الأستاذ: غياث الحلبي
كان هاني يقلب في ذهنه ما سمعه للتو من الصيدلي، يبدو أنه كلام منطقي متزن وإن كان يبدو شاقا جدا، نعم هو الآن ليس أمام طريقين أحدهما سهل والآخر صعب، بل هو أمام طريقين أحدهما أشق من الآخر، وأدناهما مشقة تفوق مشقته قوى التحمل في الإنسان، يجب عليه الآن أن يحصر تفكيره في اجتياز مراحل التحقيق بأقل الخسائر، وليس فيما وراء أسوار هذا السجن البغيض، فهذا أدعى لاجتماع قلبه ومواجهة الأخطار التي تحدق به.
كان الوقت يمر ببطء شديد وكأن الأرض كفت عن الدوران، ومع أنه لم يكن في الزنزانة ساعة يعرف بها الوقت إلا أن تقدير الوقت يمكن عسرا من خلال مواعيد إدخال الطعام إلى السجناء وازدياد وتيرة التعذيب، فقد كانت الوجبة الأولى تقدم في السابعة صباحا ويبدأ الدوام في الثامنة وتبدأ معه زيادة حدة التعذيب؛ إذ إن التعذيب والتحقيق لا ينقطعان ويستمر إلى الثالثة، لتقدم الوجبة الثانية في الخامسة، ثم يعطى الأمر بالنوم في السابعة، ولم يكن هاني يعرف شيئا عن هذا، ولكن الأيام ستعلمه.
مرت ساعات قبل أن يطرق السجان باب الزنازين بعنف طالبا من نزلائها تجهيز الأواني لملئها بالطعام، وفي الحال كانت ثلاث قصاع قد وضعت خلف الباب بانتظار أن يفتح السجان الباب ليخرج أحد السجناء القصاع قصعة تلو أخرى فيسكب السجان فيها طعاما تتأبى الدواب عن أكله وتعافه رغبة عنه، ولكن كميته كانت لا بأس بها.
قُسم الطعام بين السجناء بنظام السُّفر؛ حيث يعطى كل خمسة أو ستة نصيبا يجتمعون عليه، وحين دعي هاني ليأكل عزف عن ذلك، فقد كان أبعد ما يكون عن شهوة الطعام اللذيذ فضلا عن المقرف، وهنا مال عليه الصيدلي قائلا:
– كلْ فجسمك بحاجة إلى الغذاء ليستطيع الصمود.
– ولكني لا أشتهيه.
– وهل يشتهي هذا الطعام بشر سوي؟ كل فأنت بحاجة إلى الغذاء.
– ودنا هاني ليضع في فيه بضع لقمات شعر كأنها ثمار شجرة تنبت في قعر الجحيم فانتحى جانبا.. أو نوى ذلك بقلبه لأنه لم يكن هناك فراغ ليرجع إليه، ولم تفلح محاولات الصيدلي لتناول المزيد.
شعر هاني أن وقتا طويلا مر عليه هاهنا ولا بد أن وقت الصلاة قد حان فسأل الصيدلي
– كيف تعرفون الأوقات هنا؟ وكيف تصلون؟
– اخفض صوتك حتى لا يسمعك أحد، فحتى هاهنا يوجد جواسيس ومخبرون للنظام.
– ماذا؟! جواسيس هنا.
– نعم للأسف، إنه الانحدار البهيمي، سجين يشي بسجين مثله مقابل سيجارة أو شيء آخر تافه، على أي حال الصلاة هنا ممنوعة وتعتبر جريمة قد تودي بصاحبها إلى الموت، عليك أن تجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وتؤدي الصلاة بعينيك، وأما الفجر فقد تضطر إلى أن تتيمم لها.
– ولماذا؟ أليست المياه متوفرة هنا؟
– بلى، ولكن مواظبتك على القيام يوميا وقت الفجر يعتبر دليلا قويا للجاسوس ليعلم أنك تتوضأ لأداء الفجر.
– ما كنت أظن أن هذا يحدث أبدا.
– هذا الفرع على ما فيه من الإجرام أقل سوءا من صيدنايا.
– صيدنايا؟ أعوذ بالله، أعوذ بالله.
– إنه أسوأ سجن على ظهر البسيطة.
نهض هاني إلى بيت الخلاء فقضى حاجته ثم توضأ وعاد فجلس على ما يزعمون أنه فراش، ثم صلى بعينيه كما علمه الصيدلي.
وكانت المأساة بالنسبة إلى هاني عندما حان وقت النوم، لقد اعتاد أن ينام على فراشه الوثير الذي يتضوع طيبا، ويضع تحت رأسه وسادة ناعمة ويتقلب كيف يشاء على سريره، أما الآن فستكون حصته بلاطة واحدة وسيكون النوم على لحاف عسكري شديد القذارة وعلى جانب واحد لا يقدر أثناء نومه على التقلب أبدا؛ إذ إن الأجسام متلاصقة ببعضها ورائحة العرق والجروح الملتهبة تزكم الأنوف، عدا أنه سينام جزءا ثم يقوم ليفسح مكانا لغيره لينام ويمضي هو باقي الوقت واقفا على قدميه بانتظار أن يحين دور مجددا.
وضع هاني جنبه على الأرض وهو يشعر بضيق شديد أخذ يزداد كلما زاد الدفع ليتسع المكان لأكبر عدد ممكن من السجناء، ولم يكن الضيق قاصرا على قلبه بل اتسع ليشمل تنفسه حتى ظن أن روحه ستخرج، وهمَّ مرارا أن يقوم، ولكنه كان في كل مرة يصبر نفسه لأن قيامه يعني ذهاب مكانه، وسيضطر أن يمضي جزأين من الليل مستيقظا وهو بحاجة إلى الراحة لمواجهة التحقيق غدا.
حاول هاني أن ينام غير أن النوم قد جفا عينيه، فأطلق العنان لفكره يسرح حيث شاء، فتارة يتخيل ما سيجري في جلسة التحقيق غدا وتتراءى له أدوات التعذيب المريعة التي لا تجد شبيها لها إلا في محاكم التفتيش قبل قرون في الأندلس فيستعيذ بالله ويسأله اللطف والفرج، وأخرى يعود به الفكر إلى حياته السعيدة التي كان يعيشها حرا طليقا فيذكر أمه وزوجه وابنه وبيته وعمله، فتنحدر على خده دمعة تتلوها أختها، وثالثة يتخيل نفسه وقد أطلق سراحه فعاد إلى قريته فرحا مسرورا ليُتلقى بالزغاريد والأهازيج، وأحيانا تستبد به الأفكار فيطمع بحصول زلزال مريع يدك هذا السجن فيحيله ركاما واضعا حدا لحياة السجناء التعسة هذه، وبينما هو في غمرة أحلام اليقظة تسلل النوم رويدا رويدا إلى عينيه حتى أحكم إغلاقهما، وكانت أحلامه في النوم نسخة تكاد تكون مطابقة لأحلامه في اليقظة، ولم يشعر إلا بيد توقظه لينال نصيبه من الوقوف كما ناله من النوم.
كان هاني متعبا جدا وبالكاد استطاع فتح عينيه ثم وقف وسند نفسه إلى الجدار، وأثناء ذلك كان يغفو لبضع ثوان ثم ينتبه ثم يغفو ثم ينتبه، حتى حان دوره في النوم مجددا ليرمي بجسده إلى الأرض ويغط في نوم عميق وتعود الأحلام ذاتها إليه؛ فهو تارة يعذب وأخرى يفرج عنه وثالثة يهرب من السجن ورابعة ينقل إلى صيدنايا وخامسة يخسف بالسجن..، وهكذا دواليك، ولما أوقظ مجددا ليقف علم أن وقت الفجر قد أوشك على الدخول فذهب إلى الخلاء فتوضأ ثم عاد ليقف ويدعو ربه، وتناهى إلى سمعه صوت أذان الفجر قادما من بعيد يشق صمت الليل، وكان هذا هو الأذان الوحيد الذي يسمعه السجناء أحيانا فيؤنس قلوبهم ويسكب فيها السكينة والتفاؤل.
