الأستاذ: الزبير أبو معاذ الفلسطيني
أعلن بائع فلسطين العلماني الحاكم بغير ما أنزل الله “محمود عباس” رئيس “السلطة الفلسطينية” التي شكَّلَها الاحتلال اليهودي= عن مواعيد لــ “انتخابات” قادمة؛ برلمانية ورئاسية، إضافة إلى انتخابات المجلس الوطني؛ برلمان ما يسمى “منظمة التحرير الفلسطينية”.
هذه “المراسيم الرئاسية” التي أعلنها عباس جاءت بعد خمسة عشر عاما لآخر انتخابات شهدتها الأراضي الفلسطينية، وتأتي في ظل حالة نزاع فصائلي محتدم بين حركتي حماس وفتح، نزاع طالت فصوله ولم يتم حل أيٍّ مِن ملفاته المستعصية، بل تم ترحيلها إلى مرحلة ما بعد الانتخابات.
وفي هذه العجالة رصد سريع للمشهد السياسي الفلسطيني البائس، والظروف التي جاء فيها هذا الإعلان، والأسباب التي دفعت إليه، مع التأكيد اللازم في هذا المقام أنّ تَتَبُّعَ بعض تفاصيل الحالة السياسية لا يعني الرضا العام بها وعنها؛ بتفاصيلها هذه أو بغيرها، بل هو تسليط للضوء على ترهل المشهد السياسي وفساده، لكي يَعرِف المتابع أن الخير كل الخير في اتباع أحكام الله وشريعته، وأن الفلاح والظفر والنصر لا يأتي بغير سلوك سبيل الله الذي أمر به لتغيير واقع الأمة، وأعني الدعوة والجهاد في سبيل الله وِفق المستطاع مما أمر به سبحانه، ولكي يبصر المتابع أن الديمقراطية والوطنية والتحاكم إلى الدساتير العلمانية والقوانين الوضعية هي سببُ ما نحن فيه من بلاء وفساد وتخبط، وزيادةٌ في تسلط أعداء الدين والتمكين لهم.
لقد بات من الواضح أن حركتي حماس وفتح قد وافقتا على هذه الانتخابات جبرا وقهرا، وأن الضغط الدولي والاقليمي مِنَ “الحلفاء” قَبْل غيرِهِم هو الذي أجبر الحركتين على الموافقة، مع ترحيل ملفات الصراع بينهما إلى مرحلة أخرى تلي الانتخابات، مما يعني أن الهدف الدولي ليس الانتخابات بمعناها الحقيقي؛ لأن ملفات النزاع الفصائلي ستعيد المشهد إلى مربعه الأول إن تم تخطي مرحلة الانتخابات دون حلها حلا جذريا، بل يبدو أن الانتخابات ليست سوى واجهة لتقاسم السلطة بين فتح وحماس، باتفاق مسبق يحدد سقف ودور كلٍّ من الحركتين، طبعا هذا السقف وهذا الدور مرهون برضا الأطراف الدولية، وليس بحسب رغبة أي منهما، والمبتغى هو شرعنة الاتفاقيات السياسية المقبلة التي ستكون عبارة عن “صفقة قرن مُحَسَّنَة” في عهد “بايدن” بعد غياب “ترامب” برعونته، بايدن سيكمل من المكان الذي انتهى إليه ترامب، ولكن بخبث الديمقراطيين، ولن يغير أي “مكتسب” حصل عليه اليهود في عهد ترامب الجمهوري، إلا إن كانت تغييرات شكلية لا جوهرية، لذا يحتاج “رعاة” القضية الفلسطينية لواجهة سياسية لها “شرعية الصندوق” لتمرير مثل هذه الاتفاقيات، وفي ظل وجود قطبان للمشهد السياسي الفلسطيني -فتح وحماس- فإن الرهان على تآكل شعبية حماس قد يكون مخاطرة تعيد سيناريو انتخابات عام 2006، خاصة في ظل انقسام فتح وتفرقها، لذا فإنه من البديهي إعطاء كل طرف حصته السياسية التي يمكن من خلالها ضمان وجود وكيل فلسطيني مقبول دوليا، وعليه يمكن القول أن السماح بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وانتخابات مجلس وطني ما كان ليكون لولا تحديد سقف مشاركة حماس وإلزامها بذلك.
