الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
مع بداية طوفان الأقصى والذي دمر الكيان الصهيوني فقضى على مقاتليه وضباطه ودمر آلياته، طوفان بكل معنى الكلمة استخدم شتى الوسائل والأدوات جوًا وبحرًا وأرضًا ومن تحت الأرض، طوفان أغرق أخبث مشروع غربي استعماري في الوطن العربي كلف القائمين عليه مليارات مليارات الدولارات، طوفان أحدث ثورة جديدة في عالم الحروب والعسكرة وكسر الفكرة النمطية في التعلل بالأسباب وقلة الموارد وشماعة التصنيف وفرض القيود بعدم القدرة والاستطاعة، طوفان وصل إلى جميع المستويات العالمية الإنسانية والفكرية والعسكرية والاقتصادية والسياسية وأهمها الدينية ثورة وانتفاضة جديدة حركت الشعوب وفضحت آخر ما كان يستتر خلفه الغرب من رحمة وإنسانية.
فكان لكل جهة أو مجموعة من الناس ردة فعل ترجمت على الأرض واقعًا بالتظاهر أو التنديد أو الرفض أو نشر القضية على مستوى العالم أو فضح القتلة المجرمين.
حرك طوفان الأقصى مشاعر المسلمين فاشتهوا الجهاد سبيل الله، هذه الشعيرة التي قصروا فيها في شتى بقاع الأرض سوى عصبة قليلة من المجاهدين التزمت أمر ربها وسنة نبيها وحملت لواء الجهاد تنصر المظلوم وترد الظالم وتقيم حكم الله في أرضه.
مع طوفان الأقصى هاجت أمواج المسلمين لعز مفقود وذل معقود، أحسو أن شيئًا ما أغلى وأثمن من الطعام والشراب والملبس والسفر والتمتع وقضاء الشهوة، فغالب الشعوب المسلمة تركت الجهاد فعاشت حالة من الخور والضعف والذل والضياع، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إذا تبايعتم بالعِينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ ورضيتم بالزرعِ وتركتم الجهادَ سلط اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعُه شيءٌ حتى ترجعوا إلى دينِكم».
ركن المسلمون إلى الدنيا؛ لهو فارغ وبضاعة مزجاة وبطولات هوليودية زائفة استفرغت قواهم وضيعت شبابهم وسلطت عليهم أعداءهم، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ».
فاشتهى كثير من المسلمين الجهاد في سبيل الله، اشتهوا حياة العزة والأنفة والقوة وفرض الكلمة وبسط السيطرة ومراغمة العدو وكسره وقهره، وحنوا إلى ماض تلد وأرادوا خلق حاضر مجيد وعيش رغيد.
هذه الشهوة قد تنقضي عند الكثير من المسلمين بمخدرات مؤقتة لحظية كنشر صورة مجاهد أو وضع صورة علم فلسطين على الحساب الشخصي أو نشر دعاء أو مشاهدة مقطع حرق آلية للعدو على أيدي المجاهدين، لحظات وتنقضي هذه الشهوة.
أما الفرق بين الفريضة والشهوة:
*الفريضة: هي الحكم الذي جاء بصيغة الأمر والإلزام، أي أمر به الشرع أمرا جازما بحيث لم يترك الاختيار للمكلف في فعله وتركه، ويثاب فاعله ويأثم تاركه ويستحق العقاب.
*الشهوة: هي ميل النفس إلى ما تريده والسعي إلى إشباع ذلك الميل، ينتهي هذا الميل بإشباع الرغبة.
وشتان شتان؛ بين الفريضة والشهوة..
شتان بين فريضة تؤدى بعبادة وعُمرٍ ووقتٍ ودمٍ ولحمٍ وجراحٍ وتضحيات وبين شهوة تقضى بلحظة عابرة دون جهد أو تعب، فالجهاد في سبيل الله فرض وعبادة لها شروط وواجبات وسنن وأركان، يجب تحقيقها والعمل عليها ومتابعتها والثبات عليها، بينما الشهوة لحظة عارضة وتختفي، والجهاد فريضة شاقة هي ذروة سنام الإسلام، ولا تثبت الشهوة على الذروة إلا بتوفيق من الله.
