جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
امتنَّ الله على عباده بنعمٍ ظاهرةٍ وباطنة، ولا تتمُّ نعمةٌ إلا بالدين والثبات عليه من التحوُّل أو النقصان من أشق الأمور، قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِر أن يقول: «يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» فقلتُ: يا رسول الله: آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخافُ علينا؟! قال: «نعم، لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يُقلِّبها كما يشاء» رواه الترمذي، ومن دعاء الصالحين: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [آل عمران:8]، والشيطان راصدٌ للإنسان في كل سبيلٍ لإفساد دينه، قال عليه الصلاة والسلام: «إن عرش إبليس على البحر، فيبعثُ سراياه فيفتنِون الناس، فأعظمُهم عنده أعظمُهم فتنة» رواه مسلم.
والفتنُ من أعظم المُؤثِّرات على الدين، فلا تعرفُ سنًّا ولا جنسًا ولا بلدًا، وهي تُمحِّص القلوبَ وتُظهِرُ ما فيها من صدقٍ أو ريب، فتتعرَّض لكل قلبٍ فيسقط فيها أقوامٌ وينجو آخرون، قال عليه الصلاة والسلام: «تُعرضُ الفتنُ على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَت فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَت فيه نُكتةٌ بيضاء» رواه مسلم.
وهي كثيرةٌ، وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «بادِروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المُظلِم» رواه مسلم.
ولا تدَعُ بيتًا إلا دخَلَته، قال عليه الصلاة والسلام: «إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القَطر» متفق عليه.
وكلما فُتِحت نعمةٌ نزلَت معها فتنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ماذا فُتِح الليلة من الخزائن وماذا أُنزِل من الفتن؟!» متفق عليه.
وإذا بعُد الناس عن زمن النبوة ظهرَت الفتن، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تقومُ الساعةُ حتى يُقبَض العلمُ، وتكثُر الزلازل، ويتقارَب الزمانُ، وتظهرَ الفتن» رواه البخاري.
وهي تتوالَى على العبد إلى مماته، وقد تأتي بمُهلِكته وقد تتدرَّج عليه، قال عليه الصلاة والسلام: «إن أمتي هذه جُعِل عافيتُها في أولها، وسيُصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تُنكِرونها، وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضُها بعضًا، وتجيءُ الفتنةُ فيقول المؤمنُ: هذه مُهلِكَتي، ثم تنكشِفُ وتجيءُ الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويدخل الجنةَ فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه» رواه مسلم.
وخطَرها كبير، من دنا منها أخذَته، ومن حام حول حِماها أوقَعَته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشرَّف لها تستشرِفه» متفق عليه.
منها ما هو كبير يمُوج كموج البحر، ومنها ما هو دون ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعُدُّ الفتن: «منهن ثلاثٌ لا يكَدنَ يذَرنَ شيئًا، ومنهن فتنٌ كرياح الصيف منها كبار ومنها صغار» رواه مسلم.
منها ما تُخرِج المرء من الدين، قال عليه الصلاة والسلام: «يُصبِحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، أو يُمسِي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، يبيعُ دينَه بعرَض من الدنيا» رواه مسلم، قال النووي رحمه الله: “وهذا لعِظَم الفتن ينقلِبُ الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب”.
والفتن تصقُل النفوس وتهذِّبها، فتشكر ربَّها عند النعماء، وتصبر عند البلاء.
والخلقُ يُفتنُ بعضُهم ببعض، قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، قال ابن القيم رحمه الله: “وهذا عامٌّ في جميع الخلق، امتحنَ بعضَهم ببعض، فامتُحِن الرسل للمُرسَل إليهم، والمُرسَل إليهم بالرسل، وامتُحِن العلماء بالجهَّال، وامتُحِن الجهَّال بالعلماء، وامتُحِن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالأغنياء”.
والمالُ فتنةُ هذه الأمة، كما قال عليه الصلاة والسلام: «فتنةُ أمتي في المال» رواه الترمذي، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوَّذ من فتنته يقول: «وأعوذ بك من فتنة الغِنى ومن فتنة الفقر» متفق عليه.
وخشِيَ عليه الصلاة والسلام على أمته كثرةَ المال والمنافسةَ في جمعه، فقال: «واللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَت على من كان قبلكم، فتنافَسُوها كما تنافَسُوها، فتُهلِكَكم كما أهلكَتهم» متفق عليه.
ومن فتنته: جمعُه سواءٌ من حِلٍّ أم من حرام، قال عليه الصلاة والسلام: «يأتي على الناس زمانٌ لا يُبالي المرءُ ما أخذَ منه أمِن الحلال أم من الحرام» رواه البخاري.
والدنيا تزيَّنت لأهلها وفتحَت أبوابها في الصناعة والآلة والبناء وغيرها، والمرءُ قد يُفتنُ بما يراه فيها، وينسى أن الله هو الذي وهبَ للإنسان العقلَ وسخَّر له الأرضَ وما فيها لتكون عونًا للإنسان على طاعة ربه، وحذَّر أن تكون تلك النعمُ صادَّةً عنه، وإذا استكبَر بما صنعَه وانبهَر بما رآه فالأُمم السابقةُ قد فُتِح لها من القوة والمال والولد ما لم يُفتَح لهذه الأمة، قال سبحانه: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} [التوبة: 69]، ولا عاصمَ من الفتن إلا ما عصمَ الله، قال سبحانه: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41].
والدعاء سلاحُ المؤمن في السرَّاء والضرَّاء، والنبي صلى الله عليه وسلم أمرَ صحابتَه بالتعوُّذ من الفتن، قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: “أقبلَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: «تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن» قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن” رواه مسلم.
وأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتعوُّذ منها في كل صلاة، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا تشهَّد أحدكم فليستعِذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجَّال» رواه مسلم.
والبُعد عن الفتن عصمةٌ منها، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهرب من الدجَّال لمن سمِعَه، ويعظُم قدرُ العبد بالبُعد عنها، قال عليه الصلاة والسلام: «ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّف لها تستشرِفه، فمن وجدَ ملجأً أو معاذًا -أي: هربًا منها- فليعُذ به» متفق عليه، قال ابن حجر رحمه الله: “في الحديث التحذيرُ من الفتنة والحثُّ على اجتناب الدخول فيها، وأن شرَّها يكون بحسب التعلُّق بها”.
والعلم الشرعي حصنٌ مكينٌ يدرأ عن الجوارح أعمال الشهوات، وعن القلب اعتقاد الشُّبهات، قال عليه الصلاة والسلام: «تركتُ فيكم أمرين لن تضِلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما: كتابَ الله وسنة نبيه» رواه الإمام مالك، ومنشأ الفتن من أمرين؛ إما فتن شهوات أو فتن شبهات، ففتن الشهوات علاجها الصبر، وفتن الشبهات علاجها العلم.
والواجب على المسلم كلما أقبلت إليه فتنة أن يبتعد عنها، فكيف إذا اجتمع على المرء فتنة المال وفتنة النساء وفتنة المنصب وفتنة الإعلام وفتنة الرياسة وأقبلت الدنيا بفتنها تتزينُ له.. ولسان حال الدنيا هيتَ لك..
فالعاقل من يكثر من اللجوء إلى الله ويركن إليه ويتوكل عليه ويتحلل من المظالم ويسعى في تحصيل كل ما يقربه إلى الله جلّ جلاله.
وإنّ من أعظم الفتن الركون للظالمين والاغترار بحلم الله وزيادة الظلم وتزيين النفس لصاحبها أنه على حق وهو على الباطل.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.