والذي يدفع حركتي فتح وحماس على القبول بالتنازل وإجراء الانتخابات بعد تعطلها طيلة خمسة عشر عاما مضت= ضُغوطٌ مختلفة داخلية وخارجية، فبالنسبة لحركة فتح فإن عباس يحتاج إلى تجديد شرعيته السياسية، وتقديم أوراق اعتماده؛ خاصة أمام الإدارة الأمريكية الجديدة، فهو منتهي الولاية وفقا لــ “الدستور الفلسطيني” منذ أكثر من عشر سنوات، كما أن سلطته تواجه ضغوطا مالية كبيرة، والأطراف الداعمة تدفع باتجاه وجود نظام سياسي له شرعية انتخابية، ليس إيمانا بصنم العجوة الديمقراطي بقدر ما هو محاولة لتمرير صفقات سياسية لصالح اليهود عبر واجهة فلسطينية، كما أن مرحلة عباس قد شارفت على الأفول بسبب اقترابه من سن التسعين، وفي حالة غياب مفاجئ لا يوجد بديل متفق عليه في ظل انقسامات فتحاوية داخلية، ما بين تيار منشق يتبع لمحمد دحلان خصم عباس، وتيار يسيطر على الحركة على رأسه عباس نفسه، وما بين انقسامات مناطقية بين الضفة الغربية وقطاع غزة؛ حيث يرى “الفتحاويون” الغزيون أنهم درجة ثانية أو ثالثة داخل الحركة، إضافة إلى وجود صراعات داخلية ضمن الكتلة المسيطرة على الحركة في الضفة الغربية على من سَيَخلُف عباس، ناهيك عن شعبية الأسير “مروان البرغوثي” المهمش تنظيميا والذي قد يُضعِف الكتلة الانتخابية لحركته فتح في حال إصراره على دخول انتخابات الرئاسة، والحال هكذا فمن الأفضل استباق أي مفاجآت قد تعصف بحركة فتح بتثبيت حالة سياسية مفروضة على الجميع؛ بحيث يَعرِفُ كُلُّ طرفٍ دوره وسقفه، دون أن يتأثر الواقع السياسي بأي تغيرات مفاجئة. كما أن عباس لا يريد لغريمه “دحلان” أن يَكونَ له دور بعده داخل السلطة وحركة فتح، لذا سيسعى لتحجيمه؛ رغم المحاولات الإقليمية للتقريب بين الطرفين، فكل منهما يمثل تيارا خلفه، واجتماع المخابرات المصرية والأردنية قبل أيام مع محمود عباس كان الهدف منه توحيد صفوف حركة فتح قبل الانتخابات، وروسيا أيضا دخلت على الخط بدفع إماراتي، فوحدة فتح مطلب دولي لكي لا تستفيد حركة حماس من هذه التشظيات، ولكي تبقى الأخيرة ضمن سقف مشاركة معين ضمن المنظومة السياسية الجديدة لا يكون لها فيه وجود فعال ومتغلب، ولكن حتى اللحظة لم يطرأ أي جديد بخصوص تفاهمات مشتركة بين عباس ودحلان، والشيء بالشيء يذكر، فإن محمود عباس يواجه أيضا قَبُولًا حركيا وشعبيا للأسير “البرغوثي” المعتقل منذ ما يقرب من عشرين عاما؛ حيث يريد الأخير بترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية -مستغلا شعبيته- أن يتحصل على فرصةِ إطلاق سراحه، وهذا يهدد وحدة هذه الحركة العلمانية، واللافت للنظر أن دولة اليهود سمحت بالأمس لعضو اللجنة المركزية لحركة فتح “حسين الشيخ” أن يزور “البرغوثي” في معتقله ناقلا رسائل من “محمود عباس” واللجنة المركزية لثنيه عن نية ترشحه للرئاسة، ويبدو أن اللقاء لم يثمر عن تفاهمات، وإن هذا من أعجب ما يمكن أن يُرَى! فدولة الاحتلال تسمح لأحد قادة حركةٍ تدعي أنها “حركة تحرير” بزيارة آخر من نفس الحركة؛ معتقل داخل سجون هذا الاحتلال، بهدف توحيد صفوف هذه الحركة “التحررية” حول موقف واحد ورؤية واحدة! ولله في خلقه شؤون.
بالنسبة لحركة حماس فهي في موقف لا تحسد عليه؛ حيث إنها قَبِلَت راغمة بالنزول إلى الانتخابات بشروط “محمود عباس” الذي كان يشترط التتالي لانتخابات البرلمان والرئاسة والمجلس الوطني، وكانت حماس تشترط التزامن، واستمر هذا الخلاف فترة طويلة إلى أن قَبِلَت حماس بشروط عباس تحت ضغوط الدول “الراعية” للقضية الفلسطينية، ورغبة عباس في التتالي يبدو أنها لجس نبض الشارع من خلال انتخابات البرلمان لكي يحاول عرقلة بقية الانتخابات إن كانت الكفة الشعبية تميل نحو حماس بشكل أو بآخر، وحماس لم تكن تود إعطاءه هذه الفرصة في السابق، لكنها قَبِلَت مؤخرا، ربما بعد حصولها على “ضمانات” دولية تمنع العرقلة والتزوير، أو لنقل لأنها تعلم بأن عباس وحركته في هذه المرحلة لا يملكون ترف عرقلة سير هذه العملية لأنها أصبحت مطلبا دوليا، فمن سيعرقلها سيعزل نفسه دوليا وإقليميا، خاصة حماس، فهي تعلم أن رفضها للانتخابات أو محاولة عرقلتها سيعزلها فعليا، ففي الفترة الأخيرة مورست عليها ضغوط شديدة جدا من “حلفائها” كتركيا وقطر، ومَن لا تَملِك قطع العلاقة معهم كمصر؛ فلقد ضيقت تركيا مؤخرا الخناق على حركة حماس داخل أراضيها، وزادت من تقييد نشاط المكتب السياسي للحركة، فتركيا تعلن بلا مواربة أنها على نفس الرؤية السياسية لحركة فتح، المتمثلة في حل الدولتين، وإقامة “دولة” على حدود الــ67 بعاصمتها القدس “الشرقية”، لكنها كانت تدعم حماس لاعتبارات متعلقة بسياسات تركيا الخارجية، واليوم بعد الإعلان عن إعادة العلاقات التطبيعية بين تركيا ودولة اليهود قامت تركيا بتشديد الخناق على حماس، ومارست ضغوطها في اتجاه إلزام حماس بقبول النزول إلى الانتخابات دون شروط تعرقل سيرها، أيضا قامت قطر بإيقاف المنحة القطرية التي كانت تعطيها لحماس شهريا برعاية وتسهيل من دولة اليهود، ومارست ضغوطها هي الأخرى على حماس للقبول بالانتخابات دون عرقلة، فلما وافقت حماس أعادت قطر المنحة المالية الشهرية مع زيادة فيها ولمدة عام كامل، أيضا قامت مصر بإغلاق معبر رفح البري منذ فترة، ثم قامت بإغلاق القنصلية المصرية في غزة إغلاقا تاما، وهذه الخطوة لم تفعلها مصر يوم أن أعلنت عن تصنيف حركة حماس كمنظمة “إرهابية”، وفعلتها في الفترة الأخيرة؛ مما يشي بحجم الضغوط، ولم تُعِد حتى اللحظة فتح القنصلية، لكنها أعادت فتح المعبر بعد اليوم الأول من اجتماع الفصائل الفلسطينية في القاهرة، مما يؤكد أن هناك شروطا قَبِل بها الجميع وكان فتح المعبر أحد نتائج هذا القبول.
