(التحدي والاستجابة).. نظرية توينبي في نشوء الحضارات وتوظيفات واقعية || كتابات فكرية ||مجلة بلاغ – العدد ٢٥ – ذو القعدة ١٤٤٢⁩

مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢

الأستاذ: حسين أبو عمر

تُعتبر نظرية المؤرخ الموسوعي أرنولد توينبي (التحدي – الاستجابة) واحدة من أفضل محاولات استنباط القوانين الناظمة لحركة التاريخ وتطور المجتمعات البشرية. توينبي كان قد استلهم نظريته في نشوء الحضارات من علم النفس السلوكي وتحديدا من عالم النفس السويسري كارل يونغ.

من وجهة نظر توينبي لم تنشأ حضارة من الحضارات الأصلية أو المنتسبة إلا بوجود تحد موائم لنشوء حضارة؛ التحدي الذي أدى إلى نشوء الحضارات الأولى (يسميها المنقطعة) كان بيئيا، أما عن بدء الحضارات المنتسبة فيقول: “التحدي الأساسي والجوهري في حالتها هو تحدي بشري نشأ عن صلتها بالمجتمع الذي تنتسب هي إليه، وإن كان لا يُنكر وجود درجة ما من التحدي الطبيعي ساهمت هي أيضا في حفزها”.

بحسب توينبي فإن التحدي الموائم لنشوء حضارة هو ذلك التحدي الذي يكون متوسط الشدة؛ فلا يكون قويا بحيث يقضي على الأمة، ولا يكون ضعيفا بحيث لا يستثير طاقاتها؛ يقول توينبي: “أشد التحديات استثارة، ما هو في درجة متوسطة بين إفراط في الشدة ونقصان فيها؛ لأن قصور التحدي قد يعجز تماما عن استثارة الطرف المتحدى، وعلى العكس يحطم إفراط التحدي روح الطرف المتحدى”.

أفضل التحديات بالنسبة لتوينبي هو ليس التحدي الذي تستطيع الأمة التغلب عليه بشكل كامل، إنما هو التحدي الذي إذا تغلبت عليه ينتج تحديا جديدا في عملية مستمرة، وكأنه حركة لولبية، فتبقى الأمة في حالة نشاط وإنتاج دائم؛ يقول: “التحدي الأمثل، ليس هو ذلك التحدي الذي يقتصر على استثارة الطرف المتحدى لينجز استجابة ناجحة بمفردها. ولكن ذلك التحدي الأمثل هو ما يشتمل على كمية الحركة التي تحمل الطرف المتحدى خطوة أبعد من استجابة ناجحة بمفردها، تحمله من مرحلة استكمال الاستجابة إلى مرحلة صراع جديد؛ من مشكلة واحدة حلت، إلى مواجهة أخرى”.

هذه الاستجابات لمواجهة التحديات ومحاولة إيجاد حلول للمشكلات التي تواجه الأمة هو فعل قلة من الناس “صفوة”، تتحدى الصعاب وتواجه الشدائد من أجل الارتقاء بأمتها؛ يقول: “إن جميع أفعال الإبداع الاجتماعي، هي نتيجة أعمال عباقرة أفراد، أو أكثر ما يكون أقليات عبقرية”.

ويقول: “وما الارتقاء إلا فعل صادر عن الشخصيات أو الأقليات المبدعة”. تتميز هذه القلة بطاقة إبداعية خلاقة وجاذبية عالية، فتستحوذ على إعجاب الجماهير؛ فتحاكيها الجماهير وتواليها بمحض إرادتها، وتلتئم حولها.

ثم يبدأ الانهيار في الحضارات عندما تضعف الطاقة الإبداعية في نفوس “الصفوة”، فتفقد هذه الصفوة مكانتها وتأثيرها على الجماهير، ومن ثم تنتفي محاكاة الجماهير لها؛ يقول: “الانهيار خسارة في الطاقة المبدعة التي تضمها بين جنباتها، نفوس المبدعين أو الأقليات المبدعة. وهي خسارة تجردهم من قدرتهم على السحرية على التأثير على نفوس الجماهير العاطلة من الابتداع. فالواقع أنه حيثما ينتفي الإبداع، تنتفي المحاكاة”.

فإذا وصل الحال إلى هذه المرحلة تتجه هذه الأقلية -التي لم تعد مبدعة- إلى الاستبداد، وتعمَد إلى استعمال القوة من أجل الحفاظ على مراكزها وسلطتها على الجماهير، ويستفحل طغيانها باطراد إلى أن تثور الجماهير عليها؛ يقول: “وحقا؛ ينبئنا تاريخ أي مجتمع من المجتمعات، أنه عندما تتحلل أقلية مبدعة فتغدو أقلية مسيطرة تسعى إلى الاحتفاظ بمركز لم تعد جديرة به، باستخدام القوة؛ يحدث ذلك التغير في طابع العنصر الحاكم، انشقاقا في بروليتاريا أصبحت لا تعجب بحكامها فلا تحاكيهم بالتالي، ومن ثم تثور ضد استعبادهم إياها”.

