الأستاذ: أبو يحيى الشامي
أصبحَ معلوماً لأكثر الناسِ كوعيٍ جماعيٍّ أن النظامَ الدوليَّ ما بعد الحربِ العالمية الثانية كرَّسَ مبدأ ملءِ الفراغ ومبدأ الاحتواءِ، فلا تسمحُ الدولُ القائمةُ والمتقاسمةُ لجغرافيا الأرضِ أن تشغَرَ مساحةٌ صغيرةٌ من قوةٍ منضبطةٍ، ولا تسمحُ أن تظهر قوىً جديدة غير مُقَيَّدةٍ ومُقَيِّدةٍ لغيرها معاً.
هناك سلسلةٌ من الارتباطات الدولية بين الأصدقاءِ والأعداء، المتفاهمين والمختلفين، هذه السلسلة تربط كلَّ القوى وتحقق مصالحها حسب حجمها ومكانتها، لذلك يتعاون الجميع في وأدِ أو إنهاءِ أو احتواءِ أي قوةٍ تظهر بغير إرادةٍ دوليةٍ مهما كانت هذه القوة صغيرةً، والاحتواءُ هو الأسلوب الأكثر استعمالاً.
ولأن أيَّ إنسانٍ أو تجمعٍ “يحتاج إلى” و”يخاف من” يكون الاحتواءُ عبر الترغيب والترهيب، وأكثرُ من ذلك بتقديم ما يلهي وبالضرب بما يوجع، وهذه يُصطلح عادةً على وصفها بسياسة العصا والجزرة.
إن الدول الكبرى تحب المعتاد المألوفَ وتخشى الجديد، وهذه سنَّةٌ قديمة حديثةٌ ليست وليدة عصرنا، وإنَّا -المسلمين- نستدل بظهور دولة الإسلام الصغيرة القليلة العدد والعدة بين دولٍ وامبراطورياتٍ مجاورةٍ حشدت الجيوش للقضاء عليها خوفاً من ثورتها على الظلم والظلمات، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف : 8].
هذا المثل الأعلى قس عليه كل ثورة في أي منطقةٍ من العالم قديماً وأكثر منه حديثاً بعد هذا التَّنظيمِ الدقيق والتَّطورِ الكبير الذي امتلكه أولياء الشيطان وأرباب الطغيان، ثم عد إلى الثورات العربية وانظر كيف تعامل معها النظام الدوليّ بالاحتواء عبر عصا الترهيب وجزرة الترغيب.
إن الشعوب أخطر أعداءِ الأنظمةِ التي تحكم الدول، فإذا ثارت هذه الشعوب ونجحت في إسقاط أي نظامٍ قائمٍ اختلَّ توازن النظامِ الدوليِّ بقدر حجم وأهمية الدولة التي يضبطها هذا النظام، لذلك تستوفز الدول المهيمنة لأي حدث من هذا النوع، وتسعى دائماً للسيطرة على شعوبها والشعوب الأخرى بأفضل الوسائل.
وهذا رائد استراتيجية السيطرة على الشعوب “نعوم تشومسكي” الأمريكي قال في إحدى الندوات: “الولايات المتحدة ستفعل كلَّ ما في وسعها لمنع ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ في العالم العربي، والسبب واضحٌ للغاية؛ وهو أن الغالبية العظمى من شعوب المنطقة تعتبر الولايات المتحدة مصدراً أساسياً لتهديد مصالحهم، بل إن الغالبية معارضةٌ لسياسات أمريكا الخارجية” انتهى، وإن أهم ركنٍ من أركان الاستراتيجية التي نظَّرَ لها تشومسكي سياسة الإلهاء، إلهاء بماذا؟، وكيف؟.
إن الشعوب لكثرة أفرادها وجماعاتها واختلاف استعداداتهم الفطرية والمكتسبة لا يمكن السيطرة عليها بغير أدوات، وإن أنكرَ الأدواتِ عند الشعوب ما كان غريباً يأتي من بعيد، فكان من المناسب أن تكون الأدوات من هذا الشعب أو هذه الثورة ذاتها، وهكذا يكون مربط الاحتواء الذاتي الذي إن كان مقبولاً أدى المطلوب وإن كان مرفوضاً أدت مجابهته إلى تدمير ذاتي، وإن هذا من أنجعِ طرق الإلهاء التي يستعملها المحتلون.
ولا يمكن بحال أن يُعمَلَ بسياسة العصا والجزرة مع كل فردٍ أو جماعةٍ من الشعب المستهدف، فالعدد كبيرٌ والهدف حرمانهم من المصالح وليس تلبيتها، وهناك نسبةٌ لا تصلح هذه السياسة في الضغط عليهم لتغيير مبادئهم، فكان المناسب اجتيالُ العددِ الأكبرِ وحشرهم تحت قيادات تغريها جزرة المصالح المحدودة وتخشى من ضرب عصا الحرمان أو الإنهاء، إنهم حمير الشعوب أو حمير الثورات.
