الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون” متفق عليه.
يجوب بنا هذا الحديث الشريف آفاق الزمن ويعبر بنا دورة العمر المتلاحقة؛ ليصور لنا حقيقة من حقائق الوجود في هذه الحياة الدنيا، تظل عبرة للأمة على مر الزمان وتغير الأحوال.
وفي هذا الحديث الشريف يحكي لنا سيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه كيف أن الجيل الأول من الصحابة عانى صنوف العذاب والاضطهاد من كفار قريش، وكيف أنهم تحملوا مصاعب تنوء بحملها الجبال.
وقد ضرب هؤلاء الصحابة أروع المثل في الصبر والتحمل والتضحية بمتاع الدنيا الفاني ابتغاء مرضات الله جل وعلا، ففي صحراء مكة ورمضائها ذاقوا صنوف العذاب والتنكيل والقتل والتشريد.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنأى عن سوء فعال المشركين وقبيح أخلاقهم، فقد ناله منهم ما ناله، ولقي صلى الله عليه وسلم من الأذى والبلاء صنوفاً وألواناً، من ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه حين قال: “سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعيط فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله” رواه البخاري.
هذا عدا الأذى الأكبر الحاصل من تكذيب المشركين له صلى الله عليه وسلم وهو الناصح الأمين، والإعراض عنه وهو النذير المبين بين يدي عذاب شديد، وعدا ما افتراه عليه قومه ونبزوه من ألقاب الزور؛ كقولهم: إنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو مجنون، أو يتلقى الوحي عن بعض الأعجمين، أو اكتتبه من أساطير الأولين وأعانه عليه قوم آخرون، وغير ذلك مما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز، وهو بلا شك أشد وقعاً على النفوس البريئة من ضرب السيوف ووقع النبال. قال تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
ويذكر خباب رضي الله عنه أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يدعو الله لهم، وأن يسأل الله لهم النصر والتمكين.
وهنا يعلمهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم درسا من دروس التضحية وأساسا من أسس الإيمان، يعلمهم صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين باعوا حياتهم ثمنا لرضى الله جل وعلا، وأنهم مهما أصابهم في سبيل الله فلن يؤثر ذلك في نور يقينهم، ولن يزحزح اعتقادهم الراسخ وإيمانهم العميق.
وانتقل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جولة في عمق الزمان وأحداث التاريخ؛ ليبين لهم أن هذا الطريق سار فيه قبلهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتحملوا ما أصابهم في سبيل الله جل وعلا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه) نعم كان الظالمون عبر الزمان والمكان يحاربون دين الله جل وعلا بكل وحشية، لا يردعهم عن ظلمهم رادع؛ لأنهم رأوا إيمانا لا يتزحزح وإن تزحزحت الجبال الرواسي، فلم يجدوا سبيلا في زعمهم لإسكات صوت الحق إلا تلك الحرب الضروس والانتقام والتشفي، فقتلوا الأنبياء والصالحين وعاثوا في الأرض فسادا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وقال جل وعلا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، وأحرقوا أصحاب الأخدود، وقطع فرعون أيدي وأرجل السحرة الذين آمنوا مع موسى عليه السلام.
لقد فعل المجرمون كل ذلك عبر التاريخ، فما ازداد الحق إلا انتشارا والباطل إلا اضمحلالا.
والمؤمن لا يبيع دينه بعرض من الدنيا وإن كثر في عين أهلها، فما عند الله خير وأبقى.
ثم انتقل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزمن الماضي والتأسي بأحوال المؤمنين السابقين ليصور لهم حقيقة المستقبل الذي ينتظرهم وينتظر هذه الأمة الخالدة، فقال صلى الله عليه وسلم: (والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه) نعم، إن دين الله منصور منصور، منصور مع قلة العدد والعتاد، منصور مع كثرة المتربصين به والأعداء، ويتم الله جل وعلا أمر دينه، ويتحول خوف المؤمنين إلى أمن، وضعفهم إلى قوة، وقلتهم إلى كثرة، وفقرهم إلى غنى، وبعد أن كان الرجل من المؤمنين يتخفى في بيته داخل مكة حتى لا يشعر أحد المشركين بأنه يعبد الله وحده، وبعد أن كان المؤمنون يلتقون سرا خوفا من الأعين التي تتربص بهم، ذهب كل هذا وحل الأمن والأمان، وأصبح الرجل يقطع الصحراء الشاسعة آمنا مطمئنا لا يخاف كافرا يتربصه بل ولا لصا يترصده، يخاف الله وحده لا شريك له، وقد يحذر من بعض العوارض الطارئة كالهوام والسباع التي تعيش في الصحاري تبحث عن قوتها ورزقها.
ثم ختم النبي صلى الله عليه وسلم توجيهاته لهؤلاء الصحابة الذين أتوه يشكون ما نزل بهم، بأن نبههم إلى الأمر الذي يسبب لهم زيادة الضجر من فعال المشركين، وهو الاستعجال، فقال صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم تستعجلون) فالاستعجال ضد الصبر، والاستعجال يجعل المرء تغيب عنه حقائق الأمور وطبيعة الصراع بين الحق والباطل، ومع أن الاستعجال من الصفات المنتشرة في جنس الإنسان كما قال تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) إلا أن الله جل وعلا أرشدنا إلى الصبر، وبين لنا أن عاقبة الصبر إلى خير قال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وقال جل وعلا: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) وقال سبحانه: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) .
وقد حقق الله جل وعلا ما وعد به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم تمض سنوات قلائل على هذا الحديث حتى مكن الله جل وعلا لأوليائه، ونصر دينه، وهزم الشرك والمشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ودخلت جزيرة العرب في الإسلام، ودان للمسلمين ملك كسرى وقيصر، وصدق الله عز وجل القائل: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).