البائسون – مجلة بلاغ العدد ٦٧ – جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ⁩

الأستاذ: أبو محمد نصر

قرر المجلس البلدي لمدينة “المظاهر” إعادة ترميم حديقة “السعادة” والتي أصابها ما أصابها من جراء الحرب القائمة في البلاد، والذي دفع المجلس لاتخاذ هذا القرار وترميم الحديقة هو أنّ الحرب قد وضعت أوزارها وتم عقد “هدنة” طويلة الأمد بين مدينة المظاهر وأعدائها، فبدأ العمال بترميم الحديقة فأصلحوا سورها المتهدم، وزرعوا أشجارًا جديدةً، بعد أن تحولت أشجارها القديمة إلى حطبٍ يابسٍ، وزرعوا بالقرب من كراسي الحديقة زهورًا يفوح عطرها للزائرين، وأضاءوا طرقاتها، وقد قام رئيس المجلس البلدي بتدشين الحديقة وقص شريط الافتتاح بوجود جمعٍ كبيرٍ من مسؤولي المدينة، وألقى كلمةً قال فيها: “إنّ ترميم حديقة السعادة من أعظم الإنجازات التي قمنا بها بعد انتهاء الحرب، وهناك إنجازاتٌ أخرى وحدائقُ ثانيةٌ سيتم ترميمها أيضًا”، فصفق جميع الحاضرين فرحًا وسرورًا بهذه الأخبار السعيدة!!

وفتحت حديقة السعادة أبوابها لزوار النهار وما أكثرهم، فهذا قد أحضر أولاده وزوجته إلى الحديقة فارًا من ضغوط الحياة والعمل، وذاك شابٌ في مقتبل العمر يبحث عن فتاة أحلامه في أرجاء الحديقة، وكلما وجد فتاة أحلامه بحث عن أخرى ففتيات أحلامه غير معدودة، وتلك تصور نفسها في وسط الحديقة لتنشر تلك الصور والفيديوهات على “منصة التِك تُك” و”الفيس بوك” طمعًا بالإعجابات وكلمات الثناء، أما هذا فقد جمع أصدقاءه وجلسوا على العشب الأخضر وأشعلوا أراكيلهم غير مهتمين بمن حولهم من الزوّار، فإذا جاء الليل فرغت الحديقة من زوّار النهار، وجاء دور زوّار الليل، وكأنهم قد اقتسموا الحديقة وتعاهدوا على عدم تركها فارغةً، ولكن زوّار الليل يختلفون تمامًا عن زوّار النهار، فهؤلاء من عالمٍ وهؤلاء من عالمٍ آخرَ مع أنهم جميعهم يسكنون في مدينة المظاهر!!

جاء محمد ليلًا إلى حديقة السعادة ليرى أصدقاءه الذين تركهم نهارًا في شوارع المدينة يهيمون على وجوههم، فلا أهل لهم ولا مأوى ولا حياة إنما هو “البؤس” الذي لم يفارقهم منذ أيام بل قل منذ شهور وسنوات، وقد كان محمد كبير أصدقائه حتى اتفق الجميع على تنصيبه قائدًا لهم، فكانوا يأتمرون بأمره ويسمعون كلمته ولا يخالفونه بشيءٍ، وقد اختار محمد حديقة السعادة لتكون مأوىً له ولأصدقائه “البائسين”، فكانوا يلجؤون إليها ليلًا من أجل النوم فإذا حان النهار انتشروا في الأزقة والطرقات بحثًا عن عمل -إن وجد- أو بحثًا عن طعام، أو عن أي شيء ينفعهم، حتى اضطر بعضهم للسرقة وارتكاب الحرام دون الخوف من العواقب.

وبعد المعاناة النهارية الطويلة اجتمع البائسون مع قائدهم محمد ليلًا في زاوية من زوايا الحديقة، وقد أحضر كلٌ منهم “كرتونته” لينام عليها، وقد أوقدوا نارًا لأنهم شعروا بالبرد، فالشتاء بات على الأبواب، ونسمات الخريف الباردة قد أثرت عليهم حتى أن بعضهم بدأ يرتجف، وكان هناك بناءٌ سكنيٌّ بالقرب من حديقة السعادة، وكان “العم صالح” يسكن في الطابق الثاني منه، وكان يجلس على شرفة منزله كل يوم متفكرًا في حال سكان مدينة المظاهر، وكيف أنهم بعد انتهاء الحرب ركنوا إلى الدنيا وملذاتها، ونسوا سنوات الجهاد والنضال ضد العدو، وقد كانوا على قيد الحياة قبل ذلك، ولكن جاءت الهدنة لتقضي عليهم، فالقعود والركون يقتلان القلب ويجعلانه دون حياة!!

فلما رأى العم صالح النار متوقدةً، ظن أن حريقًا قد اشتعل في الحديقة، فنزل مسرعًا من منزله وتوجه إلى مكان النار، فرأى “شبابا” كأنّ على رؤوسهم الطير، وكأنّ الموت قد اقترب منهم فقال لهم: من أنتم ومن أين جئتم، وماذا تفعلون هنا؟!، فقال محمد: نحن نزلاء حديقة السعادة الجدد، ننام هنا ونأكل هنا، وكل شيءٍ يخصنا هنا، حتى الليل لا نعرفه إلا هنا، فقال العم صالح: ومنذ متى وأنتم على هذه الحالة؟، فقال محمد: منذ زمنٍ بعيدٍ، ثم قال: وكأنّك يا عم تريد أن تسمع قصتنا؟، فقال العم صالح بصوت المتشوق لمعرفة المزيد: نعم، فقال محمد: اجلس معنا، وكانوا قد صنعوا إبريقًا من الشاي المختمر وسكبوا للعم صالح كأسًا منه، فقال محمد: أنا كبير هؤلاء وقصتي طويلة ولكن سأختصرها، كان والدي رجلًا شجاعًا ومقدامًا، وقد شارك بجميع المعارك التي خاضتها هذه المدينة مع أعدائها، وكان دائمًا في مقدمة الصفوف، وكنا أنا وإخوتي لا نراه كثيرًا، فالمعارك كانت محتدمةً فكان ينطلق من معركةٍ إلى أخرى، ومن اقتحام إلى اقتحام، حتى اللحظات السعيدة التي عشتها معه كانت قليلة، لأنه استشهد في إحدى المعارك، وكان يوصيني قبل استشهاده بأن أحمل السلاح حينما أكبر لأدافع عن ديني وأرضي وعرضي، وبعد أن دفناه عشت أنا وأخوتي في كنف أمي سعداء رغم أننا فقدنا أغلى ما نملك وكان مصدر هذه السعادة أمي التي أنستنا نوعًا ما مرارة الفقد، ولكن هذه السعادة لم تدم، فجدي قرر أن يأخذ ابنته والتي هي أمي، وقرر أيضًا أن يتركنا عند عمي فهو مجبورٌ بنا فنحن أولاد أخيه كما قال!!

فعشت أنا وإخوتي مع عمي وعائلته في بيتٍ واحدٍ، ولكن لم أستطع البقاء فالظلم والجور والقهر الذي رأيته من عمي وزوجته جعلني بلا هويةٍ وبلا هدفٍ، وبلا مأوىً، حتى أمسيت بلا قلبٍ، أسرق من هذا، وأضرب هذا، وأدخن وأفعل ما أريد، حتى وصل بي الحال أني تعاطيت “الحبوب المخدرة”، لأني لم أجد بعد استشهاد أبي وذهاب أمي، من يرشدني إلى طريق الخير والصواب، ولم أجد من يرعاني حق الرعاية، حتى أمسيت كما ترى يا عم أجالس هؤلاء البائسين في حديقة السعادة، بل أصبحت أنا مرشدهم ولكن ليس لطرق الخير إنما لطرق الشر والعدوان، وهذه قصتي باختصار، أما البائسون فقصتهم أطول، فإن أحببت حدثتك عن بعض مآسيهم، وما يعانونه في هذا المجتمع؟؟

فقال العم صالح وقد ملأت الدموع عيناه: تكلم يا ولدي فكلامك قد أصاب قلبي في مقتل، فقال محمد: هؤلاء البائسون ينظر لهم الناس على أنهم عالةٌ على المجتمع، وأنهم مجرمون ولا يوجد إمكانيةٌ لإصلاحهم، ولكن الذي أوصل هؤلاء إلى هنا هو “ظلم المجتمع”، فظلم المجتمع ألبس المجرمين الحقيقيين لباس البراءة والشرف، وأظهر هؤلاء على أنهم مجرمون، فكم هي الأيام والليالي التي قضاها البائسون وهم ينتظرون من يأخذ بأيديهم إلى جادة الصواب، ويرشدهم إلى طريق الخير، لكنهم لم يجدوا فأكملوا سيرهم في طريق الخطأ، يا عم كل بائس من هؤلاء له حكاية وله قصة، وهذه الحكاية مكتوبةٌ بالدموع تارةً، وبالألم تارةً أخرى، ولو كان العدل يسود هذا المجتمع الذي نعيش به ما كان البؤس لينتشر في أرجاء المدينة بهذا الشكل، ولكن حينما يسود الظلم فسنجد أنّ أعداد البائسين في ازدياد!!

أتعرف يا عم كم هي الأموال التي أنفقها المجلس البلدي من أجل ترميم حديقة السعادة؟، أنفق ملايين الليرات، ولكن هذا المجلس نفسه لم ينفق ليرةً واحدةً من أجل ترميم الابتسامة على وجوه البائسين، للأسف يا عم أصبحنا نعيش في زمنٍ كل شيءٍ فيه بات مزيفًا، فالحقيقة ليست الحقيقة، والسعادة ليست السعادة، والفرح ليس الفرح، فقط أمرٌ واحدٌ ليس بمزيفٍ ألا وهو أننا نعيش “البؤس” ولا أحد يشعر بنا، بل لا أحد يُلقي لنا بالًا إلا القليل، وسنبقى على هذه الحال ما دام الظلم هو القائد.

وأراد محمد أن يُكمل كلامه فقاطعه العم صالح، وليس تلك المقاطعة لأن الكلام قد طال وليس منه فائدةٌ بل قاطعه ليقول له: يا محمد كم كنت أتمنى بعد سنوات الحرب الطويلة أن أرى حال مدينتنا أفضل، حيث العمل على بناء المسلم الحق، وزرع روح الجهاد والنضال في قلوب الشباب، وإنقاذ البائسين من الضياع، ولكن للأسف هذه الأمنيات تبخرت وذهبت أدراج الرياح، فعندما يكون الاهتمام “بالمظاهر”، مقدمٌ على إنقاذ الموتى الذين هم على قيد الحياة فلن يتحقق شيءٌ من تلك الأمنيات، وهنا شرب العم صالح كأس الشاي الذي برد من طول الحديث، ووعد محمدًا والبائسين معه أنه سيزورهم بشكلٍ مستمرٍ، وأنه سيعمل على مساعدتهم ليتخلصوا من بؤسهم، وما زالت حديقة السعادة تفتح أبوابها لزوار النهار وزوار الليل، وما زالت مدينة المظاهر تعمل على تدشين حدائق جديدة إلى يومنا هذا!!! 

Exit mobile version