حركة حماس لو عرقلت الانتخابات فستجد نفسها في موقف صعب دوليا، وهي التي سعت بكل قوتها لتجد لنفسها مساحة مع الأطراف الدولية والإقليمية، ولم تدخر لذلك جهدا ولو على حساب دينها، لتجد نفسها اليوم بين نارين؛ إما أن ترفض هذه الانتخابات المسقوفة فتخسر هذه العلاقات التي تعتبرها علاقات “استراتيجية”، أو تذهب إلى انتخابات تعلم أنها مجرد واجهة لتحجيمها من ناحية، وتمرير صفقات سياسية من ناحية أخرى، دون أن تملك حماس أي أدوات ضغط لتغيير هذه الثنائية، سوى ورقة الجنود اليهود الأسرى لدى الحركة، وحتى هذه الورقة سيتم نزعها من حماس بطريقة أو بأخرى في المرحلة القادمة بزيادة الضغوط لقبول صفقة تبادل للأسرى ترضي حماس واليهود، ويبدو أن هذه الضغوط قائمة حاليا، فمشاركة “يحيى السنوار” في اللحظة الأخيرة مع وفد الحركة الذي خرج إلى اجتماع القاهرة مؤشر على أن خروجه كان لأجل التفاهم حول ملف الأسرى.
هذا الوضع السياسي المتأزم أشعل نزاعات داخلية في الحركة بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، فالبعض من قادة الحركة مثل “محمود الزهار” لم يُخفِ توجهه الرافض، بل لم يُخفِ أن الانتخابات هي مشروع لــ “ترتيبات سياسية قادمة”، لكنه أكد في المقابل أن القرار يعود لحركته، وعلى نفس السياق يمكن التساؤل عن التوقيت الذي خرج فيه التسجيل المرئي الذي أثار لغطا كبيرا في الشارع الفلسطيني، وهو لأحد قادة القسام الميدانيين، والذي بات يعرف بــ “فيديو الطيار” نسبة إلى لقب الشهرة، حيث تم نشره في فترة الخلاف الداخلي حول المشاركة القادمة في الانتخابات، وقبيل الانتخابات الداخلية للحركة التي تم تأجيلها بسبب هذه الخلافات في الغالب، فيما المعلن أنه استعدادا للانتخابات السياسية القادمة، هذا المقطع يثار أنه قد تم نشره بعد اعتقال الطيار، وهذا إن صح فهو مؤشر على وجود تيار يقف خلف “الطيار” وليس شخصه فقط؛ لأن المقطع قائم على إسقاط شخصيات وازنة وذات نفوذ داخل الحركة والجهاز العسكري تحديدا، وهذا يعتبر سابقة في تاريخ حركة حماس حتى لو كان عملا “فرديا” من هذا القيادي.
حماس إن وصلت الانتخابات بنفس الوضع القائم ودون أن يَحدُث حدث استثنائي يعطل الانتخابات= فإنها ستواجه عملية تحجيم سياسي كبير، وهي تعلم أن هذا أحد أهداف هذه الانتخابات، كما أنها لا تملك أدوات فاعلة لتغيير واقع ما بعد الانتخابات إلا بــ “انقلاب” عسكري آخر، أو ترضخ للمعايير المفروضة على العملية السياسية، خاصة أن أبرز ملفات النزاع مع فتح لم يتم حلها وهي سلاح كتائب القسام، فكيف ستتعامل مع وجود حكومة “شرعية” معترف بها لن تقبل بسلاح سوى سلاح الحكومة؟! فإما أن تقبل حماس وبقية الفصائل العسكرية بدمج سلاحها ضمن منظومة واحدة داخل الحكومة أو منظمة التحرير، أو تقبل بآلية تجعله عبارة عن سلاح مركون ومكدس داخل مخازنه لا دور له على أرض الواقع! وهذا ما لن تقبل فيه حركةُ فتح حلولا وسطا فيما لو شاركت حركةَ حماس الحكم، فحماس لن تستطيع فرض نفس نموذج “حزب الله” الرافضي في لبنان؛ لأن الحزب له حلفاء يعتبرونه أهم أدواتهم العسكرية في المنطقة، وأعني إيران، التي تدعم هذا الحزب بكل قوة، إضافة إلى قبول دولي بالوضع القائم في لبنان، فالحزب أحد أبرز أسباب فشل الدولة اللبنانية، وهذا مطلب دولي، كما أنه لا زال ملتزما بالتفاهمات التي جعلته عبارةً عن حرسِ حدودٍ لدولة اليهود التي تستغل التزامه وتضربه بقسوة داخل سوريا، ناهيك أنه الطرف الأقوى داخل الساحة اللبنانية، ولا يوجد منافس سياسي حقيقي له، أما حماس فلا تملك حلفاء بهذه الصورة، ولا تملك قبولا دوليا بوجودها بحالها هذا، كما أن لها منافسا ولاعبا غير مهمش داخل المشهد، وهي حركة فتح التي تسيطر على الضفة الغربية في مقابل سيطرة حماس على قطاع غزة، ناهيك أن حماس ليس لها أي وجود داخل مؤسسات الحكم في الضفة الغربية، بمعنى أنها لا تستطيع أن تصبح كــ “دولة عميقة” في مرحلة ما بعد الانتخابات، بل حتى الكتلة البيروقراطية التي تملكها في القطاع والتي تتجاوز أربعين ألف موظف حكومي ما بين مدني وعسكري= موضوعة على قائمة النقاش فوق طاولة ما بعد الانتخابات، وتم ترحيلها كمشكلة عالقة لم يتم حلها، وحركة فتح ستعمل بكل ما تستطيع لتفكيك هذه الكتلة أو إضعافها، وإشراك كتلتها البيروقراطية التي استنكفت عن العمل بعد سيطرة حماس على قطاع غزة، وادخرتها فتح إلى مثل هذا اليوم، فما تملكه فتح في غزة لا تملكه حماس في الضفة، لذلك فإن خيارات حماس بعد الانتخابات ضيقة جدا لكي تستطيع فرض نفسها؛ فضلا عن فرض رؤيتها السياسية، وإن ذهبت إلى “حسمٍ” عسكري آخر بعد الانتخابات كما حدث قبل 14 عاما فهذا معناه عزلة عن العالم الخارجي، وسَتَهدِم كل ما كانت تظنه “إنجازات” سياسية خارجية، وكذلك لو اتضح أنها تعرقل الانتخابات قبل إجرائها فستجد نفس العزلة مع ضغط متزايد سيكتوي بناره الشارع الغزي الذي قد ينفجر في وجه حماس!
وأمام هذا الإغلاق الذي تواجهه حماس فإن “محمود عباس” لا يدخر جهدا في استغلاله لفرض رؤيته وفرض نفسه وحركته؛ حيث أصدر مجموعة من القرارات الرئاسية مستبقا الأحداث، فقام بتعيين “عصام شاور” رئيسا لهيئة القضاء الأعلى، هذا المذكور -أحد أزلام عباس- كان قد ترأس هيئة القضاء لمدة عام ونيف ضمن فترة انتقالية كانت له فيها صلاحيات استثنائية تحت ذريعة الفترة الانتقالية، فقام بجعل هذه السلطة القضائية شكلا بلا مضمون، ثم قام عباس بتكريمه عبر تنصيبه رئيسا لهيئة القضاء بصورة رسمية بعد انتهاء الفترة الانتقالية، أو بمعنى أدق بعد انتهاء الهدف من هذه الفترة، بل ونقل معه جميع صلاحيات الفترة الانتقالية، والهدف من ذلك كان تشكيل محكمة الانتخابات، التي من المفترض “قانونا” أن يتم تعيينها بالتنسيب من هيئة القضاء الأعلى ثم يصادق عليها “الرئيس”، لكن في اجتماع القاهرة الأخير تم التوافق على تشكيل محكمة قضايا الانتخابات بالتوافق بين قضاة القدس والضفة والقطاع، ولكن مع حصر تشكيلها من خلال “مرسوم رئاسي” من عباس!
كما قام محمود عباس بتغيير مسمى “رئيس السلطة الفلسطينية” إلى “رئيس دولة فلسطين”، وذلك على ما يبدو تمهيدا لتقليص صلاحيات منظمة التحرير قبل الوصول إلى انتخابات المجلس الوطني، الذي من المحتمل أن تشارك فيه حركتا حماس والجهاد إن تمت الانتخابات، وتقليص صلاحيات المنظمة يهدف لتمرير وتثبيت اتفاقيات سياسية تخص الرؤية السياسية القائمة على ما يسمى “حل الدولتين” الذي تؤمن به حركة فتح وتنطلق منه، كما أن هذه المحاولات لتقليص الصلاحيات أصبحت هدفا فتحاويا بعد اشتراط حماس والجهاد أن تكون منظمة التحرير المرجعية السياسية للفلسطينيين، مع العلم أنه حتى اللحظة لا يوجد آلية واضحة لانتخابات المجلس الوطني لمنظمة التحرير، إلا اعتبار انتخابات البرلمان مرحلة أولى للمجلس الوطني، وطالما أنها كذلك فهذا معناه إقصاء الفصائل الرافضة للمشاركة في انتخابات البرلمان، مثل حركة الجهاد التي رفضت المشاركة؛ لأن الانتخابات تنطلق من “اتفاقية أوسلو” وتحت مظلتها السياسية، أيضا إقصاء الفصائل الصغيرة التي لن تحصل على مقاعد في البرلمان ولم يسبق لها التمثيل في المجلس الوطني، وهنا تأتي لعبة التحالفات الانتخابية لكي تحافظ كلٌّ من حماس وفتح على حلفائها من الفصائل الصغيرة داخل المجلس الوطني، أو أن يتم إلغاء عملية الانتخاب برمتها والقبول بمبدأ التوافق، وهذا الأمر قد تُرِك هلاميا فضفاضا دون حسم في اجتماع القاهرة الأخير، والواضح أن عباس ينتظر وضوح ما ستفضي عنه الانتخابات البرلمانية والرئاسية ليستغله في فرض شروط التوافق على عضوية المجلس الوطني.
