الحلال بيِّن والحرام بيِّن – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٤

جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

أخرج الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

* أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث، وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيره، وأنه ينبغي ترك المشتبهات، فإنه سبب لحماية الدين والعرض، وحذر من مواقعة الشبهات…

* وقد اعتبره العلماء يمثل ثلث الدين، يقول الإمام أحمد: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث؛ حديث: «إنما الأعمال بالنيات»، وحديث: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد»، وحديث: «الحلال بيّن»؛ وقال الجرداني رحمه الله: هذا الحديث قد أجمع العلماء على كثرة فوائده، ومن أمعن فيه وجده حاويًا لعلوم الشريعة؛ إذ هو مشتمل على الحث على فعل الحلال، واجتناب الحرام، والإمساك عن الشبهات، والاحتياط للدِّين والعِرض، وعدم تعاطي الأمور الموجبة لسوء الظن والوقوع في المحذور، وتعظيم القلب والسعي فيما يصلحه، وغير ذلك..

– وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْحَلاَلَ» بدأ صلى الله عليه وسلم بذكر الحلال لأنه الأصل؛ فالأصل في كل شيء الحل حتى تثبت حرمته، ولو تأملت في النعم لوجدتها حلالاً إلا ما ندر، وهذا النادر لم يحرَّم إلا لأن فيه ضرراً على الإنسان في حياته أو دينه أو عقله، فلو نظرت إلى ما حرم الله على عباده لوجدتها أشياء معدودة، أما ما عدا ذلك من نِعَمٍ في المأكَلِ والمشرب والملبس فهي حلال؛ إذ ليس في ديننا حرج أو مشقة، قال الله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32].

وفي قوله صلى الله عليه وسلم «بَيِّنٌ»: البيان هنا بمعنى الوضوح، فالحلال واضح جلي بَيِّن؛ لأن الله تعالى بيَّنَه وأظهره لعباده، وجعله واضحا كالشمس في علاها، وفي محكم التنزيل، يقول الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89]، وقال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التوبة: 115]، وهو أيضا (بَيِّنٌ) لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بيَّنَهُ للناس، قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].

– وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ»: فالحرام هو الممنوع، وهو كل ما نهى الله تعالى عنه في كتابه أو على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) [الأنعام: 119].

 

– «وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ»: فالأمر المشتبه: هو المشكل؛ لما فيه من عدم الوضوح، وهو الأمر الذي لم يظهر للإنسان على حقيقته، ولم يتبين له فيه الصوابُ أو الحِلُّ والحرمة، لا يعلم حكمها؛ لتنازع الأدلة. والمراد أنها تشتبه على بعض الناس دون بعض، قال النووي رحمه الله: الأشياء ثلاثة أقسام: حلال بيِّن واضح لا يخفى حله، كالخبز والفواكه والزيت والعسل، وحرام بيِّن، كالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح، والمشتبهات غير الواضحة الحل والحرمة؛ فلهذا قال: «لا يعلمهن»؛ أي: لا يعلم حكمها «كثيرٌ من الناس»، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإن من توفيق الله تعالى وفضله على هذه الأمة أنه لا يزال فيها من العلماء الربانيين من يعلمون مراد الله، ويبصِّرون عباد الله بما وهبهم الله من علم، وآتاهم من حكمة.

– وقوله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ»: فكلمة «اتَّقَى»؛ تثير في النفس معنى المراقبة لله -عز وجل-، واستحضار هيبته، واليقين بعلمه، وأنه يعلم الجهر وما يخفى، واتقاء الشبهات يحتاج إلى صبر ومعاناة ورَوِيَّة، وتحسَّب لكل خطوة أو قول أو فعل.

– «اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ»: أي طلب البراءة والنزاهة لدينه، وهو الأساس والأهم، ولعرضه: وهو في المرتبة الثانية، فإن المؤمن لا يجوز له أن يُعرِّض عرضه لحديث الناس بما يثيره من الشكوك حوله، فقد يستبرئ الإنسان للدين، ولكنه لا يهتم بالعرض، وهذا خطأ! فقد يقول في نفسه: طالما أنني أعرف نفسي، وأنني لم أرتكب المحرم، فلا عليَّ من كلام الناس، فيجلس في أماكن مشبوهة، أو يخالط أناسا مشبوهين، أو يأتي بتصرفات مشبوهة دون اهتمام لكلام الناس، وهذا منهج خاطئ، فالمسلم إذا كان طيب السيرة، حسن السمعة، جميل الذكر، فذلك أقوى لوجوده، وأجمل لمنهاجه، وأسرع لقبول دعوته في الناس، فمن ارتكب الشبهات فقد عرض نفسه للتهم والقدح والطعن، يقول بعض السلف: من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن.

– ثم يوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا جزئية مهمة، وصورة دقيقة لخطورة الوقوع في الشبهات؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ»، فأكثر من يستمتع بهذه الصورة من عرفها على الطبيعة، وأكثر ما يكون ذلك في القرى وفي البادية؛ حيث يكون هناك بعض أودية أو جبال أو أراض تُحمَى ويمنع الرعي فيها، وتسمى: الحمى؛ ومَن وقع في هذه الحِمى في فترة المنع فإنه يعاقب ويعزر، فيأتي بعض الرعاة بماشيتهم يرعون حول هذا الحمى، والأغنام حينما ترى خضرة المرعى تهرع إليه، وتنقض عليه، ومهما كان حزم الراعي وحرصه فإنهن يتفلتن من يده ويقعن في الحِمى، وقد كان بوسعه أن يسرح بها في أرض الله الواسعة خير له من هذا العناء والتوتر والمجازفة!. وهكذا النفس البشرية إذا اقتربت من مواطن الشهوات، ومراتع المغريات، فإنه يستهويها البريق، والأَولى أن يبتعد بها عن مواطن الخلل وأماكن الزلل؛ لكي لا يستهويها المظهر، فتودي بصاحبها إلى المهالك.

– ثم يوضح صلى الله عليه وسلم الصورة ويجليها فيقول: «أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ» فكما أنه لكل ملك من ملوك الدنيا حِمى لا يجرؤ أحد على القرب منه، فضلا عن انتهاكه أو الوقوع فيه، فإن أجَلَّ مَن يجب أن يخاف منه، وأعظم من يجب احترام محارمه، هو ملك الملوك -جل وعلا-؛ فإن له حِمى ممنوعاً ومحظوراً، وهو محارمه -جل وعلا-، وقد حذر -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم من الاقتراب من محارمه، أو انتهاك حدوده، فقال الله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة: 187]، وقال الله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 229]، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري: يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ».

* ولجمال الحديث عن القلب ومتعته يختم به النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم هذا الحديث المبارك؛ ولأن القلب هو أساس الصلاح، نفرد له الحديث في مقال آخر بإذن الله سبحانه وتعالى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٤٤ جمادى الآخرة ١٤٤٤هـ 

Exit mobile version