انحدرت الدموع من عيني هاني مجددا وهو يسمع صوت الأذان الواهن، وغبط من قلبه أولئك الذين يخرجون الآن من بيوتهم ويؤمون المساجد، ثم صلى بعينيه وتمنى لو يتمكن من الصلاة على الهيئة المعروفة فهو في أمس الحاجة إلى أن يسجد ويناجي ربه طويلا في سجوده يبثه همومه وأحزانه ويشكو إليه كربه وغمه.
إنه يشعر أن جبهته يجب أن تصافح الأرض تذللا لله، ولكن ضيق المكان من جهة وجواسيس النظام من جهة أخرى يمنعونه من ذلك، ألا تبا لأولئك الحمقى، كيف يرضون أن يكونوا جواسيس لمن يسجنهم ويعذبهم ويعاملهم معاملة خير منها معاملة الراعي الحطمة، تعسا لهم وسحقا.
شعر هاني براحة نفسية كبيرة بعد أن فرغ من الصلاة والدعاء، أحس أنه ليس وحيدا، وأن عناية الله تلحظه، وهو في محنة عليه أن يتجاوزها دون أن تنزلق قدمه؛ ليخرج منها منتصرا، ليس عليه أن يتعجل الخروج، عليه أن يصبر وسيأتي الفرج في الوقت الذي قدره الله، لقد عمل بشدة أن يتمسك قدر استطاعته بالأمرين اللذين أخبره بهما الصيدلي مهما كلفه ذلك من التضحية والصمود.
مضت عشرة أيام دون أن يستدعى هاني إلى التحقيق أو يذكر أحد رقمه الذي أُنعم به عليه بعد تجريده من اسمه! فأخذت الظنون تساوره:
أتراهم نسوني؟ لماذا لم يحقق معي أصلا؟! هل يمكن أن يطلقوا سراحي دون تحقيق ويكون المراد من اعتقالي هو نشر الرعب والهلع فقط؟ ماذا جرى لباقي رجال القرية الذين اعتقلوا معي؟ أهم موجودون في الزنازين المجاورة أم نقلوا إلى مكان آخر؟ هل أطلق سراح أحد منهم؟
تنهد هاني بعمق وأخذ يقرأ ما خطه السجناء السابقون على جدران الزنزانة، هنا مكتوب: “سيجعل الله بعد عسر يسرا” وشعر بقدر كبير من التفاؤل بعد قراءتها، وبجوارها مكتوب: “كان أبو عذاب هنا يوم 26 / 7 / 2008″، ونقل عينيه إلى مكان آخر ليقرأ: “أخي السجين لا تعترف إذا أردت الخروج من هنا”، عبارات كثيرة قرأها هاني: “حياتي عذاب”، “أخي أنت حر وراء السدود”، “ضريبة الحرية أقل بكثير من ضريبة العبودية”، “أرونا بطشكم هيا أرونا”، “قسما لن نستسلم”، واستوقف هاني بيت شعر كتب بخط جميل مختلف عن سائر الخطوط وشعر كأنه يتحدث عن خبيئة قلبه:
هل ترانا نلتقي أم أنها
كانت اللقيا على أرض السراب
هو لا يعرف من نظم هذا البيت ولم يسمع به من قبل ولا يعرف قصته، ولم يطرق سمعه ساعتها اسم أمينة قطب أو كمال السنانيري.
