العلمانية في ميزان الإسلام – مجلة بلاغ العدد ٦٨ – رجب ١٤٤٦ هـ⁩⁩

الشيخ: محمد سمير

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد؛

قضى الله تبارك وتعالى أن الحق والباطل في صراع دائم، والباطل إذا هزم في جولة عمد إلى تغيير جلده ليلبس على الناس ويخفي عنهم حقيقته فينخدع به السذج ويهتك ستره أولو الابصار.

وقد من الله على الأمة بسقوط طاغية الشام النصيري البعثي وانفراط عقد نظامه الذي جثم على صدور المسلمين أكثر من خمسة عقود منذ استيلاء البعث على الحكم وكان سقوط هذا النظام الذي أذاق الأمة الأمرَّين هبة عظيمة من الله لم يتوقعها أحد من الأصدقاء والأعداء.

فعمد فلول النظام السابق -الذين شاركوه في سفك الدم الحرام وظلم الناس واستعبادهم وسجنهم في المسالخ البشرية- عمد هؤلاء المجرمون إلى المطالبة بالعلمانية في محاولة منهم للإبقاء على مكاسبهم الدنيوية التي اغتصبوها حراماً وكأن الدماء التي بذلها المجاهدون والسنوات الطوال التي عانى فيها المسلمون من آلام النزوح والتهجير والقصف والدمار إنما هي ليستمر حكم الطاغوت وليحفظ لفلول النظام دنياهم، وخابوا وخسروا فالثمن الذي يريده المسلمون هو إقامة الدين وتحكيم الشريعة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].

وفي هذا المقال سنتناول بيان العلمانية وأسباب نشوئها وحكم الإسلام فيها:

1 – لخصنا ذلك كله من كتاب (وباء العلمانية) وهو مختصر من كتاب العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة للشيخ (سفر الحوالي) فك الله أسره.

*العلمانية:

هي فصل الدين عن الحياة، وقد جاء تعريفها في دائرة المعارف البريطانية هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها وتعريفها بأنها: فصل الدين عن الدولة تعريف قاصر.

ثم إن لنشوء العلمانية أسبابًا وأهمها:

أولًا: الطغيان الكنيسي:

لم تدع الكنيسة جانبًا من جوانب الحياة إلا وأمسكته بيدٍ من حديد وغلّته بقيودها العاتية فهيمنت على المجتمع من كل نواحيه الدينية والسياسية والاقتصادية والعلمية وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصايةً لا نظير لها البتة.

ونستعرض شيئًا من ذلك في نواحي مختلفة من الحياة:

1 – الطغيان الديني منذ ظهور ما يسمى المسيحية الرسمية في “مجمع نيقية 325م” والكنيسة تمارس الطغيان الديني والإرهاب في أبشع صوره.

فقد فرضت بطغيانها عقيدة التثليث قهرًا بما فيها من مناقضات للعقل 1+1+1=3 ولكن عند الكنيسة 1+1+1=1 وليس لأحدٍ حق الاعتراض وإلا فالحرمان مصيره واللعنة عقوبته لأنه كافر (مهرطق).

وبالإضافة إلى لغز الثالوث المعمّى أضافت الكنيسة عقائد وآراء أخرى تحكم البديهة باستحالتها ولكن لا مناص من الإيمان والإقرار بشرعيتها عند أتباعها على الصورة التي توافق هوى الكنيسة كقضية الاستحالة في العشاء الرباني وصكوك الغفران وحق التحلة وهو أهم عمل في الطقوس المسيحية وهو عبارة عن خبز وخمر يرمزان إلى جسد ودم المسيح ويجب على النصارى الاعتقاد بأنهم يأكلون جسد المسيح بعينه على الحقيقة ويشربون دمه نفسه على الحقيقة أما كيف يتحول الخمر والخبز إلى جسد المسيح فإن ذلك سر لا يجوز لأحد أن يسأل أو يشك فيه -عززت الكنيسة سلطتها الدينية بادعاء حقوقٍ لا يملكها إلا الله كحق الغفران وحق الحرمان وهذا ما أدى إلى المهزلة التاريخية ((صكوك الغفران)) وهي توزيع الجنة وعرضها للبيع في مزادٍ علنيٍّ وكتابة وثائق للمشترين تتعهد الكنيسة فيها بأن تضمن للمشتري غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر وبراءته من كل جرم وخطيئة سابقة ولاحقة.

أما حق التحلة فهو حقٌ خاصٌ يبيح للكنيسة أن تخرج عن تعاليم الدين وتتخلى عن الالتزام بها متى اقتضت مصلحتها ذلك.

