الجهاد بلا غاية ارتزاق – مجلة بلاغ العدد ٦٤ – صفر ١٤٤٦ هـ

الشيخ: أبو حمزة الكردي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛

 

حديثنا اليوم عن تحقيق غايات عظيمة جليلة من عبادة الجهاد وهي نصرة المظلومين والمستضعفين ودفع العدو الصائل وتحقيق العدل والسلام والأمن والأمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه الغايات العظيمة الجليلة الحقيقية للجهاد في سبيل الله.

ليس الجهاد مجرد خرقة تُرفع أو بُرقع وأفغانية تُلبس أو لحية تطلق، بل هناك غايات أسمى وأرقى وبدونها يتحول “الجهاد” إلى “ارتزاق” وعمل وعادة تشبه العمل اليومي كالمرافق الشخصي يحمل سلاحه ليعمل حارسًا شخصيًا لمن يدفع له أكثر ويعطيه طعامًا وشرابًا ولباسًا.

 

هذه الغايات العظيمة الجليلة والتي بدونها يتحول “الجهاد” إلى “ارتزاق” يشبه العمل اليومي كالفلاح يحمل معوله أو فأسه ليعمل مزارعًا في أرض من يدفع له أكثر ويعطيه طعامًا وشرابًا ولباسًا.

 

هذه الغايات العظيمة الجليلة والتي من دونها يتحول “الجهاد” إلى “ارتزاق” يشبه العمل اليومي كالمعلم يحمل قلمه وكتابه ليعمل مدرسًا لمن يدفع له أكثر ويعطيه طعامًا وشرابًا.

 

مع أن هذه الأعمال الدنيوية كالارتزاق من عمل الحراثة والتدريس والمرافقة الشخصية سبب لطلب الرزق الحلال إن ابتُغي فيها وجه الله والكفاف عن الحرام ضمن عمل دنيوي يُؤجر المرء عليه، بينما في الجهاد لا يُقبل من المرء المجاهد مثقال ذرة إن خالطت دنياه أو هواه جهاده، أو ابتعد عن مضمون الجهاد وهو الغاية التي خرج لأجلها بداية وهي نصرة المظلومين والمستضعفين ودفع العدو الصائل وتحقيق العدل والسلام والأمن والأمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

لذا في البداية يجب أن نعلم أن الله عز وجل جعل لكل عبادة غايةً ساميةً ومعانٍ عظيمةً وحلاوةً قلبيةً يجب أن نحققها ونصل إليها عند أداء العبادة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوَةَ الإيمانِ: أنْ يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبُّ إليه مِمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المرْءَ لا يُحبُّهُ إلَّا للهِ، وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ بعدَ إذْ أنقذَهُ اللهُ مِنْهُ؛ كَما يَكرَهُ أنْ يُلْقى في النارِ» صحيح البخاري ومسلم، فما لم تتحقق الغاية من العبادة على الوجه الأمثل لن تذوق حلاوة الإيمان ولن تشعر بلذة هذه العبادة والطاعة.

فالغاية من الصيام استجابة أمر الله عز وجل والوصول إلى التقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ومن غاياته أيضًا تطويع النفس وتربيتها والزهد في الدنيا وشهواتها وملذاتها والانقطاع عنها مع الإحساس بالفقراء وما يقاسونه من ضيق وحاجة واستشعار نعم الله الكثيرة على العبد والتي لا تعد ولا تحصى.

 

وكذلك الغاية من الصلاة الاستجابة لأمر الله عز وجل وتفريجٌ للهموم والكروب، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:97-98] ومن غاياتها أيضًا أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتدرب العبد الانقياد والطاعة لله عز وجل وتعلمه الالتزام والانضباط في أوقاته ومواعيده وحياته.

 

أما الغاية من الزكاة الاستجابة لأمر الله عز وجل وكسر شهوة النفس وحب التملك وكنز الأموال والذهب دون الإنفاق منها بالصدقة والزكاة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] ومن غاياتها أيضًا تعلم البذل والإنفاق في سبيل الله، وتذكر الفقراء والمساكين والمحتاجين وحقهم في مالك الخاص وتطهير للمال مما قد يصيبه من باطل أو مال حرام.

 

أما الغاية من الحج الاستجابة لأمر الله عز وجل وتذكر العقاب والحساب واليوم الآخر، ولماذا خلقنا الله وأننا مبعوثون إليه ليحاسبنا بما عملنا وما كسبت أيدينا ومن غاياته أيضًا أن الخلق متساوون عند الله جميعهم لا فرق بين عربي وأعجمي وأحمر وأسود وأبيض إلا بالتقوى والعمل الصالح.

 

أما الغاية من الجهاد الاستجابة لأمر الله عز وجل، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة:216] ومن غاياته أيضًا الدفاع عن المستضعفين والمقهورين قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء:75] ومن غاياته رفع الظلم ودفع الصائل على الدين والأرض والعرض ونشر دين الله عز وجل، قال رِبعِيُّ بنُ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه لرُستُمَ قائِدِ الفُرسِ لمَّا سَأله: ما جاءَ بكم؟ فقال: “اللهُ ابتَعَثنا لنُخرِجَ مَن شاءَ مِن عِبادةِ العِبادِ إلى عِبادةِ اللهِ، ومِن ضِيقِ الدُّنيا إلى سَعَتِها، ومِن جَورِ الأديانِ إلى عَدلِ الإسلامِ، فأرسَلَنا بدينِه إلى خَلْقِه لنَدعوَهم إليه، فمَن قَبِل ذلك قَبِلْنا منه ورَجَعْنا عنه، ومَن أبى قاتَلْناه حتَّى نَفيءَ إلى مَوعودِ اللهِ”.

فإن لم تتحقق غايات العبادات من تقوىً وصلاحٍ وبذلٍ وإنفاقٍ وتضحيةٍ وشهادةٍ وتعبٍ ونصبٍ تذوق حلاوته واقعًا في حياتك وتتجرد هذه العبادات من مضمونها الحقيقي فقد سقطت باء العبادات فصارت عادات ولا يؤجر العبد على هذه العادات.

 

فيتحول الصوم إلى تعب وجوع وعطش، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ…» صحيح ابن ماجه والنسائي.

 

وتتحول إلى الصلاة إلى عادات رياضية بدنية لا تزيل الهموم والكروب ولا تريح صاحبها ولا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «…وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ» صحيح ابن ماجه والنسائي.

 

ويتحول الحج إلى سياحة وسفر مصحوب بالتعب وربما الهلاك حين يكون من المال الحرام أو لم يبتغ به وجه الله عز وجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرجَ الرجلُ حاجًّا بِنَفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، ووضعَ رِجْلَهُ في الغَرْزِ، فَنادَى: لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، نادَاهُ مُنادٍ مِنَ السَّماءِ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ زَادُكَ حَلالٌ، ورَاحِلَتُكَ حَلالٌ، وحَجُّكُ مَبْرُورٌ غيرُ مَأْزُورٍ، وإذا خرجَ بِالنَّفَقَةِ الخَبيثَةِ، فوضعَ رِجْلَهُ في الغَرْزِ، فَنادَى: لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، نادَاهُ مُنادٍ مِنَ السَّماءِ: لا لَبَّيْكَ ولا سَعْدَيْكَ، زَادُكَ حرامٌ, ونَفَقَتُكَ حرامٌ، وحَجُّكَ غيرُ مَبْرُور».

 

ويتحول “الجهاد” في سبيل الله إلى “العمل” أو “الارتزاق” في سبيل الجماعة أو الأمير أو الهوى والمصلحة حسب ما يُقاد الرجل حين يتبع هواه ويخالف أمر الله عز وجل، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “سُئِلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذلكَ في سَبيلِ اللهِ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ»” صحيح مسلم.

 

لكن الفارق الأهم بين العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والحج وبين الجهاد أنها غيبية القبول لا يعلم قبولها أو ردها سوى الله عز وجل تكون بين العبد وربه بمجرد أدائها، بينما الجهاد ظاهر واضح ليس فيه شيء غيبي أو سري حين لا تتحقق أية غاية من غاياته.

فمن يقاتل لأجل منصب أو كرسي هذا ليس في سبيل الله، ومن يقاتل لأجل المال والراتب فهذا ليس في سبيل الله، ومن يرى المنكرات الكفرية العلنية الواضحة فهذا ليس في سبيل الله، ومن يرى الاعتداء على الأعراض وهتك الحرمات وكشف ستر البيوت فهذا ليس في سبيل الله، ومن يسكت أو يقبل بمثل هذه الأفعال فهذا ليس مجاهدًا في سبيل الله وجهاده ناقصٌ ومردودٌ عليه، وقد وضح الله عز وجل في كتابه أهم أسباب الجهاد وقيامه، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39-40]

وبين في موضع آخر فقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء:75]

والأرض التي ترى فيها قتلًا وظلمًا وفسادًا وخرابًا واعتداءً على الحرمات وسجنًا للعلماء والمجاهدين وسرقة سلاح المرابطين فاعلم أنها أرض محتلة مغصوبة وإن ادعى أهلها الجهاد ووجود المجاهدين، فالأرض المحررة واضح المعالم والأركان يسودها العدل والحرية والكرامة وخاصة كرامة الإنسان فهي فوق كل كرامة واعتبار ومكسب.

 

وحين تكلم العلماء في جهاد الدفع لم يضعوا له شروطًا بل أوجبوا النفير العام المباشر لتحقيق غاياته التي شرع لأجلها ومنها نصرة الأعراض والمظلومين والمضطهدين، قال ابن تيمية رحمه الله: “وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط -كالزاد والراحلة- بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم” فمن كان جهاده ورباطه لا يحقق شيئًا مما ذكره ابن تيمية رحمه الله فهو “مرتزق” يعمل بالسلاح ليأكل ويغنم ويرتزق، لا ليجاهد.

 

وقد أكد على تحقيق الغايات من الجهاد حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ربما ينصر الدين بأقوام أصحاب معاص أو فجار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «…إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» صحيح البخاري. وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بأقوامٍ لا خَلاقَ لهم».

 

وعندما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزو؟ فقال: “أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه، لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر”، فقدم الفاجر القوي على الصالح الضعيف لأجل تحقيق الغاية فهنا مكان تحقيق الغاية.

الخلاصة: أنه ربما تكون مجاهدًا حليق اللحية أو ذا شعر بقصة قزع أو مدخنًا أو تتكلم بكلام سيِّئ بذيء أو تلبس الضيق ولا تلتزم السنة لكن الله يكتب نصر هذه الأمة على يديك.

وفي المقابل قد تكون مجاهدًا ذا لحية لا تحلق القزع ولا تدخن ولباسك فضفاض وملتزمًا بالسنة والجماعة والمسجد ولكنك ضعيف جبان لا تستطيع أن تنتصر لنفسك.. فكيف تنتصر لأمتك ودينك وقومك!!!!

وأين تحقيق الغاية التي خرجت لأجلها ونصبت لواء الجهاد وعقدت عليها ألا وهي نصرة المظلومين والمستضعفين ودفع العدو الصائل وتحقيق العدل والسلام والأمن والأمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

 

وأسوأ الأنواع المقاتلين “مجاهد” “مرتزق” لا يلتزم أمر الله عز وجل ولا يتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويستغل سلاحه وجهاده للارتزاق والاعتداء على حرمة البيوت والمسلمين والمجاهدين، فلم يقتصر فجوره على نفسه وقوته للأمة بل تحول فجوره على المسلمين وسلم منه الأعداء.

 

أخيرًا؛ يبقى النموذج الأفضل للمجاهد في كل زمان ومكان هو المجاهد الملتزم بأوامر الله عز وجل المتبع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا ظاهرًا وباطنًا سرًا وعلنًا في العسر واليسر والمنشط والمكره كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ مَعايشِ النَّاسِ لَهُم، رجلٌ مُمسِكٌ بعَنانِ فرسِهِ في سبيلِ اللَّهِ، ويَطيرُ على مَتنِهِ، كلَّما سمعَ هيعةً أو فزعةً، طارَ عليهِ إليها، يَبتغي الموتَ أوِ القتلَ مظانَّهُ..» صحيح ابن ماجه.

 

اللهم اجعلنا مجاهدين صادقين هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين ممن ينصر دينك وعبادك، إنك على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.

 

Exit mobile version