الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فإن المتأمل في تاريخ الأمة يجد أقواما بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، وبعد أن كانوا مجاهدين في سبيل الله مناصرين للأمة سوط عذاب على الكافرين، أصبحوا مقاتلين في سبيل الشيطان مدافعين عن الأعداء نقمة على المستضعفين، والله المستعان على ما يصفون.
وإزاء هذه الظاهرة يجدر التأمل في قضية الاستبدال وما ورد فيها من نصوص كقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
وقال جل وعلا: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).
وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
وقال سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).
وقال تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا).
وقال تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ).
* وهذا حديث عن بعض المعاني المرتبطة بالاستبدال:
– سبب الاستبدال:
من عرف الحق واستنار بهديه، ثم ركن للباطل واختار الضلالة، فإنه عرض نفسه للمقت وسلْب النعمة والاستبدال، فمن دعي للإنفاق في سبيل الله تعالى فبخل وتولى تعرض للاستبدال، كما في قوله تعالى، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)، وكلمة التولي تشعر بالإعراض الشديد.
وكذلك من قيل له: انفر في سبيل الله فاثاقل إلى الأرض ورضي بالحياة الدنيا، يعاقب بالاستبدال.
فجريمة من تيسرت له أسباب الخير ووفق لطريق الحق ثم تنكب عنه هي من جنس جريمة الشيطان الرجيم الذي حظي بمقام العبودية مع الملائكة فاستكبر وخرج عن الصراط المستقيم فطرد مذءوما مدحورا، قال تعالى: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
– عقوبة الاستبدال:
قد يكون الاستبدال مؤقتا، يعود بعده المرء إلى الخدمة بعد أن تؤلمه سياط البُعد، وقد يكون الاستبدال تاما لا عودة فيه، وهذا الاستبدال التام عقوبة من أشد العقوبات، قال ابن عقيل في الفنون: “عظمت والله عقوبة الاستبدال، وأربت على العذاب؛ لأن الاستبدال صرف مؤيس من الرد إلى الاستخدام، والله لا خرجت مرارة قول الباري للأب الأول (اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا)، (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، لولا مزجها بقوله: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)، كأنه عقل من قوله (إِلَى حِينٍ) إضمار وكمين، وهو ثم تعادون إلى المسكن الأول بعد إذاقة مرارات الإبعاد…، الأب الأول أخرج من الجنة ولم يبدل بمكانه غيره، ومزج لفظ إبعاده بلفظ رجائه بقوله: (وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)..، فإن كل عذاب مؤجل يمزجه رجاء ما بعد الأجل، وإنما قاصمة الظهر الإبعاد ثم الاستبدال..، انظر كيف قالت المشفقة في طي الإغراء: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ)، ولم تقل (يقتل) لأن في السجن يرجى إطلاق. حكي أن زمنًا زحف مع النفير، فقيل له: إلى أين؟ قال: سمعته يقول: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) لو كان العذاب بغير استبدال هان، ولكن عذاب الاستبدال لا صبر عليه”.
ومما يدخل في عقوبة الاستبدال:
– الحرمان من التوفيق للطاعة، “فمن تابع بني إسرائيل أو غيرهم من الأمم فيما كانوا عليه من المعاصي، ولم يتق الله تعالى، فقد قصر في إظهار الحجة الإلهية عليهم، ولا يؤثر قعوده عن إظهارها في إظهارها شيئاً، غير أنه خذل نفسه بقعوده عن ذلك حتى فاته هذا المقام” [حسن التنبه لما ورد في التشبه].
– العذاب على فعل المعصية، “والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمُعادين، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء” [في ظلال القرآن].
– الحسرة والندامة عند رؤية البديل الموفق للطاعة، وتزداد الحسرة عندما يسلط هذا البديل الصالح على المتولي الفاسد فيعاقبه على ما اقترفت يداه، “ولقد استنصر الله تعالى على كل متول من هذه الأمة عن أمره، ومعرض عنه منهم، بمن يأتي بعده ممن يقوم بأحكامه، ويراعي حق أمره ونهيه” [حسن التنبه لما ورد في التشبه].
