أحكام الجهاد مع الإمام الفاجر|| من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد للشيخ أبو شعيب طلحة المسير

أحكام الجهاد مع الإمام الفاجر[1]

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فإن من مسائل الجهاد المعروفة مسألة الجهاد مع الفاجر والغزو مع أئمة الجور، وأي مسألة لها مدلولها العملي المحدد الذي تنطبق عليه وتحتف بها أحوال تدخل تحتها أو لا تدخل؛ لذا كانت هذه المقالة التي تتحدث عن:

– اشتراط العدالة في الإمامة وأن الفاسق إن أصبح إماما فهذا لا يسقط وجوب الجهاد معه، فمصلحة الجهاد أعلى من مفسدة البقاء في جيش الفاجر.

– وأنه إن كان الفاجر معروفا بتضييع المسلمين والقتال معه سبب لزيادة المعاناة فالأمر يختلف.

– وأنه عند تعدد الأمراء فهل يختار المجاهد القتال مع الأمير العدل أو الفاجر.

– وأن الجهاد مع الفاجر هو فيما ثبت شرعا أنه جهاد مشروع لا في أي قتال.

– وعلى المجاهد مع الفاجر أن يتجنب الفجور وأن يأمر بالمعروف قدر المستطاع.

* ومسألة القتال مع البر والفاجر يوردها الفقهاء عادة في أبواب الجهاد، وترد كذلك في كتب العقيدة عند ذكر المسائل العملية التي يخالف فيها أهل السنة والجماعة فرق الشيعة والخوارج.

* أولا: الجهاد ماض مع الإمام الفاجر:

يشترط للولايات العامة الأتقياء العدول، قال جل وعلا في قصة إبراهيم الخليل: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، قال مجاهد في تفسير الآية: “الظالم لا يكون إماما”، وقد نقل القرطبي الإجماع على ذلك فقال في تفسيره: “لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ الْإِمَامَةُ لِفَاسِقٍ”.

فإن حصل وتولى الإمامةَ فاسقٌ سواء لفِسق مَن اختاره أو لطروء الفسق عليه بعد ذلك أو لتغلب الفاسق واستتباب الأمر له، أو لغير ذلك، فإن الجهاد في سبيل الله تعالى لا يتوقف عند ذلك ولو كان الأمير فاسقا، بل تجاهد الأمة معه -إن كان يجاهد- تحصيلا لمصلحة الجهاد في سبيل الله تعالى ودفعا لما يترتب على القعود من مفاسد أكبر، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، فطاعة أولي الأمر مشروعة طالما كانت في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وهذا يدل على استمرار الجهاد زمن ولاة الجور.

ووردت أحاديث فيها بعض ضعف تنص على ذلك مثل ما رواه أبو داود في باب الغزو مع أئمة الجور: «الجهادُ ماضٍ منذُ بعثني اللهُ إلى أن يقاتلَ آخِرُ أُمتي الدجالَ، لا يبطِلُه جَوْر جائرٍ ولا عَدل عادلٍ»، و «الجهادُ واجبٌ عليكم مع كلِّ أميرٍ، بَرّاً كان أو فاجراً».

وقد نقل الصقلي في الجامع لمسائل المدونة مذهب الصحابة في ذلك قائلا: “وقال الصحابة حين أدركوا من الظلم فكلهم قالوا: اغز معهم على حظك من الأجر، ولا تفعل ما يفعلون من فساد وخيانة وغلول”.

وفي مسائل الإمام أحمد: “سألت أبا عبد الله عن القوم يكونون بطرسوس فيقعدون ولا يغزون، ويحتجون يقولون: متى ما غزونا إنما نوفر الفيء على ولد العباس. قال أبو عبد الله: هؤلاء قوم سوء، هؤلاء القعدة، هؤلاء جهال، وإن لم يكونوا يعلمون، ولا لهم علم بالعلم، فيقال لهم: أرأيت لو كان أن طرسوس وأهل الثغور جلسوا عما جلسوا عنه هؤلاء، أليس كان قد ذهب الإسلام؟ هؤلاء قوم سوء”.

