الأستاذ: حسين أبو عمر
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح): “سوء الفهم عن الله ورسوله أصلُ كلِ بدعةٍ وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصلُ كلِ خطأ في الأصول والفروع…”.
كلام ابن القيم هذا كان يحيرني كثيرا؛ كيف لعالم كابن القيم -وهو من هو في معرفة النصوص وفهمها وفي معرفة النفوس- أن يخطئ مثل هذا الخطأ! بأن يجعل سوء الفهم هو أصل ضلال الناس؟!!
ربما لفرط حسن ظنه بالمسلمين.. أو ربما أنه عندما كتب هذا الكلام، كان في حالة إيمانية تمنعه من تصور أن يقصد الإنسان الشر، أو يتبع هواه -وهذه الحال يعرفها من عاشها-.. أو ربما شيء آخر..
على كل، ليس المقصود في هذه المقالة البحث عن السبب الذي دفع ابن القيم إلى هذا القول.
أخبر الله -سبحانه- في كتابه الكريم أنه لا يضل الناس حتى يبين لهم ما يتقون؛ فإن هم اتقوه منحهم الهداية، وإن لم يتقوه منعهم إياها؛ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (التوبة: 115).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: “يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل: إنه لا يضل قوما بعد بلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة..”.
- أصل ضلال البشر:
إن النصوص من القرآن والسنة تدل على أن الهوى هو قسيم الضد للوحي، وأن اتباع الهوى وارتكاب المعاصي والذنوب هو أصل ضلال البشر عن سبيل الله وعن صراطه المستقيم.. كما أن النصوص تدل على أن تقوى الله والخوف منه، وفعل الطاعات، والتوبة من الذنوب هي أسباب الهداية والثبات عليها..
قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ (القَصَص: 50).
وقال الله عز وجل: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ (ص: 26).
وقال تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب﴾ (غافر: 28).
ففي هذه الآيات دلالة واضحة أن ترك الحق واتباع الهوى والإسراف على النفس بالمعاصي هي أسباب الضلال.
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تُعْرَضُ الفتن على القلوب؛ كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادًّا؛ كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هواه)).
وفي الحديث الآخر الذي رواه الترمذي وحسنه الألباني: ((إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ صقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلوَ قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللَّه: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾)).
ثم بعد أن يعلو هذا الران القلوب ويغطيها، تصبح هذه القلوب كالقيعان؛ لا تمسك خيرا، ولا تنبت خيرا. بل إنها تضل حتى بأسباب الهداية!! قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ (البقرة: 26).
وقال تعالى:﴿وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُون﴾ (سورة التوبة: 124، 125).
وقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: 63).
قال ابن كثير في تفسيره: “أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا أو ظاهرا (أن تصيبهم فتنة) أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة”.
فمعصية الله ورسوله، وتراكم الذنوب والمعاصي، واتباع الهوى، هي أسباب الغشاوة التي تغطي القلوب، وتجعلها سوداء لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، وهي أسباب الابتلاء بالبدع والضلالات؛ قال الشيخ عبد العزيز الطريفي -فرج الله عنه-: “وهذه قاعدة في كل الأمم والشعوب تصنع شهواتُهم مذاهبَهم الباطلة”. [الفصل بين النفس والعقل].
- أسباب الهداية:
بما أن اتباع الهوى وارتكاب الذنوب والمعاصي هي الأسباب التي توقع الإنسان في الضلال، فإن ترك الذنوب والتوبة منها، وتقوى الله واللجوء إليه، وفعل الطاعات، من أعظم أسباب الهداية، وهي التي تصقل القلوب وتزيل عنها الغشاوة؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ (النساء: 66 – 68).
وفي الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله -سبحانه وتعالى- يقول: ((وَمَا تقرَّبَ إِلَيَّ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عليْهِ، وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِليَّ بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتُه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذنه))؛ وهل يمكن أن يضل من يحبه الله؟!!
وفي الحديث القدسي الآخر، الذي رواه الإمام مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله -عز وجل- قال:((يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ..)).
فهذا الحديث يفيد أن الاعتراف بالفقر والحاجة، والانكسار بين يدي الله، وطلب الهداية منه، من أعظم أسباب حصول الهداية.
وكذلك وعد الله الكريم في كتابه الكريم من اتقاه أن يجعل له فرقانا يفرق به بين الحق والباطل؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الأنفال: 29).
قال ابن كثير في تفسيره: “قال محمد بن إسحاق: (فرقانا) أي: فصلا بين الحق والباطل”.
وقال تعالى في الآية الأخرى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69).
ومن جميل ما قيل في تفسير هذه الآية، قول أبي العباس الهمداني: “الذين يعملون بما يعلمون، يهديهم لما لا يعلمون”.
هذا طرف من الأدلة من القرآن والسنة ومن أقوال العلماء في تقرير هذه المسألة.
أما الواقع، فإن ضلال الناس بسبب اتباع الهوى أوضح من الشمس في رابعة النهار؛ يتقلبون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بحسب الهوى..! يستشهدون بنفس النص على الشيء وعلى نقيضه..! يسقطون النص على غيرهم بصفة وعلى أنفسهم بصفة أخرى..؛ دينه هواه!!
هذا فضلا عن أن الكثير منهم ليس النص مصدره أصلا!!؛ فالبعض مصدرهم في العقائد فلاسفة الإغريق وعقولهم وغيرها…
وأكثر الممارسين للسياسة مصدرهم فيها ميكافيللي وجوستاف لوبون وروبرت جرين وغيرهم من الغربيين…
والبعض مصدره في التعبد والسلوك هو الذوق والوجد…
نسأل الله الهدى والتقى والعفاف والغنى.
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد التاسع عشر جمادى الاولى 1442 للهجرة _ كانون الثاني 2021 للميلاد اضغط هنا
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد التاسع عشر اضغط هنا