الصدق في الجهاد – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٩ – ذو القعدة ١٤٤٤ هـ

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فإن منزلة الصدق من أعظم المنازل في الدنيا والآخرة، وهي تدخل في كل شؤون الحياة ومن أهمها الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لذا اقترن الصدق في القرآن الكريم في مواضع عديدة بالجهاد في سبيل الله تعالى، فالجهاد من آكد المواطن التي تحتاج إلى الصدق ويتبين فيها الصادق من الكاذب.

وتزداد أهمية الحديث عن الصدق في الجهاد زمن الفتن والسنين الخداعة التي يُكذَّب فيها الصادق ويُصدَّق فيها الكاذب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ» رواه أحمد، لذا كان هذا الحديث عن الصدق في الجهاد.

أولا – معنى الصدق في الجهاد:

الصدق ضد الكذب، وهو كلمة تدل على صلابة وقوة وثبات باطن الشيء وتماسك ظاهره، والجهاد هو المبالغة واستفراغ الوسع في القتال والحرب.

والصدق والإخلاص قد يردان بمعنى واحد وهو إفراد الله بالعمل، وقد يتعدد معناهما؛ فيكون الصدق بالقلب والعمل؛ فهو في القلب إرادة الله، وهو في العمل القيام به على الوجه المشروع، أما الإخلاص فيكون في القلب فقط وهو إفراد تلك الإرادة لله وحده لا شريك له فيها، قال ابن القيم في مدارج السالكين: “الصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب”، ونقل ابن علان في الفتوحات الربانية أن: “الإخلاص تصفية العمل من الشوائب، والصدق عدم الالتفات إلى العوارض والعوائق”.

– فالصدق في الجهاد: هو إرادة الله جل وعلا بالجهاد، والقوة والثبات وبذل الجهد في القيام به؛ فيكون العمل مصدقا للنية والعزم، قال أبو حامد في الإحياء: “النفس قد تسخو بالعزم في الحال؛ إذ لا مشقة في الوعد والعزم، والمؤنة فيه خفيفة؛ فإذا حقت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء بالعزم وهذا يضاد الصدق فيه..، فإن الناس قد تسخو بالعزم ثم تكيع عند الوفاء لشدته عليها ولهيجان الشهوة عند التمكن وحصول الأسباب”.

ثانيا – فضل الصدق في الجهاد:

الصدق صفة لله جل وعلا، قال تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا)، والنبي صلى الله عليه وسلم هو «الصّادق المصدوق»، والصديقية صفة الأنبياء عليهم السلام؛ قال جل وعلا عن كل من إبراهيم وإدريس عليهما السلام: (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)، وأبو بكر رضي الله عنه هو الملقب بـ “الصديق”، والصديقون أفضل الناس بعد الأنبياء، قال تعالى: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)، وللصادقين كما يقول ابن القيم في المدارج “خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق؛ وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله، من الأقوال والأعمال”.

وعامة فضائل الصدق هي بعض فضائل الصدق في الجهاد، قال ابن القيم في المدارج كذلك: “منزلة الصدق؛

– وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين،

– والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين،

– وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران،

– وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه،

– من صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته،

– فهو روح الأعمال ومحك الأحوال،

– والحامل على اقتحام الأهوال،

– والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال،

– وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين،

– ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين،

– ومن مساكنهم في الجنات تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين”.

 

– ومن صدق الله في الجهاد صدقه بالنصر والفوز والخير العميم في الدنيا والآخرة: قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، وفي الحديث أن صحابيا جاءه نصيبه من الغنائم «فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: قَسَمْتُهُ لَكَ، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ، فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهُوَ هُوَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ»، رواه النسائي.

– والصادق يبلغ منزلة الشهيد ولو مات على فراشه، والكاذب وإن قتل في المعركة فهو أول من يقضى عليه يوم القيامة ويلقى في النار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» رواه مسلم.

– والصدق سبب للنجاة إن حلت مدلهمات في طريق الجهاد: فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه تخلف عن غزوة تبوك، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إِنِّي وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللهِ، لاَ وَاللهِ، مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ»، ثم قال كعب رضي الله عنه: «وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فَوَاللهِ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلاَمِ، أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ)» متفق عليه.

– والصدق من أعظم أسباب قبول الدعاء، فكيف عندما يكون صدقا في الجهاد؟ ففي حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، قال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ، إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللهِ يَا هَؤُلاَءِ، لاَ يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ» رواه البخاري.

 

ثالثا – وسائل تحقيق الصدق في الجهاد:

للصدق وسائل تعين المرء على تحصيله وتكميله، ومن تلك الوسائل:

– لزوم الطاعات وفعل الخيرات وسلوك سبيل المحبين لله تعالى: فقد وصف الله جل وعلا الذين صدقوا في قوله سبحانه: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

– مصاحبة الصادقين وتصديقهم والبحث عنهم والعمل معهم: قال جل وعلا: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، قال الرازي في تفسيره: “إنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين، ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت، وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل..، أمر بموافقة الصادقين، ونهى عن مفارقتهم، وذلك مشروط بوجود الصادقين وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فدلت هذه الآية على وجود الصادقين”.

