الأسير (7) – مجلة بلاغ – العدد الحادي والخمسون المحرم 1445 هـJuly 26, 2023

الأستاذ غياث الحلبي

مرت عدة أيام قبل أن يستدعى هاني إلى التحقيق مجددا، كان خلالها يعاني من آلام مبرحة نتيجة التعذيب الذي تعرض له، وقد بذل صديقه الصيدلي جهودا كبيرة ليساعده على استعادة عافيته.

وكالعادة نودي على رقمه وحضر السجان ومعه العصابة فوضعها على عينيه مع إمطاره بسيل من الشتائم، ثم ساقه إلى التحقيق، وما إن أدخل إحدى الغرف حتى أزكمت أنفه رائحة السجائر والتي يبدو أن المحقق كان يدخنها ثم يستمتع بإطفاء جذوتها بجلود المعذبين أو بألسنتهم.

ــــ ماذا يا هاني؟ هل هديت لرشدك وقررت الاعتراف؟

ــــ تحدثت عن كل شيء أعرفه سيدي.

ــــ لا يا هاني، ما زال هناك الكثير مما تخفيه عنا.

ــــ أقسم يا سيدي أن تكلمت كل شيء

ــــ يبدو أن التعذيب الذي نلته في الحفلة الماضية قد أعجبك وتريد تكراره

ــــ صدقني، ليس لي علاقة بشيء وأنا شاب مسكين من بيتي لعملي ومن عملي لبيته، أسير متلمسا الحائط وأقول يا رب سترك

ــــ “شوف ولاك” ليس لدي وقت أضيعه معك في هذا الهراء إما أن تعترف وإما أن يتولى أمرك الشباب، هل اشتقت للأخضر الإبراهيمي؟

يظل هاني ساكتا حائرا لا يدري بماذا يجيب فهو في موقف لا يحسد عليه أبدا إما أن يعترف بما لم يكن قط وإما أن يستمر على إنكاره فيبدأ تعذيب جديدا لما يشف من آثار سابقه

ـــ ماذا قررت؟

ويحاول هاني أن يكسب الوقت فيقوم بسرد اعترافاته السابقة حول المظاهرات، ويذكر تفاصيل من خياله لم يسبق له أن ذكرها ليشاغل المحقق ويرضي غروره فيظن أنه بعبقريته قد حصّل جديدا، إلا أن المحقق يصر على هاني أن يعترف بحمل السلاح والمشاركة بالقتل ويعده بمساعدته ويمنيه بالتخفيف عنه، ويعلم هاني أن هذا فخ إن سقط فيه فقد حكم على نفسه بالهلاك فيصر على الإنكار إلى أن ينفد صبر المحقق فيطلق يد الزبانية في تعذيب هاني والنيل منه، ويملأ صراخ هاني الفرع فيزيد ذلك من حماسة الوحوش ويطربون لسماع استغاثاته ويهمّ هاني مرارا أن يتخلى عن صبره ويعترف بكل شيء يريده المحقق فهذا العذاب يفوق احتمال البشر إلا أنه يوقن أن ذلك لن يخفف عنه إلا مدة يسيرة ثم يعود العذاب أسوأ مما كان، وأخيرا يأتيه لطف الله فيغيب عن الوعي ويفقد الشعور بكل شيء حوله.

استيقظ هاني ليجد نفسه لا يزال ملقى في المكان الذي كان يعذب فيه وحوله بقع من دمائه وكل عضلة وعظمة في جسمه تؤلمه، ويمر سجان بقربه فيغمض عينيه ويتظاهر بأنه لا يزال مغمى عليه.

ويمضي وقت ثم يسمع المحقق يأمر الزبانية بإيقاظه وإعادته إلى الزنزانة فيشعر أن الدنيا لا تسعه من الفرح وينسى آلامه وجراحه، لقد انتهت الجولة الثانية من التحقيق إذن، ويأخذ السجان دلوا من الماء ويفرغه فوق هاني ويركله برجله آمرا إياه أن ينهض بسرعة ثم يسوقه كما يسوق الراعي الحطمة غنمه حتى يعيده إلى مهجعه، وما إن يدخل هاني المهجع ويقفل السجان الباب حتى تخور قواه فيسقط أرضا لا يقوى على الحراك فيحمله بعض السجناء إلى مكانه المخصص له، ويأتي صديقه الصيدلي ليحمد الله على عودته سالما ثم يشرع في تنظيف جروحه وتضميدها بخرق الثياب البالية ويسأله عما جرى له، ولما علم أنه لم يعترف بشيء مما أملاه عليه المحقق ولم يضف جديدا إلى اعترافاته السابقة أخبره أن جولات التحقيق معه أوشكت على الانتهاء ولم يبق إلا القليل ليغلق ملف التحقيق معه ويضع عليه بصمته تمهيدا لإحالة أوراقه إلى القضاء لإصدار الحكم عليه، وواصل الصيدلي كلامه فقال: وعلى أي حال فالقضاء هنا لا قيمة له إنما هي أمور شكلية أما الأحكام فهي بيد كبار المجرمين من الضباط النصيرية، وهذه الأحكام إنما تستند إلى الشهوة والهوى لا إلى الأدلة والبينات، وكذلك الأمر في كل دولة مستبدة، فليس القضاء فيها إلا زيفا وبهرجا أما الحكم الحقيقي فلا علاقة للقضاء به إنما هو بيد الطاغية فقط.

هنا بقية مقالات العدد الحادي والخمسون من مجلة بلاغ لشهر المحرم ١٤٤٥هـ

https://fromidlib.com/مقالات-مجلة-بلاغ…٥١-_-المحرم-١٤٤٥/

Exit mobile version