ليست فتوى خاصة بل بيان عام مختصر، يرفض الاجتزاءَ والتهاونَ والتنطُّع.
أردتُ أن أكتب عن هذا الموضوع باختصار، فلم أنتهِ من المقدمة إلا وقد طال ما كتبت، فخشيت ألا تُقرأ هذه الكلمات فاختصرت أكثر.
لا أريد أن أدخل مع أحد في جدالٍ عقيم، ولا أهدرُ حق أحدٍ وواجبه في النقاش المبني على الحُجَّةِ والدليلِ وأقوال العلماء، لا قولِه وقولِ حزبه.
قال الله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء : 74]
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة : 123]
وقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ” متفق عليه.
وقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ” من كانت هجرته إلى اللهِ ورسولِه فهجرته إلى اللهِ ورسوله، ومن كانت هِجرَتُه لدنيا يُصِيبها أو امرأةٍ ينكِحُها فهِجرتُه إلى ما هاجرَ إليهِ” متفق عليه.
هذا مختصر النصوص التي بيَّنت أن الجهاد الشرعي ما كان في سبيل الله، كلِّ سبيل ارتضاه، ولإعلاء كلمته، كلِّ كلمة قالها أو أمر بها، عقيدةً وشريعةً، يقاتلُ المسلم من يليهِ من أعداءِ الدين، ويقدِّمُ نفسه وماله مضحياً لتحقيق مصلحةِ الدين وأهله، لا لكي تتحقق المصالحُ الشخصيةُ أو الفئوية.
ومصلحة الدين وأهلِه يُقدِّرها أهل العلم والاختصاص، وأهل الحلِّ والعقد في زمانه ومكانه، وإن كلَّ نازلةٍ لها حكمها بالنظر إلى النَّصِّ والواقعِ بدقةٍ وإخلاصٍ وأمانة، فلا تُترك مصلحة الدين لرأي شخصٍ أو حزبٍ يَضِلُّونَ فساداً أو خطأً، وإن أصابوا لم يستطيعوا حمل الأمة على هذا الصوابِ بسبب التَّفردِ والابتعاد وعدم ثقةِ الأمَّة بهم.
ومع غياب الشورى العامةِ التي تُقدِّرُ مصلحة الدين وأهله وتُقرِّرها، وتسعى في الإعداد والجهاد بوضوحٍ تامٍّ وموثوقيةٍ، وغيابِ المصلحة العامة للدين والمسلمين السوريين الثائرين في القتال في ليبيا أو أذربيجان أو أي مكان غير بلدهم، وغياب الجهة الموثوقة التي تُحصِّل هذه المصلحة العامة إن وُجدت، فهذا الانتقال والقتال ليس في سبيل الله، وهو محرم ومن كبائر الذنوب.
قال الله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال : 16]، والتحرُّفُ لقتالٍ والتحيُّزُ إلى فئةٍ يكون باجتهادٍ جامعٍ مبنيٍّ على الشورى ليحقِّقَ المصلحة العامة بوضوحٍ وأمانة، فلا يتحرَّفُ ولا يتحيَّزُ كل على هواه ولمصلحتهِ.
هذا القتال خارج الشام إن كان يخضع للضوابط الشرعية التي تضبط التحالف والاستعانة والإعانة سواء مع المسلم أو الكافر، ربما يحقق مصلحة واضحة مباشرة أو غير مباشرة، كانتصار وانتصاف من عدوٍّ مشتركٍ، أو تحصيل نصرةٍ من حليفٍ، أو تحصيل مالٍ أو سلاحٍ ضروريٍّ للجهاد، يكون مقابلاً لما يقدمه المجاهدون، لكنه ليس شخصياً أو حزبياً بل عاماً يوضع في سبيل الله وينفع عباده.
ولما كان المقاتل “المرتزق” يقاتل للغنيمةِ ولا يبالي مع من ولماذا وفي سبيلِ ماذا -غير المغنم- يقاتل، فهو مرتكبٌ لكبيرةِ من كبائرِ الذنوبِ بترك جهاد فرضِ العينِ مهاجراً إلى دنيا يصيبها، ولأنه يعرِّض نفسه للهلاك، فالقتل في غير سبيل الله هلاك… والعياذ بالله.
ولا يُحكَمُ بكفر المقاتلِ وخروجه من الملة إلا في حالاتٍ خاصةٍ معروفةٍ واضحةٍ، كتولي الكافرين والقتال معهم ضد المسلمين، وعلى كلِّ حالٍ التكفير له ضوابط لا يستهان بها، قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: “باب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا ، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئًا”؛ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ج4 ص 136.
وعلى هذا فيُبيَّنُ للخارج قتالاً لدنيا يصيبها أن هذا ليس في سبيل الله، وأن الإثم المترتبَ عليه عظيمٌ، والخطرَ جسيمٌ، ويُنكر فعله، ولا يُسبُّ ولا يُشتمُ ولا يُلعنُ ولا يُدعى عليه بالموتِ أو الإصابة، ولا يُعيَّرُ ولا يُشمتُ به، قياساً على مرتكبِ كبائرَ وموبقاتٍ أخرى فيها دليل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتيَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسَكرانَ، فأمَرَ بضَربِهِ. فمِنَّا مَن يَضرِبُهُ بيَدِهِ ومِنَّا مَن يَضرِبُهُ بنَعلِهِ ومِنَّا مَن يَضرِبُهُ بثَوبِهِ، فلما انصرف قال رجلٌ: ما لَه أخْزاهُ اللهُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “لا تَكونوا عَوْنَ الشَّيطانِ علَى أخيكُم” أخرجه البخاري.
إن المصلحة العامةَ المهدورةَ الضائعةَ إنما ضاعت بسبب ارتكاب كبيرةِ الفرقةِ وترك فريضةِ الاعتصام، والتقصير في الجهاد في سبيل الله بالتحرر من القيود الدولية والتقيد بالضوابط الشرعية، وللتذكير: إن انتكاسةَ الثورةِ السورية وانكفاءها كان قبل خروجِ عددٍ قليلٍ من أبنائها إلى ليبيا وأذربيجان بسنوات، وهذا الحال كان لأسباب كثيرة جُلُّها ذاتيةٌ داخلية، وإن الارتزاق اللاحق نتيجة من نتائجِ الضعفِ والارتهانِ السابق.
إن كثيراً ممن عابوا على غيرهم الخروجَ إلى بلدانٍ أخرى للقتال كمرتزقةٍ هم مثلهم وربما أكثر، وإن قاتلوا ورابطوا في الشامِ، لأنهم لا يكتفون بالارتزاقِ من الغيرِ وقتال الغير، بل يغلُّون مالَ الثورةِ والجهادِ ويقاتلون ويظلمون أهلها (الكلام عامٌّ ولا أقصد جهة بعينها)، وإن في الشام لنِعمَ المجاهدون الذين يُضرب بإخلاصهم وصبرهم وثباتهم المثلُ، والأملُ معقودٌ أن نستعيد الثورةَ ونجددَ الجهادَ بعون الله وفضلهِ، ثم بهمِّهم وهِمَّتهم.
إنَّ من الواقع المؤكَّدِ الذي شهِدته، أنَّ أقواماً عابوا على من خرجَ إلى ليبيا وعيَّروهم ليسَ لإنكارِ المنكرِ بل للشماتةِ بمرتكبه والتعالي عليه، فابتلاهم الله فخرجوا هم إلى أذربيجان!، ولئِن كان في حديث “لا تظهر الشماتةَ لأخيكَ فيرحمهُ الله ويبتليك“، وفي حديث ” من عيَّر أخاه بذنبٍ لم يمُت حتى يعمله ” ضعفٌ، إلا أن الكثيرَ من العلماءِ استدلوا بهما في هذا الباب، وبالحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: “إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا…“؛ متفق عليه واللفظ لمسلم.
فارتكاب الصغيرة والكبيرة لا يبيح الشَّماتة والتَّعيير، وهو محرم يجلبُ الإثمَ والعقاب، قال ابن عون -رحمه الله-: لما ركِبَ محمد بن سيرين الدَّين اغْتمّ لذلك فقال : “إني لأعرفُ هذا الغَمَّ بذنبٍ أصبتُه مُنذُ أَربعينَ سَنة، قلتُ لرجلٍ من أربعينَ سنةٍ: يا مُفْلس!”. حلية الأولياء (2/171)، الجامع لأحكام القرآن (16/31)، قال الشيخ عبدالعزيز الطريفي -فك الله أسره- : “إذا رأيت المبتلى فاعلم أنه ليس بينك وبينه إلا رحمةَ اللهِ ولطفَه”.
