الحطَّاب حمدون | الواحة الأدبية |مجلة بلاغ العدد ٢٤ شوال ١٤٤٢هــــ

الأستاذ: غياث الحلبي

اعتاد حمدون أن يخرج كل يوم من بيته عندما تمد الشمس أذرعها الدافئة لتحتضن بها الأرض فيقصد إلى الإسطبل ليخرج حماره وينطلق به إلى الغابة فيمكث فيها بضع ساعات يجمع الحطب ثم يجعله في حزم ويضعه على ظهر الحمار ويقصد به السوق ليبيعه ويكسب نفقة يومه بشرف من عرق جبينه، ولا يحتاج أن يتسول الناس أو أن يقف بباب اللئام، وكان دائما يقول: “لأن أسفح عرق جبيني في كسب المال خير من أن أريق ماء وجهي عند اللئام”.

لم يكن ثمن الحطب الذي يكسبه يوميا يفيض عن حاجته، بل كان بالكاد يكفيه، وإن حدث ولم يخرج حمدون لجمع الحطب لمرض نزل به فهذا يعني أنه سيستدين أو يطوي ليلته دون عشاء.

وذات مرة وبينما حمدون عائدا إلى بيته بعد جمعه الحطب اعترضه قائد مفرزة الشرطة وطلب منه إبراز رخصة جمع الحطب.

فدهش حمدون، وقال: متى كان لجمع الحطب رخصة؟!

فقال: الرخصة أو مصادرة الحطب.

فقال حمدون: أبرز لي القرار الذي يشترط علي ترخيص جمع الحطب.

شعر الرجل بالحرج فلجأ إلى أسلوب آخر يخفي فيه حرجه، فقال لحمدون: يبدو أنك قليل الأدب ومتطاول على القانون، ولذلك سنعاملك بطريقتنا الخاصة، ثم أعطى أمرا لعناصر الشرطة بأن ينهالوا على حمدون بالضرب ويصادروا حطبه، وفي غضون دقائق كان حمدون مرميا على قارعة الطريق والدماء تسيل من أنفه وفمه، وقد امتلأ جسده بالكدمات، فيما حمل الجنود الحطب ومضوا به.

وفي الطريق سأل أحد الجنود قائده: متى صدر قانون الرخصة هذا؟

فقهقه القائد بصوت عال وقال للجندي: هدف القانون حماية المدينة، ونحن حماة المدينة، فأوامرنا وتصرفاتنا هي القانون، أليس من الظلم أن ننشغل نحن بحماية المواطنين وينشغلون هم بالعمل والكسب وجمع المال؛ لذا فنحن –حماة المدينة- شركاؤهم في كسبهم.

وهنا صرخ الجندي قائلا: صدقت يا سيدي نحن حماة الديار نحافظ على بيضة الشعب، ولولا نحن لضاعت أموالهم، كم هو حقير هذا الحطَّاب وهو يريد أن يمنعنا من أخذ الحطب دون أن يُقدِّر جهودنا.

ودغدغت هذه الكلمات غرور القائد فقهقه وقال: يظلمنا الناس باعتراضهم على أفعالنا التي فيها مصلحة المدينة!

عاد حمدون إلى بيته والألم يملأ قلبه، فهل يعقل أن يُسلب الفقير قوت يومه الذي لا يجد سواه، والسالب هم المكلفون بحمايته أصلا؟

دخل حمدون بيته فاستقبلته زوجته وقد امتلأ قلبها خوفا وسارعت تمطر حمدون بسيل أسئلتها: من فعل بك هذا؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟

فقال حمدون: دعيني أرتاح أولا فأسئلتك المتتابعة وأنا في هذه الحالة أشد علي مما جرى لي.

وبعد أن ارتاح قليلا وغسل جراحه حكى حمدون لزوجته ما جرى له، وبيْن كل جملتين كان يذكرهما حمدون كانت زوجته تطلق من فمها دعوة على أولئك الظالمين بالدمار والهلاك وأنواع الأمراض والأوبئة والآفات والمصائب والرزايا.

وبعد أن انتهى من حديثه سألته: وماذا ستفعل الآن؟ والأهم من ذلك: ماذا سنأكل اليوم؟

فقال لها: تدبري أمر طعامك وأولادك اليوم، أما أنا فلا حاجة لي بالطعام فقد أكلت من الصفع والركل والعصي ما أتخمني، وسأذهب الآن لأشكو أولئك المجرمين إلى حاكم المدينة.

وتوجست الزوجة شرا من ذكر الحاكم فأرادت أن تثني زوجها عن عزمه، فقالت له: ولم لا تستشير الحكيم أولا؟

فقال الزوج: نعم الرأي.

كان الرجل الحكيم يقيم في طرف المدينة بعيدا عن مخالطة الناس، وكان مشهورا بفطنته وذكائه وخبرته الواسعة بخفايا النفوس البشرية، إضافة إلى ندرة كلامه، فهو لا يجيب السائل إلا بجملة واحدة لا يثنيها.

