أي سياسة خارجية ستتبعها تركيا في الفترة القادمة؟ – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٤٩ – ذو القعدة ١٤٤٤ هـ

الأستاذ: حسين أبو عمر

يُعتبر نموذج “مراحل التطور الاقتصادي” للاقتصادي الأمريكي والت ويتمان روستو أحد أبرز النظريات المفسرة للنمو الاقتصادي للمجتمعات. بحسب روستو يمكن أن يُنسب أي مجتمع من حيث مستوى تطوُّره الاقتصادي إلى إحدى المراحل الخمس:

• مرحلة المجتمع التقليدي.

• مرحلة التهيؤ للانطلاق.

• مرحلة الانطلاق.

• مرحلة الاتجاه نحو النُّضج.

• مرحلة الاستهلاك الوفير.

المرحلة الثالثة، مرحلة الانطلاق: بحسب روستو تبدأ بظهور قيادة تمتلك رؤية سياسية وروح المبادرة، تشكل قوة دفع سياسية واجتماعية ومؤسسية وتستطيع توظيف عوامل التوسع في بعض القطاعات الاقتصادية. تشهد الدولة في هذه المرحلة تطورا مهما في أساليب الإنتاج والنهوض بالزراعة والتجارة ووسائل النقل، كما تشهد ظهور صناعات جديدة لا سيما الثقيلة. تنزع الدولة في هذه المرحلة بحسب روستو إلى العدوان في سلوكها الخارجي.

لاقت هذه النظرية اهتماما كبيرا من الباحثين، كما وُجهت لها انتقادات عديدة.

لعلنا لو نظرنا إلى سلوك الدولة التركية خلال العقدين الماضيين، أو خلال العقد الماضي بشكل أخص، سنجد أن الكثير مما ذكر في مرحلة الانطلاق عند روستو ينطبق عليها؛ مع الإقرار والتنبيه على وجود أسباب أخرى أدت إلى هذا السلوك..

عندما وصلوا لسدة الحكم في بدايات القرن ابتدأ حكام تركيا الجدد مشوارهم باتباع سياسة خارجية متحفظة، كان شعارهم في هذه المرحلة “صفر مشاكل”، وكان تركيزهم وجهدهم منصبا على بناء اقتصاد قوي وبنية تحتية وصناعة قوية، والتركيز على القوة الناعمة في العلاقات الخارجية.

ثم مع بداية العقد الثاني من هذا القرن، وما حصل فيه من أحداث، أغرت الفرص والإمكانات / أجبرت الظروف حكام تركيا الجدد على التخلي عن سياسة “صفر مشاكل”، والانغماس تدريجيا في المشاكل، إلى أن وصلوا قبل نهاية العقد إلى مرحلة “اقتحام المشاكل” على الكثير من الجبهات.

ربما يمكن القول أن انطلاق الربيع العربي كان هو نقطة التحول في السياسة الخارجية التركية.

بالرغم من موقف حكام تركيا المتحفظ في البدايات الأولى للربيع العربي، إلا أنهم أيدوا ودعموا مطالب الشعوب في التغيير مبكرا، واستشعروا بأن التحولات التي سيشهدها العالم العربي ستصب في صالحهم، وستكون تجربتهم في تركيا هي المثل الأعلى للجماعات والأحزاب الإسلامية في العالم العربي، وفي حال وصلت هذه الجماعات للحكم في هذه البلدان سيمنحهم ذلك نفوذا كبيرا.

وإنْ كانت الفرص والإغراءات هي التي دفعت حكَّام تركيا للتخلي عن سياسة “صفر مشاكل” في البداية، إلَّا أن الذي غذَّى سياسة “اقتحام المشاكل” فيما بعد المخاوف والمخاطر التي باتت تحيط بتركيا وتهدد وحدتها من جهة، والشعور بفائض القوة الذي راكمته تركيا خلال تلك الفترة من جهة ثانية..

 

منذ منتصف العام 2016، وبعد أن شعرت تركيا بفائض في القوة انتهجت سياسة خارجية توسعية -ربما كانت مفرطة-، مدفوعة من الشعور بالتهديد ودوافع الحفاظ على الأمن القومي، أحيانا، ومن دوافع مد النفوذ وحماية المصالح، أحيانا أخرى، خاضت تركيا لما يقارب الخمس سنوات حروبا على عدة جبهات، فأصبح لتركيا قواعد عسكرية (في غرب وشمال أفريقيا، في القرن الأفريقي، في الخليج العربي، في سوريا، في العراق، في أذربيجان..)

أدخلت هذه السياسات تركيا في مشاكل مع الحكومات التي ثارت عليها الشعوب، ومع الحكومات الداعمة لعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورات، والتي دعمت الثورات المضادة، بالإضافة للعلاقات المتوترة مع خصوم تركيا التقليديين؛ فكانت النتيجة دخول تركيا في شبه عزلة إقليمية، واجتماع الكثير من خصومها ضدها، كـ “منتدى غاز شرق المتوسط” على سبيل المثال.

كانت لهذا الوضع الجديد، مع العقوبات التي فرضها ترامب على تركيا، بالإضافة لعوامل أخرى ليس هذا موضع بسطها، آثار كبيرة على الاقتصاد التركي، وعلى استقرار وقيمة الليرة التركية؛ ما أدى في النهاية إلى خسارة حزب العدالة والتنمية للبلديات الكبرى في الانتخابات البلدية في 2019.

دفعت الخسائر الاقتصادية، والعزلة الإقليمية، والأهم خسارة الانتخابات البلدية حكّام تركيا إلى إعادة التفكير في النهج الذي اعتمدوه خلال السنوات السابقة فيما يخص السياسة الخارجية، ومن ثم بدأوا في عام 2020 باتباع نهج جديد؛ خفض التوتر على معظم الجبهات، وإعادة تطبيع العلاقات مع كافة الأطراف الإقليمية؛ فطبعوا العلاقات مع الإمارات، والسعودية، ومصر، وإسرائيل، وبرلمان طبرق التابع لحفتر، وبدأوا مشروع التطبيع مع بشار..

الآن، وبعد فوزهم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، فإن الذي يترجح هو المحافظة على سياسة خارجية متحفظة، والاستمرار في تطبيع العلاقات مع الخارج بالعموم، مع التوجه لإحداث إصلاحات في الداخل..

 

أما حيال الملف السوري، فهنالك احتمالان للسياسة التي ستتبعها تركيا:

الاحتمال الأول: هو المضي في سياسة التطبيع مع النظام، وهو الأرجح، خاصة بعد عودة النظام لجامعة الدول العربية، ومن ثم العمل على إيجاد حل للاجئين السوريين في تركيا.

أما الاحتمال الثاني: فهو القيام بعمل عسكري جديد، وإقامة منطقة آمنة يمكن إعادة اللاجئين إليها..

سيناريو القيام بعمل عسكري ذكره أكثر من واحد من المقربين من حزب العدالة والتنمية؛ منهم علي باكير، الأستاذ المساعد في مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة قطر، ذكر ذلك في تغريدة له على تويتر في التاسع عشر من الشهر الجاري، أي بعد أيام من الانتخابات البرلمانية والجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، ولا بد من التنبيه هنا على أنه بنى هذا الاحتمال على نتيجة الانتخابات.

Exit mobile version