*ومن صور الطغيان الكنسي محاكم التفتيش:

التي كان أول ضحاياها مسلمو الأندلس ثم ظلت تمارس أعمالها الوحشية على مخالفي الكنيسة وإن لم يكونوا مسلمين، وهي عبارةٌ عن سجون مظلمة تحت الأرض فيها غرف خاصة للتعذيب وآلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري.

ثانيا الصراع بين الكنيسة والعلم:

ارتكبت الكنيسة خطأين فادحين في آن واحد:

*الأول: تحريف حقائق الوحي الإلهي وخلطها بكلام البشر.

*الثاني: فرض الوصاية على ما ليس داخلاً في اختصاصها وتوهمت الكنيسة أن في قدرتها أن تملك مالا تستطيع أي قوة طاغية أن تحتكره وهو الحقيقة العلمية فيما يتعلق بالتجربة المحسوسة أو النظر العقلي السليم وأول عمل مارسته الكنيسة في هذا المجال هو احتكارها للعلم وهيمنتها على الفكر البشري بأجمعه حتى غدت آراء أرسطو في الفلسفة والطب ونظرية العناصر الأربعة ونظرية بصليموس في أن الأرض مركز الكون وما أضاف إلى ذلك القديس أوغسطين وكلميان الاسكندري وتما الإكوني أصولًا من أصول الدين المسيحي وعقائد مقدسةً لا يصح أن يتطرق إليها الشك وقد قامت الكنيسة بإحراق عددٍ من العلماء الذين خالفوها وزجت آخرين في السجون.

وثار العلماء ودعاة التجديد مطالبين بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيداً عن الوحي واستمر الصدام بين الكنيسة وبين العلماء والشعب المسحوق حتى قامت الثورة الفرنسية فقضت على سلطة الكنيسة في فرنسا وكان من هتافها ((اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس فهذه باختصار وإجمال شديد أسباب نشوء العلمانية في الغرب)).

وبهذا يتبين أن العلمانية لا مبرر لها في العالم الإسلامي فالعقيدة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تتسق تمامًا مع العقل فالإسلام دين الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].

هذه الفطرة تشرحها سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4-1]

فليس في الإسلام أقانيم ثلاثة وهي واحد ليس فيه إلهٌ يجوع ويبكي ويوضع على رأسه إكليل الشوك ويصلب ويموت.. إنما هو إله عظيم جليل له صفات الجمال والجلال والكمال {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].

وكتاب الله القرآن محفوظٌ من التحريف بلفظه ونصه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وليس في الإسلام رجال دينٍ لهم حق التحليل والتحريم وفرض أهوائهم على الناس إنما التشريع حق الله الخالص والعلماء وظيفتهم فهم النصوص واستنباط الأحكام منها وتعليمها إلى الناس وليسوا بمعصومين بل الخطأ جائزٌ عليهم والسنة محفوظةٌ أيضًا وعلم مصطلح الحديث لا يمثل عنه أي أمةٍ من الأمم الأخرى.

والإسلام يحض على العلم ويجعله قربةً إلى الله ويثني على العلماء ويمدحهم {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].

وكانت حلقات الطب والفلك والرياضة والشعر تعقد في المساجد جنبًا إلى جنب مع حلقات الحديث والفقه والتفسير..

وليس في الإسلام واسطاتٌ بين الله وبين خلقه يُعترف لهم فيغفرون الذنوب ويُدعون ويُسألون فهذا هو الشرك الذي بعث محمدٌ لإبطاله وكان المشركون يفعلونه {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} [الزمر:3].

*ونختم هذا المقال ببيان حكم الإسلام في العلمانية:

من المعلوم أن أعظم أركان الاسلام هو التوحيد والعلمانية هي أكبر نقيض للتوحيد وقد شرط الله لتحقيق الإيمان الكفر بالطاغوت والطاغوت كما عرفه ابن القيم: “الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله”.

وهذا يبين أن:

1 – العلمانية طاغوتٌ يجب الكفر به لتحقيق الإيمان والعلمانية حكم بغير ما أنزل الله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40].

2 -العلمانية شركٌ بالله إذ إنها تجعل الحياة الدنيا للبشر والله يقول: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].

3 – العلمانية تناقض الشهادة لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام بالرسالة فمن مقتضيات “محمد رسول الله”: الطاعة في الأوامر والنواهي وأن يُفرد في الاتِّباع.. والعلمانية لا تقبل بذلك بل تجعل الطاعة في ذلك لأهواء البشر.

وبهذا يتبين أن العلمانية كفرٌ بركنيِ الشهادة فهي شركٌ وحكمٌ بغير ما أنزل الله وهي تعطيلٌ لاتباع محمد رسول الله.

اللهم أقم فينا شرعك وحكّم فينا كتابك وأخز الكفرة والملحدين واختم لنا بالشهادة في سبيلك.

Exit mobile version