ذهب حمدون إلى الرجل الحكيم وقص عليه القصة وأخبره أنه عازم على رفع الأمر إلى الحاكم.

فقال له الحكيم: “الكلب لا يعض ذنبه” وسكت.

وعلم حمدون أن الزيارة قد انتهت، فانحدر عائدا إلى بيته وقد شعر أن الشكوى عند الحاكم لن تنفع، ولكنه حزم أمره متوجها إلى قصر الحاكم قائلا: “إن لم تنفع الشكوى فلن تضر”، فلما دخل على الحاكم أخبره بما جرى.

فأظهر الحاكم تألمه الشديد وأمر على الفور بتشكيل لجنة تستمع إلى أقوال الطرفين ثم ترد الحق إلى صاحبه.

وما إن خرج حمدون حتى دخل قائد المفرزة ومعه أمتعة وأطعمة كثيرة، ومن بينها حزم الحطب التي سلبها من حمدون، وقال: هذه مصادرات اليوم يا مولاي، وهذه الحزم مصادرات من التعيس الذي كان عندك قبل قليل، وأظنه كان يشكوني.

قهقه الحاكم وقال: نعم، إنه شخص جاحد لفضلنا عليه، ولكني سأجعله عبرة لكل من تسول له نفسه الاعتراض على رجالي رجال الأمن حماة الديار.

وشكلت المحكمة وعقدت الجلسات واستمعت إلى الأطراف، ثم صدر الحكم بمصادرة الحمار؛ لأن حمدون لا يملك رخصة قيادة للحمار، وبتكريم قائد المفرزة لجهوده المضنية المبذولة لحماية المواطنين وتوفير أسباب الراحة لهم.

رجع حمدون إلى بيته وهو يشعر بالقهر الشديد والندم الكبير؛ لأنه أهمل نصيحة الرجل الحكيم، ولينسى شيئا من همه وغمه ذهب ليسهر عند بعض رفاقه، ولما استقر به المجلس قص ما جرى معه.

فقال له صديقه الجزار: أما أنا فقد جاءني قائد المفرزة وطلب مني شهادة نسب الخروف المعلق بالكلاليب وأنه وُلد من سلالة سليمة، ولما أبديت استغرابي صادر الخروف، فذهبت إلى الحكيم فقال لي بعد أن استشرته في الشكاية: “لا يستقيم الظل والعود معوج”، فشكوت أمري إلى الله.

وأما بائع الخضار فانبرى يقول: لقد جاء إليَّ وملأ ثلاثة أكياس كبيرة من الفواكه والخضار، وقال لي: سنفحصها هل تصلح للاستهلاك البشري أم لا!

وهنا عدَّل الخياط من جلسته، وقال: لقد جاء إلي وسلبني ثوبا فاخرا من الحرير زاعما أن هناك من سرق كمية من ديدان القز وأنهم سيأخذون البصمات من الثوب لعلهم يتوصلون للسارق، وقد ترافقتُ مع بائع الخضار إلى الحكيم الذي قال لنا: “لو لم يغض القط الطرف لما لعب الفأر” فضربنا صفحا عن الشكوى.

 

ثم جاء دور النجار ليقول: لعلي لست أسوأكم حظا؛ فقد جاءني وأخذ يجول بناظريه في حانوتي، وعلمت أنه يبحث عن ذريعة ليسلب شيئا من الدكان، فبادرته قائلا: أريد أن أتشرف بالمساهمة في دفع ثمن طعام الفطور لرجال أمننا البواسل، وأتمنى ألا تحرمني شرف تلك المساهمة اليسيرة، فكم ثمن فطوركم؟ فضحك قائد المفرزة قائلا: يعجبني المواطن الذي يعرف مصلحته ومصلحة المدينة، ثمن الفطور عشرة دراهم، فدفعتها إليه وانصرف.

وقد تعجب قائد المفرزة وهو يرى كل من يظلمه يذهب مسارعا إلى الرجل الحكيم، فقرر أن يذهب إلى الحكيم ليرى ما لديه.

فركب حمار حمدون المصادر وذهب إلى الرجل الحكيم، فلما دخل عليه عرَّفه بنفسه ثم أخذ يقص عليه منجزاته الأمنية الوهمية التي لا تنتهي، ولما فرغ قال الحكيم جملتين على خلاف عادته، قال: “أحمق من يأمن تقلبات الزمان” و”الواثق بصبر المظلوم كالواثق بالبركان الذي يوشك أن ينفجر”.

انتهت.

الأستاذ غياث الحلبي

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٤ شوال ١٤٤٢ هـ

الحطَّاب حمدون | الواحة الأدبية |مجلة بلاغ العدد ٢٤ شوال ١٤٤٢هــــ
الحطَّاب حمدون | الواحة الأدبية |مجلة بلاغ العدد ٢٤ شوال ١٤٤٢هــــ

 

الحطَّاب حمدون | الواحة الأدبية |مجلة بلاغ العدد ٢٤ شوال ١٤٤٢هــــ

Exit mobile version