كما استغل محمود عباس حالة انسداد الأفق أمام حماس ليعيد عليها فكرة القائمة المشتركة بين حركتي فتح وحماس لخوض الانتخابات البرلمانية، وهذا حتى اللحظة لم ترفضه حماس، بل في أكثر من تصريح أعلنت أنه مطروح للنقاش ضمن الخيارات، مع العلم أنه كان شرطا قديما لحركة فتح طرحته في جولات حوار سابقة، وكان نصيبه الرفض من حركة حماس، لكنه اليوم بات خيارا من الخيارات، وهو إن تم يُعتَبَر تثبيتا للوضع الراهن، ولكن بمحاصصة مسبقة تُعطِ لكل طرف سقفه المفروض دوليا، وحقيقة القائمة المشتركة ليست سوى عملية خداع للشعب بانتخابات صورية ومسرحية ديمقراطية يظن فيها الشعب أن له حرية الاختيار! فقطبا المشهد السياسي هما حركتا حماس وفتح، ونزولهما في قائمة واحدة قَلبٌ لِظَهْر المِجَنّ مع الشعب الذي يريد أن يختار بين القطبين، فلقد أصبحت الانتخابات في نظر سواد عظيم من العوام وسيلة انتقام “سلمية” مُنتظَرة لاستخدامها ضد أي من الطرفين، وطريقة للتعبير عن رفض أي منهما، أكثر من كونها ممارسة حق “الاختيار”، والقائمة المشتركة بعد سنين الحرمان من “الحق الانتخابي” خلاصتها حرمان الأغلبية من حق “الاختيار” وحق “الانتقام”، وهذه هي الديمقراطية على حقيقتها.
القائمة المشتركة تعتبر مصلحة مشتركة للطرفين، بالنسبة لحركة فتح يبدو أنها محاولة للالتفاف على الضغوط الإقليمية، ولتحصين القيادة الحالية -محمود عباس- من بدائل مقبولة إقليميا ودوليا كدحلان، وبالنسبة لحماس هي هروب من فخ المراهنة على رصيدها الشعبي المتآكل بصورة طردية منذ سنوات طويلة، مع ضمان وجود مريح في المنظومة السياسية ما بعد الانتخابات؛ المفروضة دوليا لتحجيمها، دون أغلبية مفاجئة تجعل حماس في الواجهة منفردة كما حدث سابقا، رغم ضعف احتمالية ذلك حاليا، أو وجود غير مؤثر مفاجئ وغير مستبعد في نفس الوقت؛ فيما لو نزلت بقائمة خاصة بها.
فحماس تراهن على الضفة الغربية والجاليات في الخارج، أما في قطاع غزة فرهانها فقط على منتسبيها الذين يبلغون حسب تقديرات أطراف داخل الحركة ما نسبته 200 ألف منتسب بنحو 10% من عدد سكان القطاع، مع وجود كتلة بيروقراطية من الموظفين، ومع عوائل المنتسبين والموظفين فنسبة حماس داخل القطاع لن تتجاوز 30% إلى 35%، وحتى داخل الضفة الغربية فحماس ليس لها نشاط حركي هناك يمكنها من بناء حضور شعبي، وذلك بسبب الملاحقة المزدوجة من اليهود والعلمانيين في حركة فتح، والرهان هو على الرفض الشعبي المتوقع للسلطة الحاكمة في الضفة؛ كحال أي بلد، لكن تخوف الناس من مصير كمصير غزة يضيق عليهم معايشهم ربما يكون له أثر سلبي على حماس في الانتخابات حتى من الرافضين لسياسة حركة فتح، فالديمقراطية أصلا قائمة على أهواء الشعوب التي تبحث عن استقرارها المعيشي وليس السياسي أو العقائدي، والديمقراطية تنطلق من رغبات الأكثرية التي لم تُذكَر في القرآن إلا على وجه المذمة، ومن يراهن على وعي الشعوب فرهانه خاسر، والأمثلة أكثر من أن تحصى، ويكفي ما نراه من “وعي” شعبي في التعامل مع الوباء العالمي الأخير، أما بالنسبة لمشاركة الجاليات الفلسطينية في الخارج فهو إن تم سيكون محصورا في انتخابات المجلس الوطني لمنظمة التحرير، وحتى اللحظة لا يوجد ما يؤكد مشاركة الجاليات على أي صعيد انتخابي.
وعودا إلى قضية القائمة المشتركة فهي إن تمت ستكون وفق البرنامج السياسي للمنظمة، أو وفق برنامج سياسي توافقي مع العلمانيين في فتح، وفي كلا الحالتين فإن هذا استدارة واضحة للشعارات الإسلامية التي دخلت بها حماس الانتخابات السابقة، بل لا أظن أن حماس سترفع أي شعارات إسلامية في هذه الانتخابات كما فعلت سابقا، لعدة أسباب أولها أن حماس تريد صبغ نفسها بالصبغة الوطنية البحتة داخل مؤسسات الحكم، وستحصر الشعارات الإسلامية داخل أروقة الحركة، وذلك تخوفا من تصنيف المجتمع الدولي، وقد قامت بتغيير ميثاقها قبل عدة سنوات لأجل إعادة تسويق نفسها دوليا بصورة حركة تحرر وطني، ظنا منها أن هذا سيعطيها مساحة أكبر، ولا زال الواقع يزداد سوءا، والسبب الثاني أن حماس تدرك أن الشعارات الإسلامية في الانتخابات ستكون عاملا لنفرة الناخبين منها، كونها تجاوزت ما رفعته سابقا أمام من انتخبها؛ من شعارات الحكم بالقرآن والتغيير والإصلاح بتعاليم الإسلام، ومن نافلة القول التذكير بأن مشروع “التدرج” في تطبيق الشريعة الإسلامية الذي كانت ترفعه حماس سابقا في وجه من يطالبها بأحكام الشريعة= قد ذهب أدراج الرياح، خاصة في حال لو تمت أطروحة القائمة المشتركة، فأي مشروعُ “تدرجٍ” في تطبيق الشرع هذا الذي سَيَكُون ضِمن برنامجٍ سياسيّ مشترك مع حركة فتح العلمانية التي ترفض أحكام الشريعة الإسلامية جملة وتفصيلا داخل مؤسسات الحكم! وحتى لو نزلت حماس بقائمة منفردة فلن يكون لأحكام الشريعة نصيب في برنامجها الانتخابي؛ لأن الواقع أثبت أن الديمقراطية وحكم الإسلام ضدان لا يجتمعان، ومن الاستخفاف بعقول الجماهير إعادة طرح أسطوانة “نصرة الدين” من خلال الانتخابات الديمقراطية.