– تحري الصدق: وذلك بقول الصدق ولزومه والتربية عليه والعمل بمقتضاه والبحث عن أهله والبعد عن نقيض ذلك..، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا» متفق عليه.

– التبين والتثبت خاصة إن كان الأمير كاذبا: قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، وقال جل وعلا: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فقد أمرت الآيات بالتبين عند قتال الكفار فكيف إذا كان القتال ضد مسلمين ادعي عليهم البغي أو الخارجية أو الفساد؟ وكيف إذا كان الأمير الناقل للخبر عنهم معروفا بالكذب؛ إن مثل هذا لا تقبل شهادته في باقة بقل فكيف تراق بها الدماء؟! فالواجب في مثل ذلك التبين والتثبت، ولا تجوز طاعة الأمير الكذوب في مثل هذه الأمور طالما لم تثبت من غير طريقه.

– المشاركة في أنواع الجهاد المتعددة كالجهاد بالنفس والجهاد بالمال رغم المشاق: قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)، وقال جل وعلا: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

– المسارعة لتلبية النداء والحذر من العلائق التي تؤخر عن النفير وتضعف في الجهاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلاَ أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلاَ أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا» متفق عليه، قال النووي في شرح مسلم: “الأمور المهمة ينبغي ألا تفوض إلا إلى أولي الحزم وفراغ البال لها، ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها؛ لأن ذلك يضعف عزمه ويفوت كمال بذل وسعه فيه”، فقد قدم هذا النبي عند السعة والاختيار فارغ البال على مشغوله؛ فإن تعين الجهاد على الجميع فعلى المشغول أن يحذر أن تعيقه تلك المشاغل عن الجهاد، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).

وفي يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، فقال عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ» رواه مسلم.

 

– الإعداد ليوم النزال: قال تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)، وقال جل وعلا: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ، -يَعْنِي المُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)» متفق عليه.

 

– تعويد النفس على معاني الشهامة والمروءة: فصدق الحديث والوفاء بالوعد والأمانة والشجاعة والشهامة والصبر والثبات من أجمل أخلاق النبلاء يحرص عليها حتى الكافر الذي عنده بعض حرص على مكارم الأخلاق، ومثال ذلك عندما دخل أبو سفيان وأصحابه وكان مشركا يومها على هرقل، قال هرقل لترجمانه: “قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ”، قال أبو سفيان: “وَايْمُ اللهِ، لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ” متفق عليه.

 

– ترك المشتبهات والبعد عن الشبهات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ» رواه الترمذي.

 

– حفظ اللسان عن سيئ القول: قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا» رواه مسلم.

 

– الدعاء: قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا).

رابعا – علامات الصدق في الجهاد:

لما كان الصدق مطلوبا من المجاهد، ومطلوب منه كذلك أن يكون مع الصادقين قدر الإمكان، حسُن منه بالمعروف أن يتبين الذين صدقوا وأن يعلم الكاذبين، قال تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)، ومن العلامات التي تشير إلى الصدق في الجهاد:

 

– الصبر والثبات وعدم التبديل: قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).

 

– استفراغ الوسع وعدم الركون ليسير الفعل خاصة إذا جد الجد: قال تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).

 

– أن ينحصر قتال المرء في سبيل الله لا في سبيل الدنيا وأوطانها وأموالها..: قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

– عدم التخلف عن الجهاد المتعين بلا عذر: قال تعالى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ).

 

– الوفاء بعهد الثبات ومطابقة الفعل للقول: فإنه لا يخرج أحد للجهاد إلا وقد أعلن بلسان مقاله أو حاله أنه سيثبت عند اللقاء، وعند اللقاء يتبين الصادقون الثابتون، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه.

 

– الاجتهاد في الثغر الذي وكل به بلا استنكاف عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» رواه البخاري.

– البعد عن المنة بالعمل: قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).

– ثناء الصالحين: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ» متفق عليه، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» رواه مسلم.

 

– تنزل البركة على الصادق: فالمؤمن باع نفسه وماله لله جل وعلا، فإن صدق في بيعه بورك له فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» متفق عليه.

 

– نور وجه الصادق: عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ» رواه الترمذي وابن ماجه.

 

– صدق الرؤيا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا» رواه مسلم.

خامسا – الخدعة والتورية والكذب في الجهاد:

الحرب تحتاج إلى الإعداد والكتمان وجمع الأخبار والتخطيط والمفاجأة..، وهي متعلقة بحفظ أهم الضروريات كالدين والنفس والمال..، فيقع فيها للحاجة أو الضرورة من الخداع والتورية والكذب أمور لا تتعارض مع الصدق في الجهاد طالما قدرت تلك الأمور بقدرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا» متفق عليه، قال ابن شهاب أحد رواة الحديث: “وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا” رواه مسلم.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: قُلْ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ» متفق عليه.