حميرٌ لأنهم حُمِّلوا الأمانة أو سعوا لكي يحملوها ثم ضيعوها، فلا هم رعوها حق رعايتها ولا هم تركوها ليرعاها غيرهم، {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة : 5].
ربما يظن الحمار أنه بجريه خلف الجزرة يسعى لتحقيق مصلحة عظيمةٍ تعود بالنَّفعِ عليه وعلى غيره، يجعلها جهله ونهمه عظيمةً لكنها في البداية والنهاية جزرة أو سراب جزرة، ويخشى العصا التي يجعلها ضعفه منفرداً مخيفةً، لكنها تنكسر أمام الصمود الجماعي الذي يخشاه الحمار، والثبات على المبادئ الذي يحتكره الحمار زوراً.
إنها المكاسب الهشَّةُ كما وصفها الاستاذ حسين أبو عمر في مقال “فقدان البوصلة واضطراب سلم الأولويات”، هذه المكاسب التي يغري بها النظام الدولي الذين يخدعون أنفسهم وغيرهم بالاجتهادات غير المنضبطة لا بضابط الشرع ولا بضابط الشورى والتمثيل الشعبي الحقيقي الذي يُفعِّل الرقابةَ والمحاسبةَ، ثم يتخذون كل من يقول “لماذا؟” وكل من يقول “لا” عدواً، ويحدث الإلهاء والإنهاء الذاتي.
وإن من المميزاتِ التي يتميز بها هؤلاء علوُّ الصوت المُنكَرِ، يستخدمونه في التغطية على كل صوت ينادي بتغيير طريقة التفكير السطحية، ويدل على المعاطب والمهالك التي تنتظرهم وتنتظر شعبهم بالمعيَّةِ، والواقع المشهود يُري أولي الأبصار تضخمَ الأدوات الإعلاميَّةِ الهجوميَّةِ والدفاعيَّةِ عندهم على حساب الشَّرعِيَّةِ والفكريَّة، مع قبحِ ونَكارةِ ما تنتجه وتطرحه هذه الأدوات، والمزيد من العلوِّ والتَّبخترِ والانتفاخِ، {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان : 19].
المشكلة الأكبر التي تواجه الشعوب في هذا السِّياقِ أن حميرَ الثَّورات يعملون على إضعاف مكونات الشعب أمامهم لتسهل السَّيطرة عليه وقيادته إلى ما يحبون ويرضون وهو في الغالب ما يحب المراقبُ الدوليُّ ويرضى، وينزعون في سبيل ذلك كل ما في يد الشعب من سلاح للحماية وتصحيح المسار، ويربطون أفراد الشعب بسلاسل مبتداها ومنتهاها عندهم، مع محاولةِ تكميمِ الأفواهِ وعصبِ العيونِ، وكلُّ ذلك مع جريٍ عنيف لتحقيق مصلحة الجزرة وتجنب مفسدة العصا!!.
ونتيجة هذا السياق يكون المصيرُ إلى حظيرةِ الاحتواء طويل الأمد، إما تحت الحمارِ بالوكالةِ، أو يُقضى عليه بعد إنهاء مهمته في جرِّ الثورة الشعبية إلى ما لا طاقة لها بمواجهته بعد استنزافها وإضعافها، هناك أمثلةٌ كثيرةٌ على من تمَّ تنصيبهم على تلَّةِ فسادٍ تسبَّبوا بها، وأمثلةٌ كثيرةٌ على من انتهوا بالتَّصفيةِ بعد إنهاء المهمة بمزيجٍ من الجهل والإخلاص.
إنَّ لكلِّ منطقةٍ مكانتها وحساباتها، قد يدوم الصِّراعُ في منطقةٍ مدةٌ طويلةٌ، لكنَّ المناطقَ المركزيَّةَ والحسَّاسةَ -كالشَّامِ مثلاً- بقدر ما تسعى الدول المتنافسةُ إلى تجنُّب الخروج منها خاسرةً، بقدر ما تسعى مجتمعة إلى إنهاءِ الثَّورة فيها بأسرعِ وقت لاستعادةِ الاستقرار الذي يحقق مصالحها بغير صدامٍ مباشر، وهذا يكون بالتَّسريعِ في عملية جرِّ الحميرِ بالعصا والجزرةِ إلى الحظيرة المُعدَّةِ للشَّعبِ المربوطِ، ولا نجاةَ إلا بالتنبُّهِ للوقتِ الذي ينفد بسرعةٍ، والعمل على حلِّ العقدِ فكِّ الارتباطِ، وإلا فالمصير من السِّياقِ معروف، و”من نظرَ في العواقبِ أمِنَ المعاطِبَ”.
بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢ هـ