الأستاذ: حسين أبو عمر
كان من المتوقع أن يمتد الربيع العربي ليشمل المنطقة بأكملها، بل كان متوقعا أن يتحول إلى ربيع إسلامي يشمل معظم بلدان العالم الإسلامي. بل أكثر من ذلك، كان الكثير من علماء الاجتماع والسياسة في الغرب يتوقعون حصول هذه الثورات قبل انطلاقتها بعقود من الزمن؛ وذلك لتوافر كل الأسباب الموضوعية التي أدى توفر بعضها لحدوث ثورات سابقة في المنطقة أو في مناطق أخرى من العالم: من نمو ديموغرافي، وبلوغ نسبة الشباب معدلات عالية في المجتمعات الإسلامية، وارتفاع لنسب البطالة، وسوء توزيع الثروة، وتفشي الظلم، والتفرد والاستبداد، وعمالة الأنظمة للخارج، والاضطهاد الديني، وارتفاع الوعي عند الشباب المسلم، وغيرها من الأسباب…
لم تكن انطلاقة الثورات مفاجأة للأمريكيين، بل كانوا متهيئين لحدوثها جامعين صفهم وكيدهم لإفشالها، فلم يكن تعاطيهم معها ارتجاليا ولا عشوائيا، وإنما كان بشكل مدروس ومخطط له جيدا. ركبوا بعضها فاحتووها وذللوها، وأجهضوا بعضها الآخر عن طريق الثورة المضادة، فأعادوا الوضع إلى أسوأ مما كان عليه قبل الثورة في تلك البلدان.
* الثورة السورية:
عندما يستمع المرء إلى السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد ويشاهد تعابير وجهه وهو يتحدث عن انطلاقة الثورة السورية للتلفزيون الألماني في تقرير ((بشار الأسد الطاغية المفيد)) لا يرد إلى ذهنه إلا أن روبرت فورد هو من صنع الثورة السورية وهو بطلها! خاصة وهو يتحدث عما قاله للإدارة هناك في واشنطن بعد زيارته المتظاهرين في حماة بقوله: «الحطب جاهز للاشتعال».
روبرت فورد هذا نفسه، يقول عنه رئيس المجلس الوطني جورج صبرا -المسيحي- في لقاء على قناة الجزيرة: «طلبنا من السفير الأمريكي صواريخ مضادة للطائرات ﻹجبار الأسد على الحل السياسي؛ فرد: إن فعلنا سيسقط بشار في 15 يوما».
كما نقل الصحفي السوري سهيل مصطفى مجريات اجتماع حصل في تركيا من أجل دعم العمليات في دير الزور في بداية الثورة، فطرح أحد الحضور فكرة اقتحام مطار الدير؛ فكان جواب فورد: «مطار No No».
كان من الممكن الالتفاف على الثورة السورية، كما حصل في باقي بلدان الربيع العربي، لكنهم ما أرادوا أن ينهوا الثورة على تلك الطريقة، بل أرادوا أن يجعلوا من سوريا درسا لباقي شعوب المنطقة.
أما لماذا سوريا وليس غيرها؟
– فلأن المعركة في سوريا لن تكون معركة بين حكومة وشعب، بل ستحمل بعدا عقائديا؛ سيلعب هذا العامل دورا مؤثرا في ضراوة الحرب واستمرارها.
– ولأن هذا النوع من الحروب يؤدي إلى دخول لاعبين إقليميين ودوليين كثر في ساحة المعركة؛ مما يوسع من الحرب ويطيل أمدها.
– ولأن الشام لها مكانة قدسية في قلوب المسلمين؛ فهي محط آمالهم ومركز خلافتهم القادمة وسيبذلون الكثير لنصرتها، وكسرها سيعني إدخال اليأس في قلوبهم جميعا، وغيرها من الأهداف..
* أهداف أمريكا في سوريا:
يمكن أن نقسم أهداف أمريكا في سوريا على ثلاثة محاور رئيسية؛ محور يتعلق بالجغرافية السياسية، ومحور يتعلق بالديموغرافية، وثالث يتعلق بالجهاديين:
– أولا: على صعيد الجغرافية السياسية: ليست سوريا مستثناة من مخططات إعادة رسم الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تبنتها الولايات المتحدة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وبدأت بتنفيذها فيما يُعرف بمشروع “الشرق الأوسط الجديد”. عملت الولايات المتحدة على تغذية النزعة الانفصالية عند الأكراد، وقدمت لهم دعما غير محدود من أجل إقامة إقليم كردستان سورية، وما زالت مستمرة بمشروعها. وربما نشاهد مستقبلا دعما مماثلا للدروز في الجنوب.