*الجهاد عبادة لا شهوة لها فرائض وأركان وسنن:
جميع العبادات والفرائض التي فرضها الله عز وجل على عباده المؤمنين حددها بأركان وشروط وواجبات وسنن، وكذلك الجهاد في سبيل الله له أركان وشروط وواجبات وسنن لا يتم الجهاد إلا بها ولا يقوم إلا عليها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إذن فكيف نجمع بين هذا القول وقولهم جهاد الدفع لا يشترط له شرط كما ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط -كالزاد والراحلة- بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم”، نقول هنا حال الجهاد كحال الصلاة لمن أتم سن البلوغ وهو لا يصلي ولا يعرف أحكام الصلاة، فنقول له: أنت مكلف بالصلاة ولو كنت لا تعرف أحكامها، فتتعلم أحكام الصلاة وأركانها وتبدأ بها فورا ولا تتأخر عنها ولو وقعت في بعض الأخطاء، وكذلك الجهاد لا يشترط له شرط قبل التكليف فإن صار المسلم مكلفا لزمه القيام بالجهاد مع تعلم أحكامه من إعداد العدة والتجهيز والقتال والرباط والغزو وعليه إفراغ الوسع في التعلم وعدم التهاون والتقصير بالأخذ في الأسباب لتجنب الهلكة أو سفك الدم الحرام والحفاظ على إخوانه المجاهدين خاصة وأموال وأنفس المسلمين عامة، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.
هذا هو الجهاد في سبيل الله أركان وأحكام وسنن وأسباب.. وشتان شتان؛ بين فريضة وشهوة..
مع طوفان الأقصى ازداد انتشار شهوة الجهاد بين المسلمين مجاهدهم وقاعدهم، أما شهوة الجهاد للقاعد فنسأل الله عز وجل أن يرزقه حلاوته وعزه ونصره وفتحه والثبات عليه، أما الشهوة عند المجاهد في سبيل الله فغالبا ما تكون عن شبهة أو إشباع رغبة في نفسه قد توصله إلى التقصير في الجهاد أو تركه أو الوقوع في معصية أو الانتكاس بعد الثبات نسأل الله العافية، خاصة وأن المجاهد قائم على ثغر يتعبد الله في هذه الفريضة فلا بد له من أداء أحكامها وأركانها على وجهها الأمثل.
_ أنواع الشهوة بين المجاهدين:
*شهوة التنافس والحسد وحب القيادة: عن أبي يحْيَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنه، أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، ألَا تَسْتَعْمِلُنِي كما اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا؟ قالَ: «سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حتَّى تَلْقَوْنِي علَى الحَوْضِ» صحيح البخاري.
*شهوة القعود: وشهوة القعود والتخلف عن الجهاد تكون لأسباب تختلف باختلاف الحال، منها:
أ_ النفاق ومخالفة النبي صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه}، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اغزوا تغنموا بنات بني الأصفر»، فقال ناس من المنافقين: إنه ليفتنكم بالنساء، فأنزل الله: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي}.
ب_ الكسل: قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} ودائما ما يتحجج الكسالى والمنافقون بحرِّ الصيف وبرد الشتاء.
ج_ الطمع في الدنيا: قال تعالى: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} يقول الطبري في تفسيره رحمه الله: “استأذنك ذوو الغنى والمال منهم في التخلف عنك، والقعود في أهله وقالوا لك: دعنا، نكن ممن يقعد في منـزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم، ومن لا يقدر على الخروج معك في السفر”.
*شهوة الغرور والإعجاب بالنفس: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} فكان تأديب الله عز وجل لعباده الذين قالوا: “لن نغلب اليوم عن قلة” يوم حنين أن أصابهم فأنزل عز وجل: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}.