دور الصفوة في الارتقاء بالأمم وكذلك في انهيارها كنت قد تتبعته في مقالة: (الصفوة.. دورها في نهوض وسقوط الأمم عند حسين مؤنس – مجلة بلاغ – العدد السابع – كانون الثاني 2020) ما يغني عن مزيد من الاسترسال هنا، إذ إن حسين مؤنس متأثر جدا بأفكار آرنولد توينبي.

* فوائد عملية للنظرية:

لهذه النظرية تطبيقات عملية كثيرة في سياسات الدول في زماننا الحاضر؛ فالدول الذكية لا تترك شعوبها تخلد إلى الراحة والدعة، ولا تنتظر التحديات حتى تأتي من نفسها، بل هي من تعمل على إيهام شعوبها بوجود تحديات كبرى تواجهها حتى لا تنخفض الطاقة الإبداعية عند هذه الشعوب.

فكرة اصطناع عدو خارجي مهدد للأمة، كمثال، والنفخ فيه إعلاميا، وتضخيم خطره، من أجل الحفاظ على التماسك الداخلي، وعلى مستوى معين من النشاط والإنتاجية، ومن أجل استمرار الأعمال الإبداعية والتفوق على الآخرين؛ تفعلها الكثير من الدول في عصرنا الحاضر. “فالصراع بين الجماعات البشرية ضروري للتقدم البشري” كما يقول أبو علم الاجتماع الحديث آدم فيرجسون، أو هو في رأي الكثير من الباحثين في علم الاجتماع “مصدر كل تقدم بشري حقيقي” كما يصف جمال سلامة.

من المُجمع عليه، أن الأمم، في سعيها للتغلب على التحديات التي كانت تواجهها، لم تولد الحل المناسب لكل تحد مباشرة، وإنما كانت تجرب وتفشل، وتراكم التجارب، وتضحي في سبيل الحصول على الحلول، بل ربما استغرق إيجاد الحلول المناسبة لبعض التحديات أحيانا مئات السنين. فالحل السحري لكل مشكلة ليس موجودا في تاريخ البشر، وإنما هو البحث والتجربة، والسعي المتواصل حتى الوصول إلى “الوسيلة الذهبية”، الحل المناسب للتحدي. أما الأمم التي تنهزم أمام الواقع، ولا تحاول توليد الحلول لمشاكلها، أو تستسلم مع أول إخفاق يواجهها، فإنها ستبقى على حالها أبد الدهر.

نحن، كأمة مسلمة، نواجه تحديات كبرى منذ سقوط الدولة العثمانية -بل من قبل-. مرت بنا مراحل نكوص واستسلام أمام هذه التحديات، ومراحل استجابة في محاولة لإيجاد حلول لهذه التحديات. في مراحل الاستجابة دفعنا ثمن هذه الاستجابات الكثير من الدماء والإمكانات، وما زلنا ندفع، ولم نحصل على الحل المناسب حتى هذه اللحظة، ومورس علينا الخداع والاستغلال من قبل جماعات وشخصيات متعددة، وما زال.

ولكن، لاستجابتنا للتحديات التي تواجهنا، ودخولنا في حالة التدافع ضد الأعداء المهيمنين على مقدراتنا فوائد كثيرة؛ فأمتنا تتطور على الكثير من الأصعدة (العسكرية والسياسية والتكنولوجية والفكرية…). وإن الأمة المتفاعلة مع قضاياها والتحديات التي تواجهها ستفرز في النهاية صفوتها الحقيقية الواعية القادرة على إنتاج الحلول المناسبة لهذه التحديات، كما أن هذا الكم من الاستجابات هو من سيولد في النهاية “الوسيلة الذهبية” أمام التحديات التي نواجهها. ومهما كان ثمن هذه الاستجابات فهو الطريق الوحيد للتغلب على التحديات التي نواجهها، أما إذا استعظمنا الثمن ونكصنا واستسلمنا أمام هذه التحديات فسنبقى في القاع.

* ختاما، هذه ليست دعوة لتكرار التجارب الفاشلة، ولا السكوت عن الفاشلين، الذين يهدرون الدماء والمقدرات، المتبعين لأهوائهم، الباحثين عما يشبع رغبات نفوسهم؛ فهؤلاء ليسوا بصفوة حقيقية، بل صفوة زائفة؛ كما يسميها حسين مؤنس. وهم أيضا تحد آخر، ستولد الأمة في النهاية الاستجابة المناسبة تجاههم، وستفرز صفوتها الحقيقية البديلة عنهم.

المصادر:

آرنولد توينبي – مختصر دراسة للتاريخ.

حسين مؤنس – الحضارة.

جاسم سلطان – فلسفة التاريخ.

 جمال سلامة – تحليل العلاقات الدولية: دراسة في إدارة الصراع الدولي.

بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢ هـ

Exit mobile version