ثانيا: على مستوى الديموغرافية: ما أكثر الدراسات الغربية التي كانت تشير إلى خطورة النمو الديموغرافي للعالم الإسلامي وما سيترتب عليه من أضرار على حكومات المنطقة وعلى أمن إسرائيل وعلى هيمنة الغرب على العالم الإسلامي؛ فكان التلاعب بالديموغرافية هو الحل في سوريا، وقد تغيرت الديموغرافية السورية عن طريق القتل والتهجير تغيرا كبيرا وبإشراف الأمم المتحدة.
ثالثا: على صعيد الجهاديين: لمكانة الشام في قلوب المسلمين، وما تحتله من رمزية تاريخية ومستقبلية، فنبوءات آخر الزمان تدور ملاحمها كلها في الشام، وما ارتكبه النصيرية من مآس بحق أهل السنة، مع ما رافق ذلك من تغطية وتحريض من قبل الإعلام ومن قبل المشايخ، مع تسهيل العبور من دول الجوار، استقطبت ثورة الشام الجهاديين من كل أصقاع الأرض، ثم كانت النتيجة أن كانت الشام ومعها العراق أكبر فخ وأكبر مقبرة للجهاديين في العصر الحديث، فبعد أن كان يُنظر إليهم على أنهم قنابل موقوتة في الغرب، تم تدمير هذه القنابل كلها في سورية والعراق بسهولة شديدة؛ كما لو كانوا ساحة تدريب!!
هنا لابد من استطراد مختصر، تصور الكثيرون أن هدف أمريكا الوحيد في سورية هو القضاء على الجهاديين؛ ولذلك راحوا يعرضون خدماتهم على أمريكا للقضاء على “الإرهابيين”، هذا التصور المنقوص لأهداف أمريكا في سورية لم تنج منه حتى دول. فقد كتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي -وقتما كان مقربا من الحكومة السعودية- مقالة تحت عنوان: ((جيش المجاهدين الذي سيقضي على «داعش»))، مما قال فيها: «هناك ألف سبب وسبب، لماذا إن سحق «داعش» سيكون أسرع على يد جيش سوري وطني، تدعمه السعودية وقوى إسلامية سنّية أخرى». لكن هذا الشيء لم يستطع الأمريكيون ولا الروس أن يفهموه، أو «لا يريدون الاعتراف به لحاجة في نفوس يعاقيبهم»؛ بتعبير خاشقجي.
هذه ليست قراءات مراقبين فقط، بل كان الواقع أصدق شاهد على ذلك؛ فأمريكا هي من تخلت عن عملائها من العرب المنتسبين لأهل السنة وضحَّت بهم (أمريكا هي من أنزلت القوات الخاصة من “جيش سورية الجديد” في مطار الحمدان في البوكمال، ثم سحبت التغطية الجوية عنهم ليلاقوا مصيرهم المعروف على يد “الدولة”، وهي من تركت “الفرقة 30” لتلاقي مصيرها على يد “جبهة النصرة”، وهي من تخلت عن “الجبهة الجنوبية” ودفعتها لمصالحة الروس…)، فأمريكا هي التي كانت تتخلى دائما عن عملائها من العرب، وليس أنها لم تجد عملاء، فما زال الكثير يعرض خدماته عليها لمواجهة “الجهاديين”.
وهنالك طرف آخر تصور أن أمريكا ستغض الطرف عنه تماما، بل ربما ستقدم له حتى الدعم الحقيقي لمواجهة “المعسكر الشرقي”!!..
ما زال يعيش في تلك الحقبة من الزمان!!
متأخر عن المتغيرات الدولية ثلاثة عقود فقط!!
في المحصلة أمريكا هي من كانت تتخلى بل وتُسلِم عملاءها من العرب السنة؛ على ما يبدو أنها لم تعد تحبذ إلا عملاء من طوائف أخرى أو من أعراق أخرى. تريد “إزاحة النفوذ السني من دول شرق المتوسط” بتعبير المسيحي اللبناني أستاذ الجيوبولتيك الدكتور نبيل خليفة، كما في كتابه “استهداف أهل السنة”.
* استراتيجية أمريكا في سورية:
أما الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها في سورية فيمكن حصرها في أربعة أجزاء رئيسية:
أولها: إدخال أطراف ثانوية و”الأقرباء الثقافيين” الحرب بغية توسيعها وإطالة أمدها، ولاحتواء بعض الجماعات التي استعصت على الاختراق المباشر عن طريق هؤلاء “الأقرباء الثقافيين”.