*شهوة الهوى لا النفع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدرهم، تعس عبدُ الخميصة، تعس عبدُ الخميلة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يُؤذن له، وإن شفع لم يُشفع» وهنا ضرورة الامتثال للأمير في فعل الأنفع للجهاد والقيام على الثغر الأهم لا القيام بها تهوى النفس وتحب، فقد تشتهي النفس الإغارة والقتال والثغور فارغة لا تجد أحدا يرابط عليها، أو يحب أحدهم الجهاد بالقنص أو الإعلام وثغر المدفعية فارغ لا تجد أحدا يرابط عليه، أو ربما كان شيخا أو طالب علم يشتهي الرباط والمجاهدون في المعسكرات بحاجة من يعلمهم ويفقههم في دينهم وهكذا.
*شهوة الرياء: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ. وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ..» رواه مسلم، وهذه من أشد أنواع الشهوات ضررًا على المجاهد في سبيل الله.
الجهاد في سبيل الله فريضة لا شهوة، وحالنا اليوم بعض القاعدين يشتهي الجهاد وبعض المجاهدين يشتهي القعود، بعض المجاهدين يشتهي أن يجاهد بالمال أو الإعلام أو الدعوة لا الرباط على الثغور، وبعضهم يشتهي الجهاد بالخبرة لا بالبذل والتضحية أو العكس، وبعضهم يشتهي الجهاد بالأحب لهواه لا بالأنفع لدينه وأمته.
رأيت قبل مدة مقطعًا تحريضيًا للجيش الأوكراني يعرض فيلمًا تحريضيًا للعبة حرب إلكترونية وفي نهاية المقطع كتبت عبارة: “آن للعب أن يصبح حقيقة”، يريدون أن يستخدموا الشهوة عند الهواة في استخدام الألعاب الالكترونية ليحشدوا مقاتلين شهوانيين للقتال ضمن صفوفهم بدل مقاتلين أصحاب ولاء وبراء وعقيدة، ولكن شتان شتان؛ فالجهاد فريضة لا شهوة، وشتان بين من ينفر لأداء عبادة يتقرب بها إلى الله يثبت عليها رغم الشبهات والشهوات وبين من ينفر لقضاء شهوة ليهرب مع أول طلقة في معركة حقيقية على أرض الميدان.
المجاهد الحق لا يقف على نوع واحد للجهاد كالقتال أو الرباط أو الدعوة أو الإنفاق، بل يحاول بكل استطاعته أن يجمع جميع أبواب الجهاد فيبذل فيها وسعه واستطاعته، كمباشرة القتال والرباط والحراسة والإنفاق والتجهيز والإعداد والتدرب والتدريب والدعوة إلى الله بالقول والفعل، كل هذا البذل والعطاء ليصل إلى تحقيق فريضة الجهاد على وجهها الأمثل لا لقضاء شهوة، فالجهاد فريضة ينبغي أن تؤدى كما فُرضت لا كما اشتُهيت، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} جاء في تفسير السعدي رحمه الله، قوله: “والجهاد بذل الوسع في حصول الغرض المطلوب، فالجهاد في الله حق جهاده، هو القيام التام بأمر الله، ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك، من نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ووعظ، وغير ذلك”.
أخيرًا لكل عبادة ثمرة يجب أن نصل إليها، فإن لم نصل فلابد أن أفعالنا خاطئة أو شابتها الشهوات والشبهات، أو أننا سلكنا طريقًا خاطئًا أو أننا بحاجة إلى مزيد جهد وبذل وإخلاص حتى نصل ونقطف الثمار، فالزم طريق الحق واستقم كما أمرت واعبد الله على بصيرة واسأل الله السلامة والعافية والصبر والثبات والنجاح والفلاح.
اللهم اجعلنا ممن اجتبيته فجاهد فيك حق الجهاد فأبعدته عن الشبهات والشهوات، وباركت جهاده وجعلته خالصًا لوجهك الكريم على النحو الذي ترضى به عنه، اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين المخلِصين المخلَصين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إنك ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.