الأسير 10 مجلة بلاغ العدد ٥٤ – ربيع الثاني ١٤٤٥ هـ⁩

الأستاذ: غياث الحلبي

يوم جديد أطل على السجناء في صيدنايا يحمل معه آلاما جديدة، كان هاني جالساً واجماً يُخيل إليه أن هذا العذاب الذي يعيشه لن ينتهي أبدا، الحياة هنا جملة من الآلام، لا يوجد شيء يمكن أن يستثنيه من ذلك، كل شيء هنا كئيب، كل شيء مؤلم، كل شيء يجعلك تتمنى الموت مراراً في اللحظة الواحدة، غير أن ما سيشهده اليوم سيجعله ينسى التعذيب الذي ذاقه لهول الموقف الذي سيتعرض له.

في جولة مكررة من جولات التعذيب نال هاني نصيبا وافرا من الضرب واللكم ثم أمره السجان يخفض رأسه ويغمض عينيه ويسير وفجأة أمره السجان بالتوقف ثم فتح باب زنزانة وأمره بالدخول، ثم أغلق الباب وانصرف.

ظل هاني مغمّضاً عينيه فهو لا يدري أين هو؟ ويخشى إن رفع رأسه وفتح عينيه أن يجد كمينا نصب له، فلما طال الوقت ولم يسمع صوتا ولم يشعر بحسٍّ فتح عينيه شيئا يسيرا فوجد نفسه في زنزانة قد فرشت أرضها بالملح، كانت سعادة غامرة فهو لم يذق الملح من مدة طويلة جدا، وسرعان ما جلس القرفصاء وأخذ قبضة وبدأ يلعقها، ثم أخذ قبضتين فجعلهما في جيوب سراويله كان يشعر بفرح شديد ربما يفرح هكذا لأول مرة في صيدنايا، ولكن فرحته لم تدم إذ سرعان ما تحولت إلى رعب شديد.

استدار هاني ليتفقد محتويات الزنزانة وإذ به يتفاجأ بخمس جثث ملقاة ممددة فيها، شعر برهبة شديدة وكاد يفقد وعيه، لماذا جلبوه إلى هنا؟ وما قصة هذه الجثث؟ هل سيترك هاهنا حتى يلقى مصير هؤلاء رعبا وعطشا وجوعا؟

الخطب يفوق احتمال هاني، قلبه يخفق بشدة، والأفكار تتضارب في رأسه، والشيطان يوسوس إليه أن أسوأ الاحتمالات بانتظاره، بقي هكذا بضع ساعات قبل أن يأتي السجان ليعيده مجددا إلى مهجعه.

دخل المهجع ذاهلا، أصفر الوجه، كأنه قد خلا من الدماء بشكل كامل، ارتمى على الأرض مندهشا فاغر الفم غائباً عما حوله، اجتمع عدد من السجناء حوله يسألونه عما جرى له، كان واضحا أن شيئا فظيعاً قد حدث معه غير أنهم لا يعلمون ما هو، وأثناء ذلك انسابت بعض حبات الملح من جيبه ولاحظها أحد السجناء فأخذها يتفحصها لم يخطر في باله أن تكون ملحا فهذه مادة نادرة هنا لا يمكن أن توجد وأخيرا تذوقها فإذا هي ملح فعلاً،

ـــ من أين جئت به؟

ولكن هاني لم يرد، فأجاب أحد السجناء: يبدو أنهم أخذوه إلى غرفة الملح ولذلك هو مصدوم.

اكتفى بعض السجناء بالإجابة فيما سأل آخرون: وما هي غرفة الملح هذه؟

ـــ غرفة مليئة بالملح توضع فيها الجثث ليحفظها من التحلل ريثما تأتي السيارات لتنقلهم إلى المقابر الجماعية، على أي حال هذا خير من إبرة الهواء؟

ــ وما هي هذا الشيء اللعين؟

ـــ إبرة هواء يحقنون بها السجين في أحد أوردة عنقه ليموت بعدها مباشرة بعد إصابته بجلطة.

ولم تمنع هذه الكلمات السجناء من التقاط حبات الملح المتناثرة، وأدخل أحدهم في جيب هاني ليستخرج بعض الملح فلم يجد رفضا ولا ممانعة وسرعان ما تجمع السجناء حول هاني وكل يريد أن يأخذ نصيبه من الملح وخشي شاويش المهجع من حدوث ضوضاء قد تتطور إلى شجار فاقترح انفضاض الجمع وسيتم تقسيم كمية الملح بالتساوي ولاقى الاقتراح قبولا من الجميع ولم يجد هاني رغبة في الاحتفاظ بأي قدر منه.

مرت بضعة أيام تحسنت فيها حالة هاني واستعاد فيها صحته تدريجيا حتى عاد إلى طبيعته، غير أن تلك التجربة قد انحفرت في ذاكرته إلى الأبد، كان يفتقد في مثل هذه الظروف صديقه الصيدلي الذي كان يقف إلى جانبه ويقوي قلبه ويشجعه ويشد من أزره، أما هنا فهو الآن وحيد، ترى أين هو ذلك الصديق؟ أهو في الأحياء أم الأموات؟ هل سيكتب له أن يراه مجددا؟ هذا كله مستور وراء سجف الغيب، ولا يمكنه أن يعرف أبدا، كل ما عليه الآن أن يهتم بنفسه ليمنعها من الانهيار أو الجنون أما الموت فهو أحب غائب إليه.

Exit mobile version