سمحوا ﻹيران ومليشياتها بدعم النصيرية من جهة، وبالمقابل سمحوا لتركيا، السعودية، قطر، الأردن، ودول أخرى، بتقديم الدعم المحدود لجماعات من الثوار لإبقاء الحرب تحت السيطرة؛ قال صموئيل هانتنجتون: «بينما يوسع التجمع -الأقرباء درجة ثانية وثالثة حول أقربائهم ثقافيا- من الحرب ويطيل أمدها، إلا أنه كذلك شرط ضروري وإن كان غير كاف لتحديد الحرب وإيقافها. المتجمعون من الدرجة الثانية والثالثة عادة لا يريدون أن يتحولوا إلى مقاتلين من المستوى الأول، ومن هنا يحاولون إبقاء الحرب تحت السيطرة». أصاب هانتنجتون جدا في رؤيته؛ فقد أصبح تحكم هذه الدول بأغلب الجماعات والفصائل أمرا معلنا؛ فهي تتحكم بعمليات الفصائل، وهدنها، ومفاوضاتها، ومع من تتحالف، ومع من تقاتل، بل حتى بوجهة فوهة سلاحها!
ثانيها: اختراق فصائل وإنشاء أخرى تتبع لأمريكا بشكل مباشر، تنفذ أجندات أمريكا بشكل مفضوح؛ حتى سمعنا علنا وبدون تورية عن فصائل تتبع للبنتاغون وأخرى لغرف الدعم!.
إلا أن هذا الدعم كان محدودا للغاية، لم يغير شيئا على أرض الواقع..
دعم من أجل الاحتواء والتدجين فقط..
لكن، في المقابل كان الدعم غير المحدود يتدفق لفصائل الانفصاليين الأكراد؛ لتنفيذ مشروع برنارد لويس “إعادة تقسيم المنطقة على أسس طائفية وعرقية”.
كان لهذين المحورين دور كبير في زرع الفرقة والعداوة بين الجماعات المقاتلة، وكذلك كان لهما أثر سلبي بالغ في نفوس القاعدة الشعبية للمجاهدين وعموم المسلمين؛ حتى أصبحت قناعة الحاضنة أن كل المجاهدين عملاء وعصابات مأجورة، وغدا الواقع أشبه ما يكون بما يعرف بـ”الحرب بالوكالة” و”الفوضى الخلاقة” و مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.
أما المحور الثالث من استراتيجيتهم: فهو المحافظة على توازنات عسكرية وإطالة أمد الحرب؛ لاستنزاف المسلمين بشريا وماديا إلى أقصى درجة وإيصالهم إلى الاستسلام واليأس، “لحظة النضج”: كنا قد شرحناها في مقالة العدد الماضي من مجلة بلاغ.
في دراسته المعنونة بـ ((سورية في دائرة التوازن الاستراتيجي الإقليمي والدولية)) قال الدكتور عبادة تامر عن الاستراتيجية الأمريكية في سورية: «دفع خصومها لاستنزاف قواهم في صراعات تجبر الخصوم على استهلاك مزيد من القوة فيها». وكنا قد نقلنا ما صرح به للجزيرة جورج صبرا -رئيس المجلس الوطني السوري سابقا- عما دار بينهم وسفير أميركا؛ قال: “طلبنا من السفير الأمريكي صواريخ مضادة للطائرات ﻹجبار الأسد على الحل السياسي؛ فرد: إن فعلنا سيسقط بشار في 15 يوما”. فهم لم يريدوا لبشار أن يسقط لا بخمسة عشر يوما ولا بغيرها، وفي ذات الوقت ما أرادوا إنهاء الثورة بوقت قصير.
المحور الرابع: الاعتماد على القوة الذكية والاستهدافات الجوية الدقيقة للجهاديين، والإبقاء على جنودها بعيدا عن أرض المعركة، وأماكن الخطر، فلم يتعد عدد القتلى من الجنود الأمريكيين منذ انطلاق الثورة في سوريا والعراق ثلاثين جنديا!!.
فكل ما حصل في سورية من قتل وتدمير وتهجير، ومن إطالة زمن الحرب، ومن تدخلات دولية، وتدجين للفصائل والجماعات، ومن حرف للثورة، تم برضا أمريكا. وأمريكا هي من كانت تهيئ الأجواء لتسير الأمور بهذا الشكل؛ فخيوط اللعبة وخيوط الحل بيدها. قال الدكتور عبادة تامر في دراسته: «تكمن عقدة حل الصراع في سورية بيد الولايات المتحدة». وهذا أمر يكاد يجمع عليه كل المراقبين العقلاء.
* فالحل لما نحن فيه ليس بالتهافت من أجل إرضاء أمريكا؛ فأمريكا لم يشفع لـ “الجبهة الجنوبية” تهافتها على أعتابها ولا “الفرقة 30” ولا حتى طارق الهاشمي من قبل ولا غيرهم من العرب..
ثم أليست أمريكا محتلة لجزء من أرضنا مثلها مثل روسيا؟!
– الحل بتقوى الله عز وجل، والتوكل عليه، والعمل بما يرضيه..
– الحل بترك الظلم والتوبة منه..
– الحل بالسعي الجاد في تطوير السلاح..
– الحل بالعمل على استراتيجية عسكرية صحيحة تتناسب مع الوضع القائم..
– الحل بتوسيد الأمر إلى أهله..
– الحل بالثبات وعدم الاستسلام..