الأستاذ: أبو يحيى الشامي
ألم تتفكّر في الغاية التي خلقك الله لها وهل حققتها أو شيئاً منها في نفسك؟، وهل تعدى هذا السعي نفسك إلى أمتك والناس أجمعين؟، في أي مقامٍ أنت وفي أي مكانةٍ؟، وهل اختصَّك الله من بين خلقه بكرامةٍ؟، وهل تُبصر الاتجاه وتحكم عليه بالظن أم بعلامات الطريق وشهادة العدول الصّالحين؟.
لم يكن يوسفُ عليه السلام يعلم تأويل الرؤى عندما رأى الرؤيا وقصّها على والده يعقوبَ عليه السلام، تلك الرؤيا كانت البشرى بالكرامة والمكانة والرسالة وعلم تأويل الرؤى، قال له والده يعقوبُ عليه السلام قولاً خلّده الله في القرآن الكريم: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف : 6].
يعلم الله بعلمه ويقدِّر بحكمته أن فلاناً من الناس يصلُح لهذه الكرامة فيجتبيه (يختاره – يصطفيه – يتخذه) ليقوم في مَقامٍ يناسب مكانته ويرتقي بها، وإن لهذا الاصطفاء أسباباً منها جليٌّ ومنها خفيٌّ، لا يُسأل الله عنها: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء : 23]، ولا يعترض على تفاوت هذه المقامات وحصريَّة الاصطفاء إلا جاحد معاند، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام : 124]، وقال تعالى: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحج : 75-76].
وإن هذه الكرامة لا تنحصر في الرسالة التي توحى من السماء في حينها، فمن البشر من كان رسولاً ومنهم من كان نبياً ومنهم من كان داعياً إلى الله بما أوحى إلى غيره، وهذا يعمُّ المصلحين جميعاً، فمهمة الرسل والأنبياء هي الإصلاح أساساً ويتبعهم فيها غيرهم بإذن الله، قال شعيب عليه السلام وخلَّد الله قوله في القرآن الكريم: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود : 88].
وإن سائر الأقوال والأفعال التي تفضي إلى الصلاح أو تهدف إليه وفق ضوابط الشرع تعد من الإصلاح، فالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة إصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان والدعاء حسب الاستطاعة إصلاح، والجهاد في سبيل الله لطلب الكافرين الذين يصدُّون عن سبيل الله إصلاح، والجهاد لحفظ الإسلام والدفاع عن المسلمين إصلاح، ومواجهة أهل البدعة والظلم ونهيهم وحجزهم عن بدعتهم أو ظلمهم إصلاح، وشهادة الحق في صلاحٍ ليُثَبَّت أو فسادٍ ليُزال إصلاح، وإن أفضل عملٍ بعد الإيمان هو الإصلاح، وإن الإيمان بذاته أساس الصلاح والإصلاح.
ولئن كان الاجتباء من الله بمشيئته وحده ولِمَا يعلم وهو علّام الغيوب، إلا أن التّفكُّرَ فيه ومعرفة علاماته وأسبابه واجبةٌ على المسلم حتى يسعى في تحصيله، فهو منحةٌ دافعةٌ إلى النّجاح في الامتحان الأعظم، وإلى الفوز برضا الله وجنَّته، وهو ابتلاءٌ يشتدُّ ويعظم مع عظم المكانة والاستطاعة التي منحها الله لأهلها، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: “الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثل، يُبتلَى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابةٌ زِيدَ صلابةً، وإن كان في دينه رقَّةٌ خُفِّف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما له خطيئة”. رواه أحمد والترمذي والدارمي وصححه الألباني.
إن الآيات التي تذكر اصطفاء الله للمرسلين كثيرةٌ منها ما حددتهم بالاسم، وحددت درجة الاصطفاء ومكانة المصطفى، ولقد توفي المرسلون الذين اختصهم الله بالوحي المباشر من السماء وانقطع الوحي، وبقي المرسلون الذين لم يوح إليهم، لكنهم كُلِّفوا بالرسالة الخاتمة الجامعة، فهم يتعاقبون على حملها عالماً عن عالمٍ، وطالباً عن طالبٍ وكابراً عن كابرٍ، يثبت من ثبته الله وتزِل أقدامٌ ويبتعد أقوامٌ، نسأل الله العفو والعافية ودوام الاستعمال.
إن من الاجتباء أن يكون المرء مؤمناً في دنيا أكثر أهلها كافرون، ومن الاجتباء أن يكون من أهل الطَّاعة إذ كثر العصاة، ومن الاجتباء أن يكون من أهل الصَّلاح العامِّ النَّافع إن قصَّر واقتَصرَ غيره، ومن أفصل الاجتباء وأعظمه أجراً أن يحمل المرء لواء الإصلاح في لجة فسادٍ يزداد مع اقتراب الساعة وتقدم الزمان، إنها مكانةٌ عظيمةٌ لا ينالها كائنٌ من كان، ولقد بحثت كثيراً في سببها الأساس، فوجدت أنه ليس ظاهراً، وإن كانت بعض علاماته ظاهرة.