– بشريات الاستبدال:
رغم أن نكوص المخذولين وانقلابهم على أعقابهم يصيب المسلمين ببعض أذى إلا أن ذلك علامة على قرب ظهور وعلو الصادقين واستبدال المتراجعين، فإن الجزاء مترتب على الفعل (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، فالتولي يعقبه الاستبدال، والاستبدال يأتي بخيارٍ صادقين يخالفون طريقة المفتونين: (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)، (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).
قال ابن تيمية في رسالته للناصر: “فمن ترك الجهاد عذّبه الله عذابا أليما بالذل وغيره، ونزع الأمر منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذب عنه”.
وقال ابن كثير في تفسيره: “من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه، وأشد منعة وأقوم سبيلًا”.
وقال نجم الدين الغزي في حسن التنبه: “وفي هذه الآية إشارة إلى أمرين: الأول: أنه قد يكون في المتأخرين من هذه الأمة من تقوم الحجة به على بعض المتقدمين لكونه أطوعَ لله منه. والثاني: أن هذه الأمة لا ينقطع الخير منها إلى يوم القيامة”.
– موعد قيام البديل:
الاستبدال قائم في كل عصر وفي عامة الشعوب، فأفراد وجماعات ينتكسون ويتولون، وأفراد وجماعات وأقوام يحملون الراية ويكملون المسير ويجاهدون في الله حق جهاده حتى يأتيهم اليقين، وقد ارتد من ارتد من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت أمم في دين الله أفواجا وفُتح المشرق والمغرب، وركن قوم من العرب من خلفاء بني العباس إلى الدنيا فحمل الراية أقوام من العرب والعجم كابن سبكتكين، ونور الدين محمود، وابن تاشفين، ومحمد الفاتح..، وغيرهم كثير.
فالبديل قائم ويقوم على مر الزمان، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» متفق عليه.
وإن طال الزمن في ظن بعض الناس فإنه لا يمر قرن من الزمان حتى تظهر بوضوح شديد صور من صور الاستبدال ويسطع نجم قوم من جند الله المستمسكين بالحق، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» رواه أبو داود، وهاهي الدولة العثمانية تنتهي وتُلغى الخلافة سنة 1343 هـ 1924 م، وفي ذكرى مرور مائة عام على إلغاء الخلافة ظهرت إمارة أفغانستان الإسلامية سنة 1443هـ، في صورة واضحة من صور الاستبدال المستمرة عبر التاريخ.
قال الطبري في تفسيره: “لما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ارتد أقوام من أهل الوبَرِ، وبعض أهل المَدَر، فأبدل الله المؤمنين بخيرٍ منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده”.
وقال القرطبي في التذكرة: “أخبر عليه الصلاة والسلام بما يكون بعده من أمر العرب وما يستقبلهم من الويل والحرب، وقد وجد ذلك بما استؤثر عليهم به من الملك والدولة والأموال والإمارة، فصار ذلك في غيرهم من الترك والعجم، وتشتتوا في البراري بعد أن كان العزّ والملك والدنيا لهم ببركته عليه الصلاة والسلام، وما جاءهم به من الدين والإسلام، فلما لم يشكروا النعمة وكفروها بقتل بعضهم بعضا وسلب بعضهم أموال بعض؛ سلبها الله منهم ونقلها إلى غيرهم”.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: “وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوما آخرين إلا عند ارتداد المخاطبين، بل المراد: أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون، وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون”.
* فاللهم استعملنا في مرضاتك، وأدم علينا نعمة العبودية الخالصة لوجهك الكريم، واجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقاك، والحمد لله رب العالمين.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٥٠ ذو الحجة ١٤٤٤هـ