ربما يكون افتراء على المجاهدين وربما لا يكون، والحكم هنا ليس للمجاهد الفرد أو الفئة المجاهدة، بمعزل عن شهداء الله في أرضه، وبلا اتباع الطرق الشرعية في إثبات أن هذا افتراء أو قول حق مثبت بالدليل.
يُكثر الناس من تناقل أحاديث الوهم التي تنظر إلى القرائن الضعيفة كأنها أدلة دامغة، وهذا يعضده زخرف القول من وسوسة شياطين الجن والإنس، لكن حتى في هذه على المجاهد والمسلم عموماً أن يجب الغيبة عن نفسه، وذلك ببيان كل صغيرة وكبيرة، وإلا لكان موضع التهمة، ولا يلومن إلا نفسه.
عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدّثته، ثم قمتُ فانقلبت، فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما-، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( على رسلكما، إنها صفية بنت حيي ) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءا -أو قال شيئا- ) “. متفق عليه، واللفظ للبخاري … هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، المبرأ المعصوم، فكيف بمن هم دونه، وهو فاق الخلق جميعاً في المنزلة والتقوى.
ثم إذا وقع المجاهد في موضع الريبة والتهمة، أو موضع الإثبات اليقيني، لم ينفعه بعدها تبرير ولا محاولة تغيير، فإن الله يغير ولا يعيير، أما الناس فإنهم يعيرون ولا يغيرون، إلا بإذن الله، وإن استطاع أحد أن يكبت الناس ظاهراً أو ينسيهم بعض ما كان ويكون، فإنهم ينطقون إذا سنحت سانحة، ويذكرون الأحداث بأمثالها.
لست أدافع عن المجاهدين هنا، لأنني وغيري ندافع في كل وقت وحين، ولا نقصر في ذلك بعون الله، لكن شرع الله أولى بنا، والحق أحق أن يقال، والمجاهد يجاهد ذبَّاً عن الدين والمسلمين، لا ليكون فوق المسؤولية والمحاسبة، وإلا لاختبأ أهل الفساد تحت عباءة الجهاد.
ثم إن المجاهد إذا ذاق بعض حلاوة التمكين، إن كانت مهددة مؤقتة أو مع ظنة الدوام، كان موضع نظر أهله، حيث سيقوم ببعض أعمال الجهاد بينهم، إن كانت أمنية أو قضائية أو احتساباً أو تنظيماً اقتصادياً أو غيرها، وبذلك تقع عيونهم على الخطأ كما تقع على الصواب، وإن ذَهِلَ الناس عن الثناء على الصواب، فإنهم لا يَذهَلون عن انتقاد الخطأ، وهنا يكون الامتحان العظيم لهذا المجاهد، أيصبر على الأولى ويعترف بالخطأ ويسعى إلى الإصلاح، أم يتخذ الجهاد ذريعة وجسراً للتعالي على النقد ورفض الاعتراف بالخطأ وتعطيل فريضة الإصلاح؟!.
إن هذا الحديث يطول، وله أصوله وتفريعاته، فأختصر بالتعجب من حال هذه الغرَّارة التي تُعرض فيها الفتن على المرء عرض الحصير عوداً عوداً، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الفتن أن يجد من عمل لله فضلاً لنفسه، فيرتفع فوق إخوانه، وينكر على من يأمر بالمعروف وينهى المنكر، ويتهم بالافتراء من يشهد بالحق، ويرى أن الصلاح يكون بتغطية الفساد وعدم الحديث عنه، لا بفضحه ثم إصلاحه، فبغير معرفة المرض لا يكون الشفاء، وليس كل ما قيل أنه افتراء افتراء، وكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
والحمد لله رب العالمين.
الأستاذ أبو يحيى الشامي