هذا المقام العظيم لا يناله المرء بالأعمال العادية وإن كثرت، بل لا بد له من عمل عظيم تزداد كرامة ومكانة وتوفيق صاحبه كلما ازداد، في علاقة ارتباط مطردةٍ، وإن كان القياس على المرسلين الذين أوحى الله إليهم فيه فارق، لأن منهم من أُعلِن اختياره قبل أن يولد كيحيى وعيسى عليهما السلام، ومنهم من كان من سلالةٍ أنبياءٍ كيوسف عليه السلام، ومنهم من اختاره الله ليكون مع غيره وزيراً كهارون عليه السلام، وهم عموماً صفوة الخلق وأصحاب العصمة، إلا أن القياس على البشر غير الموحى إليهم ممكن، وهنا يكون الاجتباء للعلة التي ندندنُ حولها ونبحث عنها، فما هي؟
قال ابن رجب في اللطائف: قال بكرٌ المُزني: “ما سبقهم أبو بكرٍ بكثرة صيامٍ، ولا صلاةٍ، ولكن بشيءٍ وقر في صدره”، وهذا إنما هو الإيمان الذي مقتضاه حبُّ وتعظيم الخالق، وحبُّ ونصيحة الخلق، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أثر موقوف بسند صحيح: “لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم”. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وأخرجه الترمذي في نوادر الأصول، وإسحاق بن راهويه في مسنده، والإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة.
فمع أن الرجل الذي اختصه الله بمرتبة ثاني اثنين في الإسلام ثم في الهجرة ثم في الخلافة لم يكن راهباً منقطعاً للعبادة، ولا مقاتلاً لا يترك ساح النِّزال، ولا صائماً لا يفطر، ولا قائماً لا ينام، لكنه كان ثابت اليقين شديد العزم سريع المبادرة إلى الخير، وعلى ذلك أدلةٌ صحيحةٌ من الكتابِ والسنةِ، نال بسببها درجة الصِّديق، وكرامة وأجر حفظ الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فيا لها من كرامةٍ ويا له من أجرٍ.
وإن تلك الأعمال الصالحة اللازمة للمرء ولا تتعداه إلى غيره، والتي يغترُّ بها الناس فيظنون في المُقتصِد فيها الشَّرَّ وفي المُكثِر منها الخير، مثل الذكر الظاهر والصيام والقيام ولزوم المساجد فيما يبدو للناس، قد تكون قرائن يستدل بها لكنها ليست أدلة ولا علامات واضحة، فإنما تأتي الفتن والمحن لتُظهر معادن الرجال، ويأتي الابتلاء بالشَّرِّ والخيرِ ليكشف الثابت من المتزلزل، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء : 35].
وتنفع الأعمال الصالحة اللازمة إن صلحت النِّيَّة في تثبيت المُجتَبى على الطريق الذي اختاره الله له واختصه بكرامة السير عليه، فلا ثبات ولا نجاح إلا بالتوكل على الله وطلب العون منه جلَّ وعلا، وهي في الأصل توجيهاتٌ ربَّانيَّةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر : 97 – 98].
بهذا الاجتباء وبالعبادة المأمور بها لاستحقاقه والحفاظ عليه والنجاح فيه، يكون انشراح الصدر، وتُدَّخر ذخيرةُ المعركة مع الباطل وأهله، وتجتمع قوة الحقِّ في الفرد والثُّلَّةِ المؤمنة الصالحة المصلحة المجاهدة، وإن قلت هذه الأعمال ولم تظهر للخلق، وبهذا يختلفون عمن انشغل بالدنيا، أو بمظاهر العبادة عن حقيقتها، أو بفتنة الانكفاء على الذات وترك واجبات الاستخلاف في الأرض ودعوة الحق وسبيل الإصلاح، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرةٍ من بِرٍّ مع تقوى ويقينٍ أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين”. أخرجه أحمد في الزهد (ص171)، وأبو نعيم في الحلية (1 /211).
فهل نظرت فيم أنت؟، وهل علمت ما هي أعظم وأرجى الأعمال قربى إلى الله وأجراً عنده؟، وما دلائل طريقك وما شهادات أهل الصدق فيه وفي خطاك عليه؟، إن معرفةَ هذا ثم التَّلذُّذَ به بغير غشٍّ للنفس ولا اغترارٍ، إنها لَمَهَمَّةٌ صعبةٌ عسيرةٌ، عليك أن تبقى فيها بين الخوف والرّجاء، فكيف بمعرفة المقام والدرجة عند الله وإدراك القبول إن لم تعرف حتى نيتك وصلاح عملك؟، هناك علامات وبشارات إلهية على الطريق تثبت القلب وتزيل التَّعبَ وتجدِّد الهِمَّة وتكشف المَهمَّة التي أقامك الله بها وفيها.
أيها المجتبى لكرامة الاستعمال الإلهي سل الله دوامه، واصبر على الابتلاء فهو اختبارٌ وعلامةٌ، واستعذ بالