الأستاذ: أبو محمد نصر
إنّ أحلام الإنسان كثيرةٌ، وإن أجمل تلك الأحلام هو “حلم العودة”، فالمهجر والنازح والذي عاش سنواتٍ طويلةً في تلك الخيمة التي أصبحت رمزًا للشقاء والعناء لم يتوقف يومًا ما عن التفكير في هذا الحلم، بل كان ينتظر تحققه في كل لحظة، ومع أن البعض قد فقد الأمل في العودة إلى الديار، ولكن إذا أراد الله أمرًا لم يكن في هذا الكون إلا ما أراد!!
وبعد أن خرج العم أبو عبدو المعرّاوي صاحب “حلم العودة” من باب المنظمة وبيده “المئة دولار” التي تم توزيعها من قبل المنظمة بعد محاضرةٍ طويلةٍ عريضةٍ عن “طرق الادخار” ذهب إلى المخيم الذي يسكنه، وهناك كانت الخالة “أم عبدو” تنتظر قدومه، فدخل العم أبو عبدو باب الخيمة وألقى السلام على زوجته وجلس الاثنان يتجاذبان أطراف الحديث، فسألت الخالة أم عبدو زوجها عما حصل معه عند قبض المئة دولار، فأخبرها أنه رأى سعيد ابن حج حسين الفرّان، وأبو محمد العطار، وأخبرها عما جرى من حديث بينهم خلال الاستراحة، وأن حلم العودة إلى المعرة ما زال يراوده في كل وقتٍ وحينٍ، وأنه سيعود لها مشيًا على الأقدام إن تحررت، فقالت الخالة أم عبدو: يا أبو عبدو هل هناك بالعمر بقيةٌ حتى نعود للمعرة؟ فقال أبو عبدو: لا أعرف، ولكن كل الذي أعرفه أننا أصحاب الحق وأصحاب الأرض، ومهما طال الزمان فالحق يعود لأصحابه والأرض تنتظر أن يعود لها أصحابها!!
ومرت الأيام ثقيلة على أبو عبدو وأم عبدو، فبعد أن كان أبو عبدو يذهب كل صباحٍ إلى دكانه في سوق المعرة ليفتحه ويذبح الخرفان ويبيعها ثم يعود بعد ذلك إلى البيت فيجد أن أم عبدو قد جهزت له طعام العشاء، ورتبت بيتها أحسن ترتيب، وبعد أن ضحكت لهما الحياة ها هما اليوم يعيشان في خيمةٍ لا تقي من برد الشتاء ولا حر الصيف، حالهما كحال كثيرٍ من المهجرين، وفي يوم من الأيام استيقظ أبو عبدو على أخبار التحرير، وكان من أجمل تلك الأخبار خبر تحرير المعرة، فقال لأم عبدو ودمعة الفرحة لا تفارق عينيه: ألم أقلك لكِ أن الحق سيعود لأصحابه، وأن الأرض تنتظرنا، فقالت الخالة أم عبدو: الفضل لله أولًا وأخيرًا، لولا فضل الله ما تحرر شبر، الحمد لله أن المعرة تحررت، ولكن كيف حصل ذلك، فقال العم أبو عبدو: كل شيء بأمر الله فإذا قال للشيء كن فسيكون!!
