الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فإن الصراع بين الحق والباطل، والصلاح والفساد، وأولياء الرحمن وأولياء الشيطان، صراع قديم جديد مستمر إلى قيام الساعة، ولهذا الصراع أدواره ومراحله التي يمر بها، والتي تتكرر جيلا بعد جيل، ومن تلك المراحل مرحلة التخفي من الظالم والفرار بالدين من بطش الطغاة، وهي المرحلة التي تصورها قصة أصحاب الكهف حين فروا بدينهم (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)، وهي مرحلة مر بها كثير من الأنبياء والصالحين كموسى عليه السلام (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وكمحمد صلى الله عليه وسلم (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
ولأهمية هذه المرحلة في مسيرة الدعوة فهذه بعض الآداب المتعلقة بالتخفي من الظلمة والطغاة والطواغيت مستوحاة من دلالات قصة أصحاب الكهف:
* أولا- طلب الهدى، والثبات عليه، والدعوة إليه:
قال تعالى عن أصحاب الكهف: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) فأصحاب الكهف “فتية” وفتية من جموع القلة أي أن عددهم أقل من العشرة، وهم في مقتبل عمرهم وصغر سنهم عرفوا الحق وآمنوا بالله جل وعلا وكفروا بالطاغوت فزادهم الله إيمانا على إيمانهم وصبَّرهم وثبَّتهم، وربط على قلوبهم لَمَّا واجهوا قومهم بإعلان دعوة الحق ورفضهم القاطع عبادة غير الله تعالى التي وقع فيها قومهم وأنها شطط وظلم وافتراء وكذب..
وهكذا أصحاب الدعوات أصل الخلاف بينهم وبين الطغاة هو في اتباع سبيل الله تعالى ورفض سبل الشياطين، وطاعة أمر الله ومنابذة ما يضادها من أوامر، فليس الخلاف خلاف دنيا وملك وجاه ومنافسة، بل هو خلاف جهاد في سبيل الله وكلمة حق عند سلطان جائر وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولذا حث الإسلام على نصرة دعاة الحق في وجه الطغاة، فقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» متفق عليه.
* ثانيا- العزلة عند تعذر الإصلاح:
قال تعالى عن أصحاب الكهف: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) وقال سبحانه: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) فقد آمن فتية الكهف، وانكشف بطلان دين قومهم وأنه لا يقوم على سلطان ولا حجة بل على الكذب والافتراء على الله جل وعلا، وتعرض الفتية للإيذاء، وخافوا الفتنة في دينهم، فكان الاعتزال والاختفاء هو السبيل الوحيد أمام الفتية للثبات على الصراط المستقيم.
والظاهر من القصة أنهم اختاروا العزلة في الكهف لتعذر سبل الإصلاح أمامهم وخوفا على أنفسهم من الفتنة، خلافا لغلام الأخدود الذي كان يرى أثر دعوته وازدياد إقبال الناس على الحق، فاختار مواجهة الباطل والصدع بالحق وتبليغ الرسالة، وتحمَّل في سبيل ذلك ما يستطيعه من مشاق على أمل الإصلاح، فعندما ذهب به الجنود إلى القتل أنجاه الله تعالى منهم، ومع ذلك ما ساح في الأرض بل عاد إلى قومه؛ لأنه يرى أن مهمته في الدعوة لم تنته وأن الأمل في إسلام الناس ما زال معقودا، ولما علم أن قتله أمام قومه من أسباب هدايتهم أقبل على الموت منشرحا فكان مماته لله وفي سبيل الله، وبارك الله جهده فكانت دماؤه الزكية نورا أضاء الإيمان في قلوب الجماهير الباحثة عن الحق.
ويبدو من القصة كذلك أن اعتزال فتية الكهف هو أقصى ما استطاعوه يومها، ولم تتيسر لهم العزلة بالهجرة لمجتمع جديد يعبدون الله فيه ويعملون في سبيل الله، فالهجرة إن تيسرت هي السبيل الشرعي لتحقيق المستطاع في العبادة والدعوة والجهاد بعد انتفاء مصلحة المقام في بلد ما؛ لأن سعة مجال الدعوة أكبر من ضيق الوطن، كما قال تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)، وهذا ما سلكه نبي الله إبراهيم الخليل حين بلَّغ أباه وقومه الدعوة فلما أعرضوا وتوعدوا وضعف الأمل فيهم كانت العزلة والهجرة، قال تعالى في قصة إبراهيم الخليل وأبيه آزر: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)، (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
* ثالثا- المشقة غير مطلوبة لذاتها بل يدعو المرء الله أن ييسر الأمر:
تُصور ألفاظ القرآن الكريم حال فتية الكهف فتدل بوضوح على الشدة التي أصابتهم، والتي كان التخفي سبيلا لرفعها، فلا يعرض المرء نفسه للبلاء بلا مصلحة أكبر، بل يدعو المرء الله جل وعلا أن يرفع البلاء وأن يجبر الكسر؛ لذا نلحظ في السياق: (أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ)، (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ)، ولفظ أوى وأووا يدل على لجوء ضعيف لمن أو لما يحميه ويعطف عليه، كما يُفهم مثل ذلك من آيات عديدة: (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ)، (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ).