لقد كانت فكرة القائمة المشتركة مقترحا قديما طرحه عباس مع اشتراط عدم منازعته الانتخابات الرئاسية، وبعد رفضه مسبقا عادت حماس لتقبل به، وعلى ما يبدو قد تقبل حماس اليوم راغبة أو راغمة بعدم خوض الانتخابات الرئاسية، وتَركِها لعباس الذي أعلنت فتح بصورة غير رسمية أنه ذاهب إليها كمرشح مرة أخرى، وعدم مشاركة حماس في انتخابات الرئاسة إن كان تحت الضغط الإقليمي والدولي سيكون مع التزامها بعدم دعم مرشح منافس لعباس، والعقل والمنطق تبعا للواقع الحالي وبفهم حماس السياسي الوطني والديمقراطي وقياسا بتجربتها السياسية الفاشلة= يناديان بتجنب ورطة الرئاسة، وأن تتعلم من التجربة الفاشلة لجماعة الإخوان في مصر، لكن هل من خيارات بديلة لدى حماس؟ لا يوجد، فمنصب الرئاسة الوهمي ينتظر علمانيا صرفا، فإن لم يكن عباس فعلى شاكلته، ولعل بقاء عباس كان حلا وحيدا أمام المجتمع الدولي لمنع تفتت فتح في حال غياب عباس عن المشهد؛ وانقسامها لعدم وجود بديل متفق عليه، وهذا إن حصل سيعطي حماس -الخصم الوحيد لفتح على الساحة- فرصة الصعود وملء الفراغ، وهذا مرفوض دوليا وإقليميا، إضافة إلى أن عباس يريد قطع الطريق على دحلان، وهذا كله معناه رضا حماس راغمة ببقاء عباس بكل خطاياه وطوامه وخياناته! والمقابل هو مشاركة لحماس ضمن المنظومة السياسية الجديدة؛ كما هو واضح، لكن بسقف محدد: حصة بدون أغلبية داخل البرلمان، ومشاركة ضمن السلطة القضائية تحت سقف الدستور الفلسطيني العلماني، ودخول للحكومة مع بقاء رأس الحكومة والوزارات “السيادية” بأيدي مقبولة دوليا -تكنوقراط أو من الفصائل اليسارية والعلمانية- إن لم تكن فتح، وترك الرئاسة لفتح ممثلة في محمود عباس، ومشاركة داخل المجلس الوطني ببرنامج سياسي متفق عليه لن يتجاوز برنامج منظمة التحرير أو سيحوم حول حِماه.
وحُقَّ للمتابع أن يتساءل: هل عقمت أرحام النساء في فلسطين أن تلد شخصا سوى العلماني الخائن “محمود عباس”؟! فهو الذي يرأس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ويرأس السلطة، ويرأس اللجنة المركزية لحركة فتح، وهو الذي حل المجلس “التشريعي”، ثم قوض صلاحيات السلطة القضائية، ليبقى في النهاية بسلطته التنفيذية الحاكم الآمر الناهي على رأس المشهد السياسي بكل مؤسساته! بل مما يلفت الانتباه أن مخرجات اجتماع الفصائل الأخير في القاهرة عبارة عن إقرار كامل بشرعية محمود عباس، واعتراف صريح بها، حيث كان البيان الختامي مؤكدا على انطلاقه من المراسيم والمواعيد التي حددها عباس، ومطالبا إياه بإصدار مراسيم أخرى يوضح فيها مهام محكمة الانتخابات “التوافقية”! ومطالبته بتشكيل لجنة رقابية لضمان “الحريات”! وتشكيل لجنة “توافقية” مختصة بمعالجة الانقسام= ترفع تقاريرها إلى محمود عباس ليكلف الحكومة بتنفيذها ما بعد الانتخابات! ثم رفع “توصية” إلى محمود عباس لمعالجة بعض مشاكل قانون الانتخابات! مما يوضح أن هذا البيان الختامي يشي بشبه توافق مبكر على شخص عباس للانتخابات الرئاسية المرتقبة، ويبدو أنها إملاءات إقليمية بعصا مصرية لإطالة فترة محمود عباس في ظل غياب البديل الذي يجمع بين التوافق الداخلي والرضا الدولي، إلى أن تمر “صفقة القرن المحسنة”، والتي قد تمر هذه المرة بشرعية فلسطينية تصنعها الفصائل الفلسطينية نفسها!
