية سماحٌ له بتكرار الجريمة في زمان ومكان آخر ومع ضحيةٍ جديدةٍ.

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن حال خذلاننا على حقيقته في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: «يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها»، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال: «لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ» وصدق بأبي هو وأمي فهذا هو حالنا اليوم ترى الأعداء تجمعوا تكالبوا تداعوا تكاثروا تجرأوا تمادوا تناصروا حين رأوا تخاذلنا في النصرة والتساعد والتعاضد والتكاتف والانشغال بالشهوات وبعدنا عن الآخرة وحبنا للدنيا وكراهيتنا للموت.

ولو نظر الباحث عن الحق والنصرة والخير في العصر الحديث عن الأحداث المتكرر كل عدة سنوات وما يمر به عالمنا العربي والإسلامي لاستبان له حجم الخذلان المخزي وأي حال متردٍّ وصل إليه المسلمون في شتى أصقاع الأرض بسبب الخذلان وقلة التناصر والتعاضد والتساعد، من بورما إلى الإيغور ثم أرض التركستان مرورًا بالهند إلى أفغانستان والشيشان وصولًا إلى العراق ثم سوريا انتهاءً بفلسطين التي حصلت فيها أعظم جرائم الخذلان في العصر الحديث من الدول العربية الإسلامية في الوطن العربي التي تعرضت للقتل والذبح والتشريد والخذلان على مدى قرون.

ومن لم يتكالب الأعداء عليه بالاحتلال الخشن قتلًا وتشريدًا وذبحًا وتنكيلًا واحتلالًا؛ تكالبوا وتمادوا عليه بالاحتلال الناعم بتولية التابعين لهم على السلطة وخيرات البلاد فعاثوا فيها فسادًا وسرقة وخطفًا واعتقالًا للناصحين والمصلحين والمشايخ وأهل العلم، وما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب الخذلان وانشغال الشعوب ببهرج الدنيا وملذاتها وكراهية الموت ونسيان الآخرة.

وكما أخذ الله الميثاق على أهل العلم والدين أن ينصروا الأمة بالعلم والتبيين لامتلاكهم الحجة والدليل {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، أخذ أيضًا على المجاهدين الميثاق بنصرة المستضعفين والدفاع عن الدين {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] فكيف تتخاذل أيها المجاهد بعد هذا!!!

ويغلظ الميثاق ويشتد عندما يجمع المسلم العلم مع العمل بالجهاد في سبيل الله فيجتمع علمٌ وجهادٌ وعملٌ.. كتابٌ وسيفٌ.. علمٌ وعملٌ.. قولٌ وفعلٌ.. رباط الثغور وخطّ السطور..

وما أُتي الإسلام اليوم من باب خُذل فيه المسلمون كما أُتي من باب ترك أهل العلم العمل وخاصة المشايخ الذين يعلمون ولا يعملون، الذين يتكلمون بوجوب الجهاد ولا يجاهدون، الذين يدعون المسلمين إلى النفير وهم قاعدون عنه، كمن يدعو الناس لجمع الذهب والفضة ويجلس هو فقيرًا لا يجمعه، فهؤلاء من أكبر المخذلين في الوقت الحالي.

وقد اشتُهرت عبارة: (الأمر ما ترى لا ما تسمع) ومعلومٌ مشهورٌ أن الفعل مؤثرٌ في الناس أكثر من القول، والواقع العملي الحركي أكثر تفاعلًا مع الناس من الواقع الافتراضي (الكلام والنت ومواقع التواصل)، وكذلك تفاعل الناس مع الأفعال على الأرض أكثر منها من تفاعلهم مع الأقوال، وكذلك المتكلم مع عملٍ وتجربةٍ يكون أقوى وأشد تأثيرًا ولهجةً في السامعين من المتكلم غير العامل، وهذا المتكلم العامل من أفضل المشايخ العالمين العاملين المخالف للمتخاذلين تأثيرًا في المجتمع والأمة، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] أما المتخاذلون فلسان حالهم يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون وقد أنكر الله عليهم صنيعهم فقال: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.

يروى عن الحسن البصري رحمه الله أنه جاءه عبيد البصرة يشكون ما يلقونه من ظلم أسيادهم ويطلبون منه أن يخطب في الناس عن فضل عتق الرقاب، انتظر العبيد خطبة واثنتين وثلاثة وأكثر والحسن البصري لا يخطب عما طلبوه منه، ثم بعد عامٍ كاملٍ يصعد الحسن البصري المنبر ويخطب عن فضل عتق الرقاب فلم يبق أحدٌ في البصرة حضر الخطبة إلا سارع إلى إعتاق عبيده، اجتمع العبيد وسألوا الحسن البصري عن سبب تأخر الخطبة كل هذه المدة، فأجابهم: كيف أدعو الناس إلى شيءٍ لم أفعله ولا أعرف معنها ووقعه في النفوس، وليس عندي عبيدٌ ولا مالٌ لأشتري العبيد ثم أعتقهم، فاضطررت للعمل وكسب المال ثم شراء عبدٍ ثم بيعه حتى أكون صادقًا مطبقًا فيما أدعو الناس إليه فيخرج الكلام من القلب ليصل إلى القلب.

لذا..

لا تأمر الناس بالصدقة، بل أخرج المال من جيبك وتصدق..

لا تأمر الناس بالجهاد وأنت قاعد، بل احمل سلاحك وانفر في سبيل الله..

لا تأمر الناس بالحسبة وأنت مليء بالمعاصي، بل ابدأ به في نفسك ثم بمن حولك..

