الشمطاء المتبرّجة!! – مجلة بلاغ العدد ٦٨ – رجب ١٤٤٦ هـ⁩⁩

الشيخ: المنصور بالله الحلبي

لبست ثياب الزينة، محاولةً إخفاء تجاعيد وجهها، وقد صبغت شعرها الناصع بياضًا بالألوان الجميلة المخادعة، تريد من ظهرها ألا ينحني، وألَّو كانت العكازة لا تُرى.

تمنت أن يجتمع في فمها ولو ثلاثة أسنان، فهي وإن بلغت من العمر تسعين عاما وتنتظر الموت في كل لحظة إلا أنها تطمع أن تفتن الرجال بنعومة وجهها وجمال ابتسامتها وألق صباها ولما يجاوز المئة عام!!

ولما برزت للرجال التفّ حولها من سمع عذوبة الكلام وجمال الرائحة، ونسي أن ينظر إليها ويكتشف أنها لا تملك من الجمال إلا الألوان والروائح المصطنعة، فهاموا في حبها، وغرقوا في عشقها حتى نبذتهم للشاطئ غرقى هلكى لا حراك لهم.

ولم أتكلم هنا إلا عن الدنيا!!

فكم من رجالٍ غرتهم بفتنتها، وسحرتهم ببريقها وعسل سُمّها، حتى إذا تمكنت منهم وأوثقتهم رباطًا خنقتهم بيدها فلم يحركوا ساكنًا.

ولذلك فإن الله تعالى حذر مرارًا وتكرارًا من خطرها، وأنها فانيةٌ زائلةٌ، فهي قصيرةٌ مهما طالت وحقيرة مهما عظمت.

وإن نعيمها ناقصٌ مؤقتٌ مغموسٌ بالنكد والتنغيص، وحلاوتها ممزوجةٌ بالمر والعلقم، وكفاها سوءًا أن الموت نهاية كل حيٍّ فيها.

حكم المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري

ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار

طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها

صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ

قال تعالى واصفًا سرعة انقضائها: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].

وأخبر بأنها حقيرةٌ فقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].

وكذلك فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد حقّرها جدًا فقال: «لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ»، وانتبه «لو كانت تعدل» فهي لا تعدل جناح البعوضة!!

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها»، وهل رأيت عاقلًا يترك سفره ويبني بيتًا تحت تلك الشجرة!

واسمع للأخطر من ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ»، فالفقر والضيق والكرب له طريقٌ واحدٌ وهو الصبر، أما انفتاح الدنيا فلا سبيل لعد الطرق فيها، والآيات والأحاديث وأقوال العلماء كثيرة جدًا جدًا في ذمها، واقرأ سير العبّاد والزهاد كيف أنهم ضلوا عندما ركضوا خلفها.

واليوم مع فتوح الشام وتحرر سوريا من الكفرة أوصي إخواني المجاهدين جندًا وقادةً ألا يغتروا بالدنيا ولا يقنعوا بها، فقضيتهم أغلى من الدنيا وما عليها، والآخرة خيرٌ وأبقى، وما عند الله خيرٌ للأبرار.

فالمناصب زائلة، والدنيا لا تساوي شيئًا مع لذة الجنة، فالدنيا بابٌ ومعبرٌ للآخرة، فطوبى لمن عرف حقيقتها، وكشف عن معدنها، فجعلها موطئاً للآخرة، ومعبرًا للجنة، وسبيلًا لرضا الله تعالى.

Exit mobile version