حدق بصره طويلا بهذا البيت وأخذ يردده مرارا، أتراه يلتقي ثانية بأهله وأحبابه أم سيكون السجن قبره، وتابع القراءة: “السجن للرجال”، “السجون قبور الأحياء”، “اشتقت لأولادي”، “يا رب فرجك”، “الظلم لا يدوم”، “مظلوم يا ناس”، “إن مع العسر يسرا”، “الصبر جميل”، وبينما كان هاني مستغرقا في ذلك التفت إليه الصيدلي، وسأله:
– كيف حالك اليوم؟
– الحمد لله، كما ترى، ننتظر فرج الله.
– لا تقلق بشأن هذا، شدة وتزول إن شاء الله.
– إن شاء الله، لماذا لم يطلبوني إلى الآن ليحققوا معي؟
– هذا فأل خير، كأن قضيتك ليست مهمة عندهم ولذا قدموا عليها غيرها.
– بشرك الله بالخير.
– كما قلت لك سابقا، لا شيء يورطك ويودي بك كالاعتراف، أقلَّ الكلام ما استطعت ولا تتهاون بأي معلومة مهما كانت في نظرك تافهة أو لا قيمة لها.
– أود أن أصرخ في وجوههم: ألا يكفي أنكم قتلتم نصف رجال القرية دون ذنب؟ ثم تريدون أن تحققوا مع النصف الآخر بعد أن اعتقلتموهم؟ أليس الواجب أن تُعتقلوا؟
– ضحك الصيدلي، وقال: هل نسيت أننا في سورية؟
ثم أضاف بلهجة غنائية ساخرة:
– أنا من بلد الحرية، ونناديكم من سوريا، يا أطفال العالم، وتحولت ملامح وجهه إلى الحزم والجدية، وقال:
– حذار أن تحدث المحقق عن المجزرة التي جرت، إنك بذلك تحكم بنفسك على نفسك بالإعدام، حتى لو سألك فأظهر الجهل التام بالموضوع، وقل له: إنك لا تعرف شيئا عنه، لم تر، ولم تسمع.
– ولكن كيف أنكر وقد رأيت تفاصيل كل شيء بعيني رأسي.
– يعني ستقول له: إن الجيش الباسل قد اقتحم قريتنا الآمنة بطريقة همجية تترية وعاث فيها فسادا وجعل رجالها بين قتيل وأسير، وحتى النساء والأطفال لم ينجوا من شرهم؟!
– لا تسخر مني أرجوك، للمزاح وقت غير هذا.
– أنت تسخر من نفسك، بل تهلكها حينما تفكر بهذه الطريقة.
– يا إلهي، ماذا سأفعل؟
– المحقق لا يعرف شيئا عنك وعن ظروف اعتقالك، أنت بالنسبة له الآن صفحة بيضاء لا توجد فيها أي كلمة، وبناء على كلامك سيرسم صورة عنك مجملة ثم يجبرك على إضافة التفاصيل إليها وملء فجواتها.
– هل أنكر وقوع المجزرة برمتها؟ سأبدو حينها كذابا غبيا.
– لا، أنت ستنكر معرفتك بحدوث المجزرة، وعند سماعك لأحداثها -إن حصل ولا أظنه سيحصل- عليك أن تبدي استغرابك الشديد ثم تصب سخطك على العصابات الإرهابية المسلحة التي قامت بها، وعلى كل حال عليك ألا تقلق كثيرا بشأن التحقيق فأمرك كما يبدو هينا، وإلا لما جاؤوا بك مباشرة إلى زنزانة جماعية، فأي متهم في العادة يوضع في المنفردة أول الأمر وقد يمكث فيها أشهرا قبل أن ينقل إلى الجماعية.
صمت هاني وغرق في بحر أفكاره مجددا، فربت الصيدلي على كتفه وأشار له إلى الجدار، وقال اقرأ ما كتب هناك.