وقال البربهاري في شرح السنة: “والجهاد مع كل خليفة”، وقال الطحاوي في عقيدته: “والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما”.

وقال ابن حزم في المحلى: “لَا إثْمَ بَعْدَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ نَهَى عَنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَأَمَرَ بِإِسْلَامِ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ فِسْقِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ لَا يُحَاسَبُ غَيْرُهُ بِفِسْقِهِ”.

* ثانيا: إن لم تتحقق مصلحة الجهاد بالجهاد مع الفاجر اختلف الحكم:

الجهاد شرع لتحقيق غايات عظيمة من حفظ دين المسلمين وأنفسهم وأعراضهم وأرضهم وكذا قتال الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن تعدى جور الإمام الفاجر نفسه إلى غيره حتى اختلت موازين الأمور ولم يعد القتال معه إلا محققا لنقيض مقصود الجهاد من ازدياد تسلط الكفار على المسلمين وتضييع جيش المجاهدين؛ فلا عدوا صد ولا مجاهدا حفظ، فهذا ليس جهادا؛ فلا يقاتل مع الإمام الفاجر حينها، ويُنظر لما يحقق مصلحة الإسلام من جهاد بغير طريقه هذا الفاجر، قال الشاطبي في الموافقات: “لَوْ قَدَّرْنَا تَقْدِيرًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ التَّكْمِيلِيَّةَ تَحْصُلُ مَعَ فَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ الْأَصْلِية، لَكَانَ حُصُولُ الْأَصْلِيَّةِ أَوْلَى” فمصلحة القتال مع الفاجر تتعارض هنا مع مصلحة حفظ بيضة المسلمين، فلا التفات لمصلحة القتال مع الفاجر.

وقد نص الأئمة على أن الجهاد مع الفاجر مشروط بعدم تضييعه المسلمين، قال ابن قدامة في المغني: “قال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين..، ولا يستصحب الامير معه مخذلا.. ولا مرجفا..، وإن كان الأمير أحد هؤلاء لم يستحب الخروج معه؛ لأنه إذا مُنع خروجه تبعا فمتبوعا أولى، ولأنه لا تؤمن المضرة على من صحبه”، وقال البهوتي في كشاف القناع: “وَلَا يَكُونُ الْأَمِيرُ مَخْذُولًا وَلَا مُرْجِفًا وَلَا مَعْرُوفًا بِالْهَزِيمَةِ وَتَضْيِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَمِ الْمَقْصُودِ مِنْ حِفْظِهِ الْمُسْلِمِينَ”.

وذكر بعض العلماء أنه لا يجاهد مع الإمام الغادر فشؤم الغدر عظيم قد يذهب بمصلحة الجهاد، قال القرطبي في المفهم: “«ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة».. لما في غدر الأئمة من المفسدة، فإنهم إذا غدروا، وعُلم ذلك منهم، لم يأمنهم العدو على عهدٍ ولا صلح، فتشتد شوكته، ويعظم ضرره، ويكون ذلك منفرًا من الدخول في الدين، وموجبًا لذم أئمة المسلمين. وقد مال أكثر العلماء إلى أنه لا يقاتل مع الأمير الغادر بخلاف الخائن والفاسق، وذهب بعضهم إلى الجهاد معه. والقولان في مذهبنا”.

وهذا ابن تيمية يمدح من امتنع عن جهاد الدفع ضد التتار في جيش أهل الشام لَمَّا رأى أن الأسباب توجب الهزيمة وخسارة الدنيا والآخرة وعدم حصول نصرة المستضعفين به، لوجود من يستغيث بغير الله في جيش أهل الشام، فقال في كتاب الاستغاثة: “هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله عز وجل في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولِما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة في القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا، وإن كان كثيراً من المقاتلين الذين اعتقدوا هذا قتالاً شرعياً أُجِروا على نياتهم”.