لا تأمر الناس بالتظاهر ضد الظلم والفساد وأنت في صف الظالم أو ساكت منعزل، بل احمل رايتك واصرخ بأعلى صوتك في الساحات..

عندها سترى نتيجةً عجيبةً في استجابة الناس والتطبيق العملي للنصرة والبذل والعطاء، ومن دون العمل فالكلام تخذيل..

ودائمًا ما ربط الله عز وجل في كتابه بين العلم والعمل وأسوأ الناس من يعلم ولا يعمل قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ َتعْقِلُونَ} [البقرة:44]. ويقول صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالعالم يوم القيامة، ويلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيطوف به أهل النار فيقولون: ما لك؟ فيقول: كنت آمر بالخير ولا آتيه، وأنهى عن الشر وآتيه» متفق عليه.

قد يقول البعض: نُصرت غزة على فتراتٍ من الزمن من قبل بعض القوات العثمانية والأردنية والسورية والمصرية وغيرهم في بدايات دخول الصهاينة إلى فلسطين، نعم؛ ولكن من رأى هذه التضحيات البسيطة مقابل الخذلان الكبير رأى أن الوقع على نفس المخذول أكبر بكثيرٍ من هذه النصرة البسيطة وكثرة كلام مع انعدام فِعال، ورغم بساطة وقلة هذه الأفعال إلا أنها عند الله عز وجل قد تعدل وزن وأجر اجتماع الأمم قاطبةً حين تخاذلوا وتراجعوا.

ومن التخاذل المقيت أن تنصر أخاك بما ليس يحتاجه أو بما هو مستفيضٌ عنده أو هو مستغنٍ عنه، أو تمنع عنه ما يحتاج وما هو متواجد لديك بكثرة وهذا عين ما فعلته بعض الحكومات الخليجية حين أرسلت الخضار والطعام إلى كيان صهيون في بداية الحرب بينما أرسلت إلى المسلمين في قطاع غزة أكفان رجالية ونسائية!!!

وهل أهل غزة بحاجة أكفان!!!

أم نسينا أن الشهيد يدفن في ملابسه على حاله التي استُشهد فيها لا يحتاج إلى غسلٍ ولا صلاةٍ ولا تكفينٍ!!!

وما فائدة هذه الأكفان!!! وما معنى إرسالها في هذا التوقيت من الحرب!!! والناس تموت قتلًا وجوعًا وعطشًا وحصارًا، وإن لم يكن هذا خذلانًا ومن أشد وأسوأ أنواع الخذلان فما هو الخذلان!!!!!!

يقول المتنبي:     

ووضعُ الندى في موضعِ السيفِ بالعلا *** مُضِرٌّ كوضعِ السيف في موضع الندى

أي يجب الانتباه في التعامل مع كل أمرٍ بما يناسبه من حاله التي هو عليها، فلا تأتي لمن يغرق لتسقيه الماء بدل إنقاذه بحجة أنه عطشان لم يشرب منذ ساعات بينما الأولى إنقاذه من الغرق في بحر تتلاطم أمواجه وهذا من الخذلان.

فبينما ينتظر أهلنا ومجاهدونا في فلسطين تدخل الجيوش العربية أو تحرك الشعوب المسلمة لكسر الحدود وفك القيود وإرسال شحناتٍ حربيةٍ وعتاد وعدة عسكرية ومدد من الرجال والمال، أو شحنات من الطعام والشراب لإيقاف شلال الموت من الجوع في ظل الحصار المفروض على قطاع غزة أو القتل على أوقع الصواريخ والمتفجرات، لتصل شحنات من الأكفان ومنوعة بين رجالية ونسائية!!!! خذلان ما بعده خذلان.

ويكفيك أن تعلم أن خِذْلَان المسلمين في الجهاد وعدم نصرتهم صفةٌ مِن صفات المنافقين، قال الله تعالى فيهم: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران:176].

الخذلان من أعظم الذنوب والمعاصي، وإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارًا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته، فاحذر أخي المجاهد.

ومن أعظم صور الخذلان حين يقع الظلم على عرض المسلم خاصة دون ماله ودمه:

روى الهيثمي عن جابر بن عبد الله وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منِ امرئٍ يَخْذُلُ مسلمًا في موطنٍ ينتقَصُ فيه من عرضِهِ، ويُنْتَهَكُ فيه من حرمَتِهِ، إلَّا خذَلَهُ اللهُ في موطِنٍ يُحِبُّ فيه نُصْرَتَهُ، وما مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مسلِمًا في مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فيه من عِرْضِهِ، ويُنْتَهَكُ فيه من حرمَتِهِ، إلَّا نصرَهُ اللهُ في موطِنٍ يُحِبُّ فيه نُصْرَتَهُ» فحاذر أن تخذل مسلمًا حين يتعرض لعرضه فهذا مما حذر منه الشرع.

أخيرًا؛ الخذلان دينٌ ووفاء، فمن تجرع منك كأس الخذلان لا بد سيُذيقك منه عاجلًا غير آجل، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلمًا في موطنٍ يُنتَقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا خذله اللهُ تعالى في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه، وما من أحدٍ ينصر مسلمًا في موطنٍ يُنتقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا نصره اللهُ في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه»، فاختر لنفسك ما تحب أن تلقى من الناس في الدنيا أيام الضيق والشدائد وما تحب أن تلقى الله عز وجل به يوم القيامة.

اللهم اجعلنا مجاهدين صادقين حقًا هداةً مهديين غير ضالين ولا مضلين ننصر دينك وعبادك، إنك على كل شيءٍ قديرٌ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.

لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا 

Exit mobile version