وهنا اشتاقت الخالة أم عبدو لرؤية بيتها، فهي ومنذ أن خرجت منه لا تدري أما زال عامرًا، أم النظام المجرم قد دمره، فطلبت من العم أبو عبدو الذهاب إلى المعرة وجهزت حقائبها وقالت لخيمتها: لن أراكِ بعد اليوم، فقال لها: الوضع ليس مستقرًا حاليًا، فأنا سأذهب وحدي لأتفقد البيت، ثم بعد ذلك نذهب معًا ونستقر في المعرة، واتفق الطرفان على ذلك، فخرج العم أبو عبدو باتجاه المعرة، وكان قد قال سابقا: إنه سيذهب إليها مشيًا على الأقدام إن هي تحررت، ولكن مع تقدمه في العمر، لم يستطع أن يذهب إليها مشيًا، وخلال طريق ذهابه شاهد العم أبو عبدو ما فعله النظام المجرم بالقرى المحيطة بالمعرة، حيث لم يترك بابًا ولا شباكًا إلا وسرقه، ولا بيتًا إلا ودمره، ولا سقفًا إلا وقد أخذ منه أسياخ الحديد، ولما وصل إلى المعرة لم يكن في مخيلته أن يرى المعرة وهي حزينةٌ، فالبلاد تحزن عندما يسكنها غير أهلها، وعندما يحتلها المجرمون، وعندما ترى وجوهًا غير وجوه أبنائها!!
دخل العم أبو عبدو المعرة، وكأنّه يقول إن “حلم العودة” قد تحقق، وما إن رأى بيوتها الأولى حتى أصابه الحزن مما شاهد، فالبيوت انقلبت رأسًا على عقب، والدمار قد اجتاح مساحاتٍ واسعةً من المدينة، حتى أن بعض الحارات تغيرت معالمها فلم تعد تُعرف، وكان بيت العم أبو عبدو قريبًا من السوق، فمر به وقد أغلق السوق أبوابه، وبدأت الذكريات تأخذ العم أبو عبدو إلى الزمن الجميل، يوم كان هذا السوق تدب به الحياة، ولكن هو اليوم في عداد الموتى، ورأى دكانه الذي لم يبق منه إلا الحجر حزينًا يبكي على الماضي، وبعد دقائق من الأسى والحزن ذهب ليتفقد بيته ولكن يا ليته لم يذهب، فالبيت الذي كانت الخالة أم عبدو تنتظر أن تعود إليه لتجهز طعام العشاء لزوجها قد أصبح ركامًا ولم يبق فيه حجرٌ على حجر، فماذا يفعل الآن بعد أن رأى بيته المدمر، وماذا يقول للخالة أم عبدو التي تنتظر عودته بالثواني ليقص عليها أخبار المعرة وأخبار البيت؟!!
أكل الحزن قلب العم أبو عبدو مما رأى، ليس العم أبو عبدو فحسب بل غالب المهجرين أصابهم من الحزن ما أصابهم بعد أن شاهدوا بيوتهم المدمرة، فالجميع كان على أمل العودة، بل كان البعض يرى بيته في المنام وهو يخاطبه قائلًا: متى ستعود إلي، وعندما عاد وجده مدمَّرًا ولسان حاله يقول: لقد تأخرت يا صاحبي علي، فالنظام المجرم حوّل بعض المدن والبلدات والقرى لأماكن يسكنها الأشباح، وجعلها خاويةً على عروشها، ولم يعد فيها أي نوعٍ من أنواع الحياة، حتى أن حلم العودة والذي تحقق، تحول من بعد ذلك إلى “أحلام مدمَرة”، وهذه الأحلام دمرت معها مشاعر الكثير، فالكثير ظن أنه سيودع “الخيمة” ولن يسكنها بعد التحرير، ولكن بعد أن شاهد بيته المدمر لم يعد هناك رغبةٌ في كل هذه الحياة!!
عاد العم أبو عبدو إلى المخيم الذي يسكنه والحزن في عينيه، ودخل باب الخيمة وألقى على زوجته السلام، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا منها، ففهمت زوجته مقصده، وأفرغت الحقائب، وما زال العم أبو عبدو والخالة أم عبدو ينتظران في خيمتهما تحول الأحلام المدمَرة إلى أحلام عامرة.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٧١ – شوال ١٤٤٦ هـ
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٧١ – شوال ١٤٤٦ هـ
لتحميل نسختك من مجلة بلاغ اضغط هنا أو قم بزيارة قناتنا على تطبيق التليجرام بالضغط هنا