* ثالثا: فإن كان المجاهد مخيرا بين إمام عدل وآخر فاجر فالعمل بالأصل قدر الإمكان:

قد يحصل أن جيوش المسلمين تتوزع بين عدد من القادة ويخير الناس بينهم، أو قد لا يكون هناك إمام عام وإنما جيوش أو فصائل متعددة يسد كل منها ثغرا، فالأصل هو الجهاد مع العدل قال تعالى: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾، إلا إن كانت هناك مصلحة راجحة في الجهاد مع الفاجر فتقدم تلك المصلحة الراجحة، قال ابن تيمية في السياسة الشرعية: “إِذَا تَعَيَّنَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ أَمَانَةً وَالْآخَرُ أَعْظَمُ قُوَّةً: قُدِّمَ أَنْفَعُهُمَا لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ وَأَقَلُّهُمَا ضرراً فيها؛ فيقدم في إمارة الحروب الرَّجُلُ الْقَوِيُّ الشُّجَاعُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فُجُورٌ عَلَى الرَّجُلِ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا؛ كَمَا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلَيْنِ يَكُونَانِ أَمِيرَيْنِ فِي الْغَزْوِ، وَأَحَدُهُمَا قَوِيٌّ فَاجِرٌ وَالْآخَرُ صالح ضعيف، مع أيهما يُغزى؛ فَقَالَ: أَمَّا الْفَاجِرُ الْقَوِيُّ فَقُوَّتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا الصَّالِحُ الضَّعِيفُ فَصَلَاحُهُ لِنَفْسِهِ وَضَعْفُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيُغْزى مَعَ الْقَوِيِّ الْفَاجِرِ”.

* رابعا: الجهاد مع الفاجر يكون فيما ثبت شرعا أنه جهاد مشروع لا في أي قتال:

المقصود من الجهاد مع الأمير الفاجر الذي تجب طاعته هو الجهاد الشرعي الذي أمر به الله تبارك وتعالى؛ كجهاد اليهود والنصارى والمرتدين وما شابه ذلك، أما إذا تحول السلاح لقتال على ملك وفتن على دنيا وتسلط على المسلمين؛ فليس هذا جهادا، ولا يقاتل مع الفاجر في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا؛ قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» رواه مسلم.

وفي الحديث الذي رواه ابن حبان: «ليأتيَنَّ عليكم أُمراءُ يُقَرِّبون شِرارَ الناس، ويؤخَّرُونَ الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك مِنكم فلا يكونَنَّ عريفاً ولا شرَطِيَّاً ولا جابياً ولا خازناً».

وفي مثل ذلك نقل الصقلي في الجامع لمسائل المدونة عن مالك قوله: “دعه وما يراد منه؛ ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما”.

* خامسا: إن جاهد مع الفاجر تجنب فجره ونصحه:

الجهاد المشروع مع الفاجر ليس موالاة تامة له بل هو طاعة لله جل وعلا العليم بمصلحة عباده، وهذا لا ينافي أن على المجاهد أن يَحْذر على دينه من أن تصيبه فتنة بسبب هذا الفاجر أو أن يتلوث بطريقته أو أن يرضى بفجره أو أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب استطاعته الشرعية، قال جل وعلا: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ».

قال ابن تيمية في السياسة الشرعية بعد أن ذكر ما قد يطرأ على الولايات من نقص: “يجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها”.

 

* أسأل الله أن يولي على المسلمين خيارهم وأن يكف شر شرارهم، والحمد لله رب العالمين.

 

([1]) كتبت سنة 1439هـ.

كتبها

أبو شعيب طلحة محمد المسير

لتحميل نسخة كاملة من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد  bdf اضغط هنا 

للقرأة من الموقع تابع

مائة مقالة في الحركة والجهاد الشيخ أبو شعيب طلحة المسير

Exit mobile version