ولئن كان حكمُ من خرج من ساحة جهاد الدفع في الشام إلى ليبيا وأذربيجان وغيرها من ساحات القتال أنه عاصٍ مرتكب لكبيرة، لأنه خرج “مرتزقاً” يعرض نفسه للهلاكِ من أجل دنيا يصيبها، فهذا الحكم كان ليتغير لو تغير واقعُ الحالِ وسببُ الخروجِ ونيةُ الخارجِ معاً، فلو كان لنا قيادة شرعية مفوضةً موثوقةً وشورى عامةً تمثل أهل الشام، فقرَّرت أن في الخروج إلى القتال في مكان كذا مصلحة للدين والجهاد والأمة، لكان في الخروج طاعةٌ وتقربٌ إلى الله عز وجل وجهادٌ في سبيله ونفعٌ عامٌ للأمة، يُحصِّله من قرَّرَ أن في ذلك مصلحةً ونفعاً، وعند ذلك ما علينا إلا السَّمعُ والطاعةُ والتوكلُ على الله، نخوض البرَّ والبحر للقيام بهذا الواجب بالطرقِ الشرعية أولاً وآخراً. (راجع أحكام الاستعانة والإعانة والتحالف في القتال، التي ذكرها العلماء بأدلة من القرآن والسنة وصحيح السيرة).
لا أكاد أبحثُ مسألةً من مسائلِ الجهادِ والإصلاحِ والسعيِ في بناء دولةِ الإسلامِ، إلا وأصلُ إلى المسألة الأساسِ وهي الاعتصامُ والشورى، فكلُّ المصالح تُبنى عليها إن وُجدت، وكلُّ المفاسدِ تطفو وتظهر إن غابت، ولا يُلام من خرج من شبابنا من الشام فاراً من الزحفِ مولياً للدبر تاركاً للجهاد، إلا ويُلام أكثر ذلك الفاسدُ (كائناً من كان وهم كثر) الذي فرَّقَ جمعَ المسلمين وشتَّتَ شملهم، وظلمهم في حقوقِهم ومعاشِهم ومعاش أهليهم، وفتنهم عن الجهاد، وكرَّس ضعفهم، ثم ارتمى يسترضي غيرهم بعد أن ضيَّعَ الأمانة وهدر الثقة.
أسبابٌ كثيرةٌ منها الأضطرار المادي، ومنها التَّغريرُ من القادة الفاسدين، جعلت شباباً مجاهدين قدَّموا كلَّ ما يستطيعون لسنواتٍ يتركون ثغورهم كارهين، ليطلبوا الرزقَ من بابِ الموتِ، جعلتهم يلامون ويُنكرُ عليهم، لكن لا يجوز أن يكون اللومُ بالكِبرِ والتنطُّعِ ودعاءِ الشرِّ، فأهلُ السُّنةِ أرحمُ الخلقِ بالخلق تأسِّياً واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإني أحب أن أكون منهم.
فمع نصحي لهؤلاء الشباب بعدم الخروج من ساحة الجهاد الأوجب، وعدم ارتكاب كبيرةِ “الارتزاق”، أدعو لمن اضطُرَّ أو افتُتن وخرج منهم بالهدايةِ والمغفرةِ والحفظِ والخيرِ، رغم أنفِ المتنطِّعين، وأن يردنا الله وإياهم إلى دينه رداً جميلاً، رغم أنفِ المتنطِّعين، وأحزنُ على كل قطرة دمٍ من مسلمٍ تسيلُ بغير حقها، وأسأل الله يفرِّجَ عن الأمةِ وأن يرزقنا نصراً عاجلاً تَقَرُّ به أعينُ الموحِّدين، وتمكيناً يكون نموذجاً شرعياً يهتدون به السَّبيل، ويَسعى في مصالحهم العامة أينما كانت ويُحصِّلها بهم ولهم، إرضاءً لله عز وجل وحده… اللهم آمين.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود : 88]
أبو يحيى الشامي October 04, 2020