رمى هاني ببصره فإذا مكتوب:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
وتحته مكتوب:
يا صاحب الهم إن الهم منفرج
أبشر بخير إن الفارج الله
– لا إله إلا الله، أخشى أن يطول الأمر ويتأخر الفرج.
– وهل سيغير حزنك وهمك من الواقع شيئا؟
– صدقت ولكننا نبقى بشرا، الأمر ليس بيدي.
– بيدك أن تخفف عن نفسك أو تزيد آلامها وعذابها.
– كيف؟
– لا تفكر بالأمر كثيرا، وحاول النسيان قدر المستطاع ودع الغد لله، فقد نموت قبل أن يأتي.
– حقا، إنني أتمنى الموت لأرتاح من هذا العذاب والقلق، الصدق أقول: إنني أحسد رجالنا الذين قُتلوا في ساحة القرية، كانت مجرد طلقة اخترقت أدمغتهم ثم لم يعودوا بعدها يشعرون بشيء، أما نحن فإننا نموت في كل يوم مائة مرة.
– دع عنك هذه الأفكار السوداء، وهلم نتحدث في أمر آخر بعيد عن السجون والمجازر والتعذيب.
– فيم نتحدث؟
– في أي شيء يخرجك من السجن الذي وضعت نفسك فيه.
– أنا وضعت نفسي في السجن؟
– نعم، لا أقصد هذه الزنزانة ولكن أقصد الضيق الذي تجلبه لنفسك بسبب تشاؤمك وتفكيرك المستمر، فأنت في الحقيقة في سجن داخل سجنك.
وعاد هاني يتأمل الزنزانة مجددا، فيبدو أن الصيدلي محق فيما يقول، لماذا أحمل نفسي فوق طاقتها، ما قدره الله سيقع لا محالة ولن يستطيع مخلوق تغييره، فلأرح نفسي من هذا العناء.
– حسنا، لنتحدث في الشعر، ما رأيك؟
– جميل، وهل تحب الشعر؟
– في الحقيقة ليس لي به كبير اهتمام، غير أني قرأت اليوم بيتا أثر فيَّ كثيرا وأحببت أن أعرف قائله وقصته، ويظهر لي أنه لعاشق فقد حبيبته.
– ما هو؟ يظهر لي أنك مرهف الحس رقيق المشاعر.
– هل ترانا نلتقي أم أنها
كانت اللقيا على أرض السراب
– يبدو أنك تأبى إلا الحزن، دعه عنك وسأنشدك بعض أبيات الغزل لجرير أو كُثير أو ابن زيدون، فتسعد روحك وتطرب بدل أن تحزن.
– لقد شوقتني أكثر، ما قصة هذا البيت؟
– أمُصر أنت على ذلك؟
– الإصرار كله؟
– ستحزن كثيرا.
– لا يهم، أخبرني فقط، لقد نفد صبري.
– حسنا، حسنا، هل تعرف أمينة قطب؟
– لا، من هذه؟
– قائلة هذا الشعر، هل تعرف سيد قطب؟
– لا، ولكن يبدو أنه قريب لها.
– هل تعرف الإخوان المسلمين؟
– نعم، ولكن ما دخلهم في موضوعنا؟
– سيد قطب، أحد قادة الإخوان المسلمين في مصر وأمينة أخته، وكمال السنانيري أحد قادة الإخوان المسلمين في مصر أيضا، وقد اعتقل وحكم عليه بالسجن خمسة وعشرين عاما، وفي أثناء مدة اعتقاله نقل إلى مستشفى السجن فقابل هناك سيد قطب وخطب إليه أخته، فوافقت على ذلك وعقد الزواج، وطال انتظار أمينة، فأشفق كمال عليها، وقال لها: لقد طال الأمد وأنا مشفق عليك من هذا العناء، وقد قلت لك في بدء ارتباطنا: قد يفرج عني غدا وقد أمضي العشرين سنة الباقية أو ينقضي الأجل، ولا أرضى أن أكون عقبة في طريق سعادتك، فأبت أمينة إلا الوفاء وانتظار الفرج، وظلت ترتقب إطلاق سراحه حتى تم بعد سبعة عشر عاما، فخرج كمال وتزوج بأمينة وبعد بضعة أعوام قبض عليه مجددا، وألقي في غياهب السجون وسلطت عليه الذئاب البشرية تنهشه وتعذبه حتى لقي الله شهيدا، فنظمت أمينة قصيدتها الخالدة تبث فيها أشواقها وآلامها وأحزانها وتعاهد ربها على المضي في الطريق ذاته.
ولما فرغ الصيدلي من القصة نظر إلى عيني هاني فإذا هما تذرفان، فقال: ألم أقل لك: إنك ستحزن كثيرا؟
– لعنة الله عليهم، ما أشد إجرامهم.
– الأنظمة الحاكمة لمعظم بلاد المسلمين على هذه الشاكلة فهي لم توجد إلا لحماية مصالح الكفار وضرب الحركات الإسلامية.
– أتحفظ قصيدة أمينة؟
– أحفظ بضع أبيات منها فقط، وهي ليست طويلة كما أظن.
– أنشدني ما تحفظ منها
– أتحب أن تتسمعها بلهجة خطابية أم غنائية؟
– بل غنائية فهي أحرى أن تلامس بذلك شغاف القلب.
وتنحنح الصيدلي ثم انطلق ينشد بصوت عذب جميل:
هل ترانا نلتقي أم أنها
كانت اللقيا على أرض السراب
ثم ولت وتلاشى ظلها
واستحالت ذكريات للعذاب
هكذا يسأل قلبي كلما
طالت الأيام من بعد الغياب
فإذا طيفك يرنو باسماً
وكأني في استماع للجواب
أولم نمض على الدرب معاً
كي يعود الخير للأرض اليباب
– هذا ما أحفظه منها فقط.
– أعدها ثانية، أرجوك، هذا أعذب صوت سمعته في حياتي وأجمل قصيدة طرقت مسمعي.
وأراد الصيدلي أن يمازح هاني غير أن وجهه المبلل بالعبرات منعه من ذلك، وعاد فأنشد القصيدة ثانية.
– كررها ثالثة.
– لا، هذا يكفي.
– هذه المرة فقط لأجلي.
وأنشد الصيدلي الأبيات للمرة الثالثة، وكان هاني يحاول حفظها، فأخذ يعيدها على الصيدلي وهو يصحح له حتى أتقنها ثم قال هاني له:
– إن شأنك غريب فعلا.
– تبسم الصيدلي وقال:
– غريب، ما الغريب فيَّ؟
– أنت صيدلي، غير أني ألاحظ اتساعا في اطلاعك في أمور لا علاقة لها بالصيدلة، وتتكلم عن السجون والأفرع الأمنية وكأنك قد قضيت شطرا من عمرك فيها، وأجد فيك التزاما دينيا يختلف عن سائر المعتقلين، فمن أنت وما قصتك؟
– أرى أن شهيتك اليوم مفتوحة على القصص والأشعار والتراجم.
– ألم تنصحني بالخروج من السجن الذي صنعته لنفسي؟
– بلى، ولكن في السجون لا تذكر معلومة لا تضطر إلى ذكرها.
– أتشك في؟
– الأمر ليس له علاقة بالثقة والشك، أنت هنا في مكان خطر واستدراج السجين عن طريق جاسوس خفي أمر منتشر بالسجون، وحتى تقطع هذا الطريق بالكلية عليك باتباع القاعدة التي تقول: “المعلومة على قدر الحاجة وليس على قدر الثقة” فمهما وثقت بشخص حتى ولو كان أخوك أو أبوك فلا تفض له بمعلومة قد تضرك، واعلم أن أكبر حماقة يمكن أن يرتكبها السجين أن يذكر معلومة لسجين مثله استطاع أن يكتمها في التحقيق ويضلل عنها الزبانية.