هذه الفصائل الفلسطينية المدعوة إلى اجتماع القاهرة ضمت 14 فصيلا، اثنان فقط محسوبان على التيار الوطني “الإسلامي” وهما حركتا حماس والجهاد، والبقية فصائل علمانية ويسارية، واللافت أن كل هذه الفصائل العلمانية واليسارية لا يوجد لها تمثيل حقيقي على المستوى الجماهيري عدا حركة فتح، فكلها فصائل مجهرية، كما أنها تتخذ من الضفة الغربية مقرها الجغرافي ضمن مناطق السلطة الفلسطينية، ويمكن القول أنه لم يتم استدعاؤها دون غيرها لسببين؛ الأول أنها هي التي تمتلك عضوية داخل منظمة التحرير التي تسيطر عليها حركة فتح وتتحكم في قراراتها، ووجود هذه الفصائل داخل المنظمة ليس إلا ذرا للرمال في العيون، لأنها مجرد ديكورات تجميل لسياسة حركة فتح، وبالتالي يكون السبب الثاني وهو فرض مظلة اتفاقية أوسلو على حوارات القاهرة، كون المدعوين -عدا حماس والجهاد- يمثلون منظمة التحرير التي تُنسَب لها هذه الاتفاقية المشؤومة، حيث لم يتم توجيه دعوات للعديد من الفصائل المتواجدة داخل قطاع غزة والتي تعتبر من نفس التيار الوطني “الإسلامي” الذي تنطلق منه حركتا حماس والجهاد، كما أنها فصائل تدور في فلك حماس سياسيا، وهي أيضا فصائل مجهرية؛ تستثمر حماس وجودها سياسيا داخل القطاع كما تفعل حركة فتح مع باقي فصائل المنظمة، ولكي تميل كفة الحوار نحو رؤية حركة فتح السياسية تم استثناء فصائل قطاع غزة، وبالتأكيد أن هذا من صالح فتح وبفرض مصري.
أما لو تحدثنا عن موانع إقامة الانتخابات الفلسطينية بالنسبة لفتح فهو خسارة اليمين في الانتخابات اليهودية المقبلة، وهذا مستبعد، لكن إن حصل فلربما يلجأ عباس إلى عرقلة إجراء الانتخابات الفلسطينية طمعا في تدشين مرحلة تفاوضية جديدة مع اليهود مستغلا غياب أو تضعضع سلطة اليمين “المتشدد”، ساعتها إن أراد عباس عرقلة الانتخابات فإنه قد يتحجج بامتناع اليهود عن السماح للمقدسيين في القدس الشرقية بالمشاركة في الانتخابات، خاصة لو فشلت جهود توحيد الصف الداخلي لحركة فتح، أو أظهرت استطلاعات الرأي الرسمية وجود فرصة لحماس على حساب فتح، وهذه قد تكون أسباب مستقلة لمحاولة عرقلة الانتخابات، وفرصة عباس في عرقلتها فيما لو استطاع إقناع “رعاة” القضية الفلسطينية بخطورة خوض الانتخابات دون توحيد حركته فتح.
بخصوص القدس الشرقية فهي فقط التي يطالب بها عباس لتُجرى فيها الانتخابات، وسيواصل الضغط من خلال “المجتمع الدولي” على دولة اليهود لكي تسمح بإجرائها في الشرقية دون الغربية، وهذا معناه دخول حماس -في حال موافقتها أو سكوتها- في رؤية فتح السياسية التي تعطي اليهود الحق في القدس الغربية، ناهيك أن مجرد طلب موافقة اليهود على إجراء الانتخابات في القدس الشرقية مؤداه الاعتراف الضمني بسيطرة اليهود، وعلى نفس السياق طَرَح بعض ساسة اليهود مؤخرا مشروع تجنيس سكان القدس بالجنسية “الإسرائيلية” وذلك تمهيدا لوضع العراقيل أمام إدخال مدينة القدس ضمن العملية الانتخابية؛ لأن موافقتهم على مشاركة المقدسيين معناه إعطاء المدينة صبغة فلسطينية، واليهود يَعتبِرون أنفسهم قد تجاوزوا هذه المرحلة بعد إعلان الأمريكان اعترافهم بالقدس عاصمة لدولة اليهود.
أما بالنسبة لحماس فقد تلجأ إلى إشعال حرب مع اليهود لعرقلة الانتخابات إن استمر تضييق الخناق عليها وحشرها في الزاوية، تحديدا كتائب القسام، فيبدو أن الجناح الأكثرَ معارَضةً لِمَا يَحدُث موجودٌ داخل الجسم العسكري، لكنّ إشعال هذه الحرب معناه تحمل تكلفة ربما تكون فوق طاقة الحركة وقطاع غزة، خاصة أن اليهود يستعدون لها منذ سنوات، وينتظرون فرصة مواتية، وفي ظل الردة العربية عن القضية الفلسطينية فإن حماس ستجد نفسها دون أي نُصرة تُذكَر، بل ربما بمباركة ومعونة عربية ضدها، وهذا الواقع لا يحتاج توضيحا، فلقد خرج وزير جيش الدفاع اليهودي قبل أيام على فضائية عربية وأعلن بكل صفاقة أن الأهداف القادمة ستكون مدنية؛ لأن السلاح مكدس بين المدنيين على حد زعمه، وهذا مؤشر واضح على النوايا المدمرة المبيتة ضد قطاع غزة، لكن حماس أو الرافضون داخلها -بمعنى أدق- قد يكون خيارهم الوحيد العمل بمبدأ “عليا وعلى أعدائي”، بل الخيار والمخرج الشرعي الوحيد هو في تحمل تكاليف الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، فتكاليف العمل مع الله بصدق أقل من تكاليف تلك السبل المتفرقة عن سبيله؛ لأن سبيل الله فيه الخير وفي نهايته النصر، أما سوى سبيل الله فلا خير فيه، ونهايته الإخفاق قولا واحدا، وكما قيل: خير وسيلة للدفاع الهجوم، والله يتولى من تولاه.
