المجاهد الأسير – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٥٣

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يعرض للمجاهد في سبيل الله أحوال كثيرة، كالمرض والجوع والعطش والتعب والسفر والسهر والوهن والركون للدنيا والإصابة والفقد، وحديثنا اليوم عن أخطر ما قد يعرض له في مسيرة جهاده، فيعرضه لفتنة عظيمة، إن صبر؛ فاز ونجى، وإن فُتن؛ – لا قدر الله – خاب وخسر، ألا وهي الأسر.

*الأسير: هو الحربي المأخوذ في حال الحرب.

أو: الرجل الذي يقع في قبضة عدوه وهو حي في حال الحرب، ويدخل فيه بوضعه اللغوي: المُشرك المحارب الذي يؤخذ قهرًا، وكذلك المحبوس من أهل القِبلة، قال الطبري: “هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القِبلة يؤخذ فيحبس بحق”.

والأصل في مقاصد الشريعة أن الأسر خفيف يسير، أكد ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم على مدار سنين جهاده، فإما إطلاق سراح الأسرى بالعفو والمنّ، وإما إطلاق سراحهم بالفداء؛ بالمال أو المنفعة أو المبادلة، وشرعه ربنا بقوله: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا). وهكذا يكون تعامل المسلمين مع أسرى الكفار عندهم، أما تعامل الكفار في سجونهم أو مندوبيهم في أرض الإسلام مع أسرى المسلمين؛ فإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن على حال أسرانا ومعتقلينا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

*أمر الله عز وجل بالجهاد في سبيله نصرة للمستضعفين، وأشد المستضعفين هم الأسرى، قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)، فقد يتحرك الرجال والنساء والولدان المستضعفون من غير الأسرى والمعتقلين، فيطعمون أهلهم أو يعملون أو يتخفون أو يسيحون في الأرض هجرة أو هربا من أرض الظلم والاستضعاف إلى أرض يجدون فيها الراحة والأمان.

وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بتحرير المعتقلين وفك الأسرى من هؤلاء المستضعفين، فقد ورد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكوا العاني، وأطعموا الجائع، وعُودوا المريض»، العاني: أي الأسير؛ رواه البخاري.

 

وورد أيضًا؛ “وفكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات، ومن افتك أسيرًا من الأسر بغير إذنه يرجع عليه بما افتك به، وإن لم يقدر على فك المسلم المأسور إلا بمال يعطاه أهل الحرب كان إعطاؤهم ذلك المال حتى يفك ذلك الأسير واجب بالإجماع”، الشامل في المسائل.

وقد يكون تقصيرك في مدافعة الكفار والظالمين، وعدم تبيين كفرهم أو ظلمهم سببا للفتنة والعذاب في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا أن تكون تحتهم فتسكت عنهم وتكثر سوادهم، أو تصير أسيرًا عندهم يسومونك سوء العذاب فتترك نصرة الحق وتبيينه للناس، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) يقول السعدي في تفسيره رحمه الله: “هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: (فِيمَ كُنْتُمْ) أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم. (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض) أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة. ولهذا قالت لهم الملائكة: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله، كما قال تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم: (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

والواجب علينا تجاه أسرانا معتقلينا:

– العمل على فك أسرهم:

أ _ بالكلمة: عَنْ أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه عنِ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عند سلطان جائرٍ» رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسنٌ. هذه الكلمة تكون عند الجميع سواء كان كافرًا أو ظالمًا أو سلطان أو غير ذي سلطان.

ب_ بالقتال: قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا).

ج _ بالمال: قال ابن حزم في مراتب الإجماع: “واتفقوا أنه إن لم يقدر على فك المسلم المأسور إلا بمال يعطاه أهل الحرب أن إعطاءهم ذلك المال حتى يفك ذلك الأسير واجب”.

د _ بالمبادلة: “واسْتَوْهَبَ مِن سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ جارِيَةً نَفَّلَهُ إيّاها أبو بكر في بَعْضِ مَغازِيهِ فَوَهَبَها لَهُ، فَبَعَثَ بِها إلى مَكَّةَ، فَفَدى بِها ناسًا مِنَ المُسْلِمِينَ، وفَدى رَجُلَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِن عُقَيْلٍ، ورَدَّ سَبْيَ هَوازِنَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ القِسْمَةِ، واسْتَطابَ قُلُوبَ الغانِمِينَ، فَطَيَّبُوا لَهُ، وعَوَّضَ مَن لَمْ يُطَيِّبْ مِن ذَلِكَ بِكُلِّ إنْسانٍ سِتَّ فَرائِضَ.

– تفقد أحوال الأسرى ومتابعة قضاياهم حتى الإفراج عنهم: فعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه»، قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وهو ما تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته.