– وهذا الذي تقوله لي ألا يضرك؟
– قد يكون ذلك، ولكن تحذيرك من الوقوع في الفخاخ التي سينصبها لك المحققون أهم من ذلك، فهذا التحذير إن فهمته سيمنع وقوع سلسلة طويلة من الرجال في مخالب الأفرع الأمنية، وعلى أي حال فهذا كلام عام يعرفه أي سجين مخضرم.
– هل تعني أنك سجين مخضرم؟
– يبدو أنك لم تستوعب الدرس جيدا.
– عذرا، أنا آسف.
– لا بأس.
– هل حققوا معك؟
– نعم، في اليوم نفسه الذي اعتقلت فيه أخرجوني إلى التحقيق.
– وماذا جرى معك؟
– طلبوا مني أن أعترف بأشياء اخترعوها وهم أعلم الناس أنها من وحي شياطينهم.
– مثل ماذا؟
– مثل أننا نتبع لجهات خارجية معادية للنظام السوري الذي يعتبر رأس حربة في مواجهة إسرائيل، وأننا نقبض الأموال مقابل مشاركتنا في المظاهرات، وأننا نتعاطى المخدرات، وأكاذيب كثيرة تم استيلادها في أقبية المكر وسراديب الكذب والخيانة.
أطلق الصيدلي زفيرا طويلا من فمه، ثم قال:
عجبا لهذا النظام، ما أشد وقاحته وصفاقة وجهه، لقد فاق بكذبه مسيلمة، يختلق الأكاذيب التي تنطبق عليه تماما ثم ينسبها إلى معارضيه، يتهمنا بالعمالة لجهات خارجية وهو أكبر عميل مر على سوريا منذ أن خلقها الله إلى يوم الناس هذا، أولم يقل ابن خالة رأس النظام بكل وقاحة فجة: “إن أمن إسرائيل من أمن سوريا”، أولم يبع الهالك المقبور الجولان لليهود.
يتهمنا أننا عصابات إرهابية تسفك الدماء، وهو الذي واجه المتظاهرين بالرصاص الحي واعتقلهم ورماهم في أقبيته المظلمة، أونسي هذا النظام المجازر التي ارتكبها الهالك المقبور في القرن الماضي، أونسي نسف مدينة حماة وتدميرها وإهلاك الحرث والنسل فيها، أونسي سجن تدمر ومآسيه.
– يبدو أننا ابتعدنا عن موضوعنا قليلا، هل اعترفت بشيء من هذا؟
– لقد عذبوني عذابا رهيبا، وضعت في الدولاب وعلى بساط الريح وشبحت لمدة يوم كامل، ولكني لم أعترف بما يريدون، كنت في البداية عازما على إنكار كل شيء حتى وجودي في المظاهرة، قلت لهم في البداية: إني كنت مارا بالمصادفة عندما ألقي القبض علي، ولكن أمام شدة التعذيب اعترفت بمشاركتي في المظاهرات وهتافي بشعارات مطالبة بالحرية والعدل وثبتُّ على هذا.
– كيف استطعت ذلك؟
– كنت بعد كل وجبة تعذيب أعترف فقط بمظاهرة جديدة أو هتاف جديد، كنت أعلم أن أي اعتراف زائد على ذلك القدر سيكون ثمنه دما أو سنين من السجون، فكان الصبر بضع ساعات على ألم التعذيب خيرا من تجرع مرارة الأسر سنوات طوالا، ومع ذلك فلن يكون خاليا من التعذيب، بل ربما فاق تعذيب الأفرع الأمنية شدة وضراوة.
– أنا خائف.
– تشجع وإياك أن تضعف، هي مرحلة ويجب أن تعبرها.
يتبع في العدد القادم إن شاء الله.
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ اضفط هنا
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد 47 اضغط هنا