وأما أحكامها فمنها ما يلي:

– اتفق العلماء على جواز التورية في الجهاد للحاجة وخداع العدو بما هو صدق في حقيقته: وشرح ذلك القاضي عياض في إكمال المعلم بقوله: “كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، مثل أن يقول: هل لكم في قتال بني فلان، غزو بلد كذا، أو تأهبوا لغزو بلد كذا، وقد وجب غزو بني فلان، أو أنا أغزو بلد كذا ونيته وقتاً آخر..، ويقول للجيش من عدوه: مات إمامكم الأعظم ليدخل الذعر قلوبهم ويريد النوم، وشبه هذا، أو يقول: غدًا يقدم علينا مدد، وهو قد أعدَّ قومًا من عسكره ليأتوا في صورة المدد، فهذا من الخدع الجائزة والمعاريض المباحة، فمثل هذا كله من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب”.

– اتفق العلماء على جواز الكذب الصريح للضرورة المتحققة والإكراه الملجئ: قال القرطبي في المفهم: “وأما كذبة تنجي ميتا، أو وليا، أو أمما، أو مظلوما، ممن يريد ظلمه، فذلك لا تختلف في وجوبه أمة من الأمم، لا العرب ولا العجم”، وقال ابن حجر في فتح الباري: “واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم”.

– اتفق العلماء على حرمة الكذب الذي فيه نقض عهد أو أمان: قال القاضي عياض في إكمال المعلم: “وأما إذا كانت المخادعة مع العدو، أو المواعدة مع الزوجة، بالأيمان والعهود، أو أخذ عوض من مال الزوجة على ما وعدها به، فلا يحل شيء من ذلك عند الجميع، وهو عاص كاذب، آثم فيما لم يف به من ذلك”، وقال النووي في شرح مسلم: “اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل”.

– ذهب جمهور العلماء إلى جواز الكذب في الحرب، في غير غدر وما شابهه، إن لم تمكن التورية وكانت هناك حاجة لذلك وأدى المقصود بلا مضرة أكبر: قال القرطبي في المفهم: “الكذب كله محرم لا يحل منه شيء إلا هذه الثلاثة، فإنَّه رخص فيها لما يحصل بذلك من المصالح، ويندفع به من المفاسد، والأولى ألا يكذب في هذه الثلاثة إذا وجد عنه مندوحة؛ فإن لم توجد المندوحة أعملت الرخصة، وقد يجب ذلك بحسب الحاجة إلى تلك المصلحة، والضرورة إلى دفع تلك المفسدة، وما ذكرته هو إن شاء الله مذهب أكثر العلماء”.

ومع ذلك فإن الابتعاد عنه أولى غالبا إلا إن تعين لضرورة؛ قال النووي في الأذكار: “والحزمُ تركه في كل موضعٍ أُبيحَ، إلا إذا كان واجبا”.

– نصيحة نفيسة: قال الماوردي في تسهيل النظر: “قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» وَإِذا أمكن أَن يكون ذَلِك بمواضعة غَيره كَانَ أولى من أَن يكون ذَلِك بمباشرته بِنَفسِهِ، فَإِن لم يجد من الْمُبَاشرَة بُدًّا ورَّى وَعرَّض ليَكُون التَّأْوِيل لكَلَامه مُحْتملا وَالتَّصْرِيح بِالْكَذِبِ عَنهُ منفيا فيعذر إِذا ظهر وَلَا يتَصَوَّر بِالْكَذِبِ إِذا اشْتهر، وليقلل مِنْهُ إِلَّا عِنْد ضيق الخناق، فَإِن أَكثر مِنْهُ افتضحت معاريضه فَصَارَ صَرِيحًا ورُدَّ عَلَيْهِ فَاسِدا وصحيحا، وَإِن رخص لنَفسِهِ فِي التَّصْرِيح بِالْكَذِبِ على غير مَا قُلْنَاهُ فِي الْحَرْب من التَّعْرِيض الْمُحْتَمل صَار بِهِ موسوما وإليه مَنْسُوبا؛ لِأَن الْإِنْسَان بِمَا يسْبق إِلَيْهِ يُعرف وَبِمَا يظْهر من شيمه يُوصف، وَبِذَلِك جرت عَادَة الْخلق أَنهم يُعدلُونَ الْعَادِل بالغالب من أَفعاله وَرُبمَا أَسَاءَ ويُفسقون الْفَاسِق بالغالب من أَفعاله وَرُبمَا أحسن”.

* أسأل الله أن يجعلنا من الصادقين، وأن يدخلنا مدخل صدق ويخرجنا مخرج صدق ويجعل لنا لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق عند مليك مقتدر، والحمد لله رب العالمين.

.

Exit mobile version