جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم،
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا،
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما نقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» رواه مسلم والترمذي، كان التابعي الجليل أبو إدريس الخولاني إذا حدّث بهذا الحديث جثا على ركبته.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللّه: “هذا أشرف حديث رواه أهل الشام”.
وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “هذا الحديث شريف القدر، عظيم المنزلة”.
وقال أيضاً رحمه اللّه: “هذا الحديث قد تضمّن من قواعد الدين العظيمة في العلوم والأعمال، والأصول والفروع؛ فإن تلك الجملة الأولى وهي قوله: «حرَّمتُ الظلم على نفسي» تتضمَّن جُلَّ مسائل الصفات والقدر إذا أعطيت حقَّها من التفسير”.
وفي هذا الحديث عشرةُ نداءات من الله تبارك وتعالى يرويها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مما تعلمونه جميعاً ويعرف بالحديث القدسي، الذي يرويه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه عز وجل، فالألفاظ التي فيه نبوية، والمعاني ربانية.
أول فقرة في الحديث تضمنت تحريم الظلم على اللّه الخالق وعلى عباده المخلوقين، والظلم محالٌ في حقّ اللّه تعالى وأمرَ الخلقَ أن لا يظلم بعضهم بعضاً.
والنصوص الشرعية في الكتاب والسنّة أكثر من أن يجمعها بيان أو مقال، ولا ينس الظالمون أنّ الجزاء من جنس العمل وأنّ اللّه سيقتصُّ للمظلومين من الظلمة، والشرائع السماوية كلها أجمعت كلمتها على تحريم الظلم والإنكار على أهله.
ثم جاء النداء الثاني في الحديث: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، أي أنّ اللّه تعالى يخرج العباد من الضلال الذي معه كل أنواع الشقاء في الدارين إلى أنواع الهداية التي معها أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة، وفيه أنّ العباد كلهم ضالّون إلا من هدى اللٌه.
فمن وفقَّه الله تبارك وتعالى للهدى فلا مضل له، ولكن من خذله الله وحُرِمَ توفيق الله تبارك وتعالى للاهتداء إلى الطريق القويم، وركنه الله إلى نفسه وعقله ورأيه وتدبيره، فقد خاب وهلك.
فإذا أقبل العبد على الله وطلبه الهداية ورجاه، فإن الله تبارك وتعالى يهديه ولا يخيبه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}.
وبعد ذلك جاء في الحديث القدسي: يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم،} فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] فالناس غالباً ما يُعلّقون طلب الرزق بالأسباب، فكل الناس -حتى أكثر المسلمين- يعلقون طلب الرزق إلى الأسباب؛ وينسون خالق الأسباب، وينسون الرزاق ذا القوة المتين الذي تكَّفل فقال: }وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6].
فالله تعالى هو المطعم وهو المجير ولا يُجار عليه، وجاء عن الحسن البصري رحمه اللّه أنه قال: “إنّ اللّه وعد العباد في أكثر من تسعين موطن في القرآن أن الله سيرزقهم ويطعمهم وفي موطن واحد فقط يعدهم الشيطان بالفقر، ومع ذلك يشكون في الأكثر من تسعين موطن، ويخافون من ذلك الموطن الذي قال اللّه فيه محذراً من إبليس ووساوسه: }الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]”.
يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أُكسكم، واللباس لباسان لباس يكسو الأجساد ويغطي السوءات ولباس التقوى ذلك خير.
واللباس من أعظم نعم الله على عباده، ولا يظهر السفور والتعري وإبداء شيء من الأجساد للناظرين في جيل من الأجيال إلا ظهر في الجيل الذي يليه الزنى والفواحش والعياذ بالله، قال تعالى: }يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]”.
ثم يقول تعالى في هذا الحديث: «يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم».
وفي الحديث: «كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ»،
والحواس كلها تخطئ وكلنا يقع في الذنوب في الليل والنهار، والواجب على المسلمين التوبة والإنابة إلى اللّه تعالى.
فمن أذنب في السر فعليه التوبة سراً ومن أخطأ وأذنب في العلن فعليه التوبة في العلن، وكلما أذنبت فتب وأحدث توبة فالله هو التواب الغفور، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50].
ثم يأتي النداء الندي الإلهي المبارك: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني».
وإذا كان الإنسان لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا يستطيع أن يجلب خيرا أو يدفع شرا إلا بإذن له، فمن باب أولى أنه لا يستطيع ذلك بحق المولى تبارك وتعالى.
وبعد ذلك يأتي البيان ليؤكد لنا أنّ اللّه هو الرزاق وحده وأن خزائنه مليئة لا يزيد فيها طاعة طائع ولا تنقص بمعصية العصاة، «يَا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا».
الله جلّ جلاله خزائنه مليئة يعطي عطاء بحكمته وعدله ورحمته، وينزل رزقه على كل عباده المؤمنين والكافرين، ولا يزيد في ملكه طاعاتنا ولا ينقص من رزقه معاصينا.
قال تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء: 20]، نسأل اللّه من فضله.
وفي خاتمة الحديث قال ربنا تبارك وتعالى: «يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
فهذا هو النداء العاشر، والخاتمة المهمة التي يجب أن ينتبه لها كل المخلوقين.
«يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله» فالفضل لله، لأنه هو الذي هداه وأنعم عليه، وغفر له واجتباه، ووفقه لطريق الخير.
ثم قال: «ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلا نفسه»، لأن الحجة قد قامت عليه، ولأن الإعذار قد أتاه، والنذير قد جاءه، وأياً كان هذا النذير، فقد جاءه النذير، وقد رأى الآيات البينات وما عصى إلا على بينةٍ وعلم: «فلا يلومن إلا نفسه».
فاللوم حينئذٍ يتوجه إلى ذلك العبد وإلى نفسه الأمارة بالسوء، وليس إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس إلى المقادير، كما يفعل ذلك الكفار: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106]، فهذه العلل وهذه الأعذار لا تنفع حينها.
ولهذا قال من قال من السلف: والله لأجتهدنّ، ثم لأجتهدنّ، فإن كان الذي نرجو فالحمد لله، وإن كان غير ذلك، قلت: قد اجتهدت وقد فعلت، ولم ينفع ذلك، ولا نقول: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [فاطر:37].
وبعد ذكر هذا الحديث:
ينبغي أن نعلم أنه من الظلم بمكان تعطيل أحكام الله سبحانه في المحرر واللجوء إلى غيرها من القوانين الوضعية.
ومن الظلم أيضاً إيقاف عمليات الجهاد والقتال ضد النصيرين وأسيادهم وداعميهم.
يقول الشيخ عبد العزيز الطريفي فرج اللّه عنه: “الأمة التي توقف الجهاد أمة ميتة”.
ومن الظلم أيضاً: العبث في المال العام، وصرفه على الملهيات والمفضول عن الفاضل، وتقرر في شريعتنا أنّ الذي يسيء التصرف في ماله كالسفيه يحجر عليه، فمن باب أولى الحجر على من يعبث بأموال الأمة.
ومن الظلم أيضاً أن ننشغل بالنعمة عن المنعم.
ولازال باب التوبة والهداية والعمل الصالح مفتوحا فمن ولجه نجا ومن أعرض عنه هلك.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من أحسن في ما بقي غُفِرَ له ما مضى وما بقي، ومن أساء في ما بقي أُخِذَ بجريرة ما مضى وما بقي».
اللهم استخدمنا في سبيلك وطاعتك ومحابك ومرضاتك يا عزيز يا حكيم، اللهم ولّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارنا، وصلى اللّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.