– تفقد أحوال أهل الأسير ومن يعول:

عن زيد بن خالد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز غازيًا في سبيل الله؛ فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير؛ فقد غزا» متفق عليه.

ولعل من أفضل ما تميز به الجهاد الأفغاني في مسيرته هو فكاك الأسرى وتحرير المعتقلين، فقد كانت أولى أولويات مطالب الوفد الأفغاني عند الجلوس مع أعدائهم في مفاوضاتهم قبل أي مطلب؛ هو المطالبة بالأسرى والمعتقلين، حتى أنهم حرروا عددا من المجاهدين والأسرى، منهم الرجل الثاني في حركة طالبان المجاهد الأسير “الملا عبد الغني برادر”، ليخرج من الزنزانة مباشرة إلى قاعة المفاوضات فيطالب بإخراج المزيد من المجاهدين المعتقلين والأسرى، انتصرت طالبان بالتزامها أمر ربها، وكان ملف الأسرى الأبرز في انتصارها.

 

وكذلك الجهاد الفلسطيني تميز بكثرة تحرير أسراه، حتى باتت عبارة “الأسير المحرر” عبارة مشهورة مطلقة على أغلب قادات الحركات في فلسطين والتي لطالما تكررت على أسماعنا، كناية عن أنه أسير فلسطيني سجن ثم حرر، وربما أسر وحرر عدة مرات، ومن أشهر صفقات فكاك الأسرى في فلسطين عملية الخليل، حيث أفرج الصهاينة عن 1155 أسيرًا مقابل ثلاثة جنود.

عمليات تحرير وتبادل الأسرى ترفع الروح المعنوية عاليا لدى المجاهدين، وتبث روح الأمل لدى المسلمين، وتجدد انتفاضة المقاومة لدى الأمة، وترسخ فكرة أن الأسر لن يدوم طويلًا بفضل الله عز وجل ثم بفضل المجاهدين الذين يواصلون الليل بالنهار لإخراج أسراهم من سجون الكفار والأعداء والظالمين..

لذا فلنحْذر من سوء عاقبة خذلان المسلمين عامة وأسرى المجاهدين خاصة، فهم أهل العز في زمن الذل، وأصحاب القوة في زمن الضعف، هم النزاع من القبائل، تركوا أهلهم وديارهم وأموالهم وفلذات أكبادهم رغبة فيما عند الله من الأجر والثواب، ولأجل عدم خذلان المسلمين والمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، فكيف نخذلهم!!؟

قال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ مسلم يخذل امرئا مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه؛ إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وتنتهك فيه حرمته؛ إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته».

وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة».

عاقبة الخذلان تعود على المتخاذل لا على طالب الإعانة، فأصحاب الحق منصورون منصورون، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَزالُ طائفةٌ مِن أمَّتي مَنصورينَ لا يَضرُّهم مَن خذلَهُم حتَّى تقومَ السَّاعةُ».

فإياكم أن تخذلوا الأسرى والمعتقلين في سجون الكفار والطغاة والأنظمة العميلة المستأجرة، التي تُعمل الأسر والاعتقال لقهر شعوبها ونخبة أبنائها.

عاقبة الخذلان خذلان، وعاقبة النصر نصر، فاعملوا واصبروا وصابروا ورابطوا واحتسبوا عملكم وجهادكم وما تبذلونه في فكاك الأسرى والمعتقلين أنه جهاد في سبيل الله وأنكم مجزيون به.

وقد طرأ على زماننا أجهزة أمنية عميلة تتكلم باسم الإسلام والجهاد، فيقتلون ويعتقلون من المسلمين والمجاهدين ما تعجز عن فعله جيوش ومخابرات الدول مجتمعة، بحكم أن هذه الأجهزة الأمنية تدّعي “الإسلام” وتتواجد في بلاد المسلمين والمجاهدين ومن أبناء جلدتهم، تعيش بين أظهرهم وتعلم طريقة تفكيرهم وتحركاتهم وتواجدهم على الأرض، فتكون أشد إثخانًا وإيلامًا فيهم من الأعداء.

لذلك لن يجد العدو أفضل من عميل خسيس جبان، يخرج في أرض الإسلام وبين أظهر المجاهدين، على دينهم ويتكلم باسمهم فيعمل فيهم الاعتقال والأسر، ومادام أنه من أبناء جلدتهم فحرب المجاهدين وتحريضهم ضده أضعف من العدو الخارجي الكافر الواضح.

اللهم نسألك نصرًا مؤزرًا، وفرجًا عاجلًا، وفكاكًا بالعز لمجاهدينا ومعتقلينا في مشارق الأرض ومغاربها، وأن تحيطهم بعنايتك ورعايتك وحفظك وأمنك من غدر الغادرين ومكر الماكرين وفُجر السجانين، إنك ولي ذلك والقدر عليه، والحمد لله رب العالمين.

Exit mobile version