وأمام هذا الواقع السياسي المزري تخرج أصوات من داخل حركة حماس تدعو إلى التعامل معه على أنه أفضل الممكن، وأنه وسيلة للحفاظ على “الثوابت الوطنية”! والاكتفاء بما حققته الحركة على صعيد بناء مؤسساتها؛ خاصة العسكرية، وإبرازه على أنه إنجاز ومكسب، هذه الأصوات تنتظر أن تتهيأ ظروف سياسية أخرى؛ محلية وإقليمية ودولية، تعيد لها القدرة على المناورة! وكأن البقاء ضمن هذه اللعبة السياسية المترهلة خيار استراتيجي لا محيد عنه مهما كانت التنازلات! ولو قمنا بمقارنة سريعة بين الثوابت قبل 15 عاما مع حالها اليوم سَيَظهَر بوضوح أن لعبة الديمقراطية ليست سوى أفضل وسيلة للفشل السياسي وتآكل الثوابت! ومن أصر أن يَبقَى يصارع الأمواج داخل هذه الدوامة الديمقراطية فلن يَرَى ما هو خارجها، وسيبقى يدور رغما عنه في نفس المسار المرسوم مسبقا دون أن يعرف البديل لما هو فيه من تخبط ودوران بلا هدف، لذا تكثر الأصوات التي تصرخ قائلة “ما البديل؟”، وفي المقابل هناك أصوات على مستوى الصف الأول تعلن رفضها لما تمخض عنه المشهد مؤخرا، لكنه رفض تحت ستار دعاوى إصلاح البرنامج السياسي واشتراطات لن ترى النور، مما يوضح حجم الخلافات داخل الحركة التي تقف على عتبة انتخابات داخلية لن تثمر استقرارا داخليا دون رضوخ الأطراف المتباينة لرؤية الأعلى صوتا.
أخيرا.. لن نَمَلَّ من تكرار التذكير بأن المخرج الوحيد من هذا الواقع المتخبط هو العودة إلى العمل وفق ما شرعه الله، فالتغيير والتحرير لن يكون بغير حمل السلاح والجهاد في سبيل الله لعودة حكم الله على أرضه، وانطلاقا من شريعة الله وحده، أما شريعة الدساتير العلمانية وشرعية صناديق الديمقراطية والمقاومة لأجل تراب الأوطان= فطُرُقٌ نهايتها السقوط والفشل، والذين يخشون من تحمل مشقة هذا الطريق سيدفعون الثمن مضاعفا في غيره، فإن الله لم يأمرنا إلا بما يَصلُحُ لنا ويُصلِحُنا، ولم يكلفنا إلا بما لنا فيه استطاعة، فهو الذي يعلم ما يَصلُحُ لخلقه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وهذه قضية إيمانية بحتة متعلقة باليقين، فمن أحسن الظن بربه علم أنه لا بديل عن الخضوع والاتباع لأمر الله، وأن الخير كل الخير فيه، أما من ضَعُفَ يقينُه فإنه سيبقى متخبطا في حساباته المادية مِن حولِه؛ بعيدا عن إعادة حساباته مع ربه وخالقه، وسيبقى حائرا متسائلا: ما البديل؟!
وأختم بنقولات من مقال كتبه الشهيد كما نحسبه الدكتور “عبد العزيز الرنتيسي” تقبله الله، أحد قادة ومؤسسي حركة حماس، والذي كان يرفض المشاركة في الحكم والسلطة مع أغلب القادة المؤسسين، بل حَرَّمُوا وجَرَّمُوا المشاركة في الانتخابات البرلمانية عام 1996، وبعد مقتله ومقتل أغلب القادة المؤسسين قامت القيادة التي خَلَفَتهُم بتغيير استراتيجية السابقين والدخول في دوامة الانتخابات والحكم ولم تخرج منها إلى الآن، وهذا المقال كتبه في آخر حياته تحت عنوان “هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟”، ومنه استوحيت عنوان مقالي هذا، حيث يقول فيه:
“لقد بات واضحا أن المحتل حين يبسط هيمنته على بلد ما فإن أول ما يسعى إلى تحقيقه هو إيجاد سلطة محلية تدير شؤون المواطنين، فتخفف عن المحتل أعباء الإدارة، وفي نفس الوقت تحفظ للاحتلال مصالحه التي هي في واقع الأمر تتناقض تناقضا جذريا مع المصلحة الوطنية العليا للشعب الذي يرزح تحت الاحتلال”.
ويقول أيضا رحمه الله:
“ومن هنا ندرك أن أي حكومة تقوم في ظل الاحتلال، وبإذن منه، لا بد أن تستوفي الشروط التي يضعها جنرالات الاحتلال، وهذه الشروط لن تكون إلا لصالح هذا الاحتلال، ولا يمكننا أن نخدع أنفسنا فنتصور أن الاحتلال يمكن أن يقدم مصلحة عدوه على مصلحته، ولا يمكننا أن نتصور أيضا أن مصالح الاحتلال تتقاطع مع مصلحة الشعوب المقهورة المستضعفة التي تقع في قبضته، اللهم إلا إذا كان سيف المقاومة مسلطا على رقاب المحتلين عندها تكون مصلحة الاحتلال في الفرار من جحيم المقاومة“.
ويختم مقاله مؤكدا:
“أن السلطة في ظل الاحتلال تعتبر إنجازا للاحتلال وليس إنجازا وطنيا حتى وإن خلصت النوايا“.
ولله الأمر من قبل ومن بعد..
وهو الذي يُسَيِّر الأمور بحكمته..
وله الحمد على كل حال..