وكذلك نلحظ دعاء فتية الكهف الضارع: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) وهو دعاء يبدأ بافتقار العبيد إلى الرب المتصرف في الكون أن يعطيهم من لدنه بلا سبب من البشر الذين آذوهم وحاربوهم، وكلمة “من لدن” تدل على العندية بلطف، (رَحْمَةً) بدل العذاب الذي توعدهم الطغاة به، وأن يهيئ أي يصلح وييسر سبحانه لهم خاصة صلاح الأمر وتمام الهداية، ومن لاحظ في الدعاء تكرر ضمير المتكلمين “نَا” أربع مرات “رَبَّنَا، آتِنَا، لَنَا، أَمْرِنَا” علم شدة تعلقهم بالله جل وعلا وشدة المحنة التي مرت بهم، لذا كان الوعد الرباني: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا)، والعجيب أن كاف الخطاب تكررت كذلك أربع مرات “لَكُمْ، رَبُّكُمْ، لَكُمْ، أَمْرِكُمْ” فالرحمة الربانية ستنتشر في مسيرهم هذا، والعناية تحفهم، واليسر والرفق مُهيأ لهم، فما أسعدهم بألطاف الله تعالى التي انتشلتهم من القوم الكافرين.
وكذلك عندما أرسلوا أحدهم ليأتي لهم بطعام طلبوا منه أن يتخير من الطعام أحسنه (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ)، قال السعدي في فوائد الآية: “ومنها: جواز أكل الطيبات والمطاعم اللذيذة، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) وخصوصا إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك، ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين القائلين بأن هؤلاء أولاد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الأطعمة التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها”.
وهكذا فإن من أخلص أمره لله تعالى تولى الله جل وعلا أمره وأحاطه بعنايته، وكانت مشاق الطريق سبيلا للألطاف والبركات والمعية الربانية، وما أجمل معية الله تعالى والألطاف في الغار يوم الهجرة: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
* رابعا- تخير مكان الاختفاء:
يبدو من سياق القصة أن تخير مكان الاختفاء من أهم المسائل التي تشغل المتخفي من طاغية محارب لأولياء الله، فالكهف محوري في قصة هؤلاء الفتية، فهم (أَصْحَابَ الْكَهْفِ)، والفتية أووا (إِلَى الْكَهْفِ) وضرب الله على آذانهم (فِي الْكَهْفِ)، ثم يلتصق الكهف بالفتية ويضاف لهم حتى كأنه ملك لهم (عَنْ كَهْفِهِمْ)، (فِي كَهْفِهِمْ)..
وصفات الكهف الذي اختاروه تحقق معنيين؛ أولهما: “الاعتزال” ببعده عن عين الطاغية وبطشه وعن أعين جنوده وكل من يمكن أن يتسبب بالأذى لهم، والمعنى الثاني: “الإيواء” بأريحيته ومناسبته للمقام فيه، خاصة وأنه ليس مجرد غار ولا مغارة في الجبل بل هو كهف أوسع من ذلك، ورغم سعة الكهف فهم (فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي في مكان من الكهف متسع يتنعمون فيه بالهواء والنسيم، وتطلع الشمس على الكهف فتصيبه بدفئها ولكنهم في جزء منه لا تباشر فيه الشمس أجسادهم (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ)، بل إن المكان ناسب كلبهم كذلك (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) فمد ذراعيه في أطراف الكهف أو على بابه.
إن تخير مكان الاختفاء الذي يحقق “العزلة والإيواء” هو من إعداد العدة في مواجهة الطغاة، وكم تسبب إهمال هذين الأمرين في إلحاق الأذى بصالحين وقعوا في فضول الخلطة بمن لا داعي للقائه فتسرب خبرهم للطاغية، أو اختاروا مكانا غير مناسب فسبب لهم أذى فوق ما بهم من أذى.
* خامسا- المروءة غطاء المتخفي:
يحتاج المتخفي لمن يلازمه في خفائه، أو من يلبي له حاجاته، أو من يكون له غطاء من أعين المتلصصين، وأكمل من يصلح لذلك هم أصحاب المروءة والشهامة، والمروءة هي استعمال ما يُجمِّل العبد ويزينه، وترك ما يدنّسه ويشينه، فأصحاب المروءة يتصفون بجميل الصفات التي يحتاجها المتخفي من الشهامة والوفاء والصدق والأمانة وحفظ السر، ويكرهون اللؤم والغدر والكذب والخيانة وإفشاء السر.
وقد كان الذي خرج لتلبية حاجات فتية الكهف واحدا منهم، أي واحدا من خيرة خلق الله يومئذ، ولم يجد فتية الكهف أوفى من الكلب يصحبهم ويحرسهم، فسار الكلب معهم ونال من البركة التي حلت عليهم وخلَّد القرآن ذكره، فكان حالهم مع كفار قومهم كما قال ابن المرزبان في كتابه تفضيل الكلاب: “ذكرتَ أعزك الله زماننا هذا وفساد مودة أهله وخسة أخلاقهم ولؤم طباعهم، وأن أبعد الناس سفرا من كان سفره في طلب أخ صالح..، وسألتني أعزك الله تعالى أن أجمع لك ما جاء في فضل الكلب على شرار الإخوان ومحمود خصاله في السر والإعلان.. واعلم أعزك الله أن الكلب لمن يقتنيه أشفق من الوالد على ولده والأخ الشقيق على أخيه، وذلك أنه يحرس ربه ويحمي حريمه شاهدا وغائبا ونائما ويقظانا، لا يقصر عن ذلك وإن جفوه ولا يخذلهم وإن خذلوه“.
ولأجل المروءة قبِل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ليلة الهجرة أن يكون الدليل الذي سار بهما كافرا ولكنه صاحب مروءة تمنعه من الغدر، وتأبى عليه أن يبيع شرفه بمال قريش التي وعدت من يدل على النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من الأبل، قالت عائشة رضي الله عنها: “اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدّيلِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، هَادِياً خِرِّيتاً، قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَهْوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا” رواه البخاري، فكانت معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بأن عبد الله بن أريقط أقسم على نصرة المظلوم والتزم بذلك مروءة سببا في اختياره ليكون دليلهم في الهجرة، قال العيني في عمدة القاري: “فيه ائتمان أهل الشرك على السِّر والمال إذا عهد منهم وفاء ومروءة كما استأمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المشرك لِما كانوا عليه من بقية دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإن كان من الأعداء، لكنه علم منه مروءة، وائتمنه من أجلها على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين اللتين دفعهما إليه ليوافيهما بهما بعد ثلاث في غار ثور”.
ومن نبيل مواقف المروءة موقف عبد الحميد الكاتب صاحب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية الذي قتله العباسيون، قال صاحب الكوكب الثاقب: “لما اشتد الطلب على مروان، وتتابعت هزائمه المشهورة، قال لعبد الحميد: إن القوم محتاجون إليك، وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حسن الظن بك، فاستأمن إليهم، وأظهر الغدر بي، فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي في حرمي، فقال عبد الحميد:
أُسِرّ وفاء وأظهر غدرة
فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره!
ثم قال: يا أمير المؤمنين! إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي، ولكني أصبر حتى يفتح الله لك أو أقتل معك. فلما قُتل مروان استخفى عبد الحميد، فغُمز عليه بالجزيرة عند ابن المقفع، وكان صديقه، وفاجأهما الطلب وهما في بيت، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل منهما: أنا، خوفا على صاحبه، إلى أن عُرف عبد الحميد، فأُخذ وسلّمه أبو العباس السفاح إلى عبد الجبار صاحب شرطته، فكان يحمي له طستا ويضعه على رأسه إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، يرحمنا الله وإياه”.
– وليعلم المتخفي أن الطاغية يبذل المال لمن يدل على الصالحين ويُرغب الناس بالجاه، ويخوفهم شديد عقابه إن هم أعانوا أولياء الله، وأول من يجيب الطاغية ويساعده هم اللئام، فليحذر المتخفي من مكرهم وإن كانت لهم به صلة عمل أو قرابة أو أسدى لهم قبل معروفا، فإن اللئيم عادة يخونه ويأكل ثمنه، قال الشاعر:
ولا استَصْحَبْتُ في دهْري لَئيماً
بَرئْتُ مِنَ اللّئيمِ إلى اللّئامِ
ولكِنّ الكِرامَ لَهُمْ صَفائي
وقد يَصْبُو الكَريمُ إلى الكِرامِ
– وليحذر المتخفي من مرقعة الأخلاق الذميمة الذين يُظهرون الصلاح ولكنهم عبيد لأهوائهم، كلما فعلوا قبيحا برَّروه وحسَّنوه وبحثوا عن مخرج له، فإن هؤلاء لا يأنفون من الغدر والخيانة وفعال اللئام، بل قد يخونونه في الباطن ويُفشون سره وهم في الظاهر أهل نخوة خاطروا بحياتهم من أجله! فلهم عند كل جريمة تأويل وتبرير.
– وكذلك فإن تجار الحروب ومرتزقة الأزمات كغير أهل المروءة من الْمُهرِّبين والمزورين ورجال العصابات الأصل فيهم أنهم ليسوا أهل ثقة، فليكن التعامل معهم عند الضرورة بحذر وحيطة وضمانات، فكم باعوا الأحرار وغرروا بالكرام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
– وليعلم كذلك أن الأصل في كثير من العامة أنهم ليسوا أهلا للتضحية والفداء من أجل الداعية، بل تغلبهم علائق الأرض من خوف أو طمع أو نأي بالنفس، فلا يكن التعامل عند الحاجة خبط عشواء، بل يُعامَل على قدر الحاجة مَن يُتخير منهم ممن يُرتجى خيره ويؤمن شره خاصة ممن تجمعهم بالمتخفي عاطفة وُد ردا لسابق معروفه أو إعجابا بثباته أو بغضا لشانئه أو حمية قبلية أو نخوة وشهامة.
* سادسا- التلطف سلاح المتخفي:
كان على فتية الكهف الحصول على ما لا بد لهم منه وهو الطعام الذي به قوام حياتهم، والظاهر من القصة أنهم لم يكن أمامهم وطن بديل ولم يبتعدوا عن بلدهم مهاجرين إلى أرض أخرى، بل كان الأمر هو اعتزالا واختباء بكهف يقرب من المدينة؛ لذا لم يتزودوا بزاد المسافر من طعام وشراب، بل تزودوا بالمال والفضة التي بها يشترون الطعام والشراب، وللمال أهميته في التخفي فهو سبب تيسير أمور عديدة تُعين على الثبات في طريق التأبي على الفتن، سواء في تأمين المخبأ أو المركب أو الزاد أو الدليل…
والظاهر كذلك أن تلك المدينة كانت كبيرة يرتادها التجار والمسافرون الغرباء فيمكن للشخص التخفي إن سار بها، ولا يُنتبه له إن احتاط؛ لذا أرسل فتية الكهف أحدهم إلى المدينة ووصيتهم له (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) أي يحذر في ذهابه وإيابه وشرائه، والتلطف والتخفي عند الخروج لمجامع الناس قد يقتضي تغيير الهيئة من لباس إلى آخر، أو تغيير معالم الوجه كتخفيف اللحية أو تلوينها أو حلق الشارب، أو تغيير اللهجة، حسب ما يناسب الواقع والبيئة التي يعيشها المظلوم المتخفي من الظالم، والحكمة وضع الشيء في موضعه وتقدير كل واقع بقدره.
ومن لطيف التخفي ما ذكره ابن مسكويه في تجارب الأمم أن إبراهيم بن عبد الله لما تخفى من أبي جعفر المنصور، وأراد صاحبه سفيان بن حيان التحيل لتهريبه عامله كأنه عبد فأتاه “وهو في غرفة عليه مدرعة صوف زي العبيد، فصاح به: قم يا فلان، فوثب كالفزع، وجعل يأمره وينهاه حتى قدم المدائن”.
وأمَرَ فتيةُ الكهف صاحبَهم الذي خرج في شؤونهم ألا يُشعِر بهم أحدا مَهْما كان، فالنكرة (أَحَدًا) في سياق النهي (وَلَا يُشْعِرَنَّ) تفيد العموم، وهذا تنبيهٌ على مزالق النفس البشرية التي قد تضعف أمام المقربين كالوالد أو الولد أو الزوجة أو الصديق فتفشي سر الثلة المؤمنة بدعوى الاطمئنان أو الإيناس أو أمن الجانب أو غير ذلك من دعاوى تنافي عملية التخفي فرارا بالدين أو الدعوة، والعادة أن السر إن خرج لغير حاجة أضر ولو كان لمقربين.
* سابعا- عاقبة تسلط الظالم على المصلحين المختفين:
عندما يبلغ الطغاة المجرمون مرحلة قهر طلائع الحق وقمع الدعوة فإنهم يكونون في سكرة القوة التي تجعلهم يرفضون من المصلحين إلا الدخول في طريقتهم أو القتل والسجن والتعذيب (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)، فالحذر من ظهور الطغاة على المصلحين هو حذر من الفتنة التي قد تودي للفتنة في الدين وخسارة الدنيا والآخرة معا، لذا فلا عجب في تلك الحالة أن يثبت خيار الأئمة على التواري والاختفاء حتى تأتيهم المنية على ذلك، كما حصل مع سفيان الثوري رحمه الله الذي توارى حتى مات، كما قال الذهبي في السير: “قال ابن المديني: أقام سفيان في اختفائه نحو سنة”.
والعادة أن الطاغية طالما كان ظاهرا فإنه لا يقبل إلا استسلام الداعية أو سجنه وقتله، فإن خف ظهور الطاغية أو ضعف حاله فإنه قد يرضخ للتفاوض وألا يتعرض لبعض أشكال الدعوة أو الجهاد، وعندها تنتهي مرحلة التخفي وتبدأ مرحلة جديدة من العزلة الآمنة أو الدعوة أو الإصلاح أو الجهاد، حسب واقع المرحلة.
وإدراك هذه الحقيقة ومعرفة طبيعة الصراع هو تربية للنفس كي تثبت إن حصلت الفتنة، فكم من أناس سلكوا سبيل الخير واعتزلوا الباطل ونجحوا في اختبار مفارقة الأهل والأوطان، ولكن عندما جاء اختبار البلاء في النفس ونهشتهم سياط التعذيب انهارت قواهم فدخلوا في طاعة الطاغية، دخلوا في طاعته حقا لا مجرد مداراة أو تقية فأصبحوا مع الأيام سوط الطاغية الذي يعذب به طلائع الحق.
هذه طبيعة الطريق بوضوح وتلك مراحل الصراع، والله جل وعلا بحكمته البالغة يُثبِّت أقواما حتى يصلوا نهاية الطريق ويروا بأعينهم هلاك الباطل كما رآه فتية الكهف، ويختار سبحانه أقواما فيكتبهم قتلى أو موتى في سبيل الله لم يبدلوا تبديلا، وهناك من تغلبه شهوة البقاء فينقلب حاله ويستجيب لداعية الفتنة، والله المستعان.
وليتذكر عبد الله المتخفي من أعداء الله قصة سعيد بن جبير رحمه الله مع الحجاج، فقد تخفى سعيد بن جبير من الحجاج ثلاث عشرة سنة، قال الذهبي في السير: “طال اختفاؤه، فإن قيام القراء على الحجاج كان في سنة اثنتين وثمانين، وما ظفروا بسعيد إلى سنة خمس وتسعين؛ السنة التي قلع الله فيها الحجاج“، فظفر به الحجاج بعد ثلاث عشرة سنة وقتله، ولم يمض إلا قليل حتى أصابت الحجاجَ دعوةُ سعيد، حيث ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان أن “الحجاج لما حضرته الوفاة كان يغوص ثم يفيق، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ وقيل: إنه في مدة مرضه كان إذا نام رأى سعيد بن جبير آخذاً بمجامع ثوبه يقول له: يا عدو الله، فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعورا، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير“.
* أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن ينصر الحق على الباطل والصدق على الكذب، وأن يبدل خوف عباده الصالحين أمنا، والحمد لله رب العالمين.
لمتابعة بيقة مقالات ⇐ مجلة بلاغ العدد 20 جمادى الآخرة 1442
تابع هنا ⇓
وتتساقط الأصنام – كلمة التحرير
الركن الدعوي
– الشيخ محمد سمير
– بَقِيَّة..
– الشيخ أبو شعيب طلحة المسير
– الشيخ أبو حمزة الكردي
صدى إدلب
إدلب في شهر جمادى الأولى 1442هـ
– أبو جلال الحموي
– أبو محمد الجنوبي
مواقيت الصلاة في إدلب لشهر جمادى الآخرة 1442هـ
كتابات فكرية
– د. أبو عبد الله الشامي
مفوضية نصر الحريري وعدالة بيدرسون التصالحية.. لحظة النضج؟
– الأستاذ حسين أبو عمر
– الأستاذ أبو يحيى الشامي
حماس وإيران؛ وجدلية العلاقة هل هي تقاطع مصالح أم تحالف أم تبعية!
– الأستاذ الزبير أبو معاذ الفلسطيني
– الأستاذ خالد شاكر
الواحة الأدبية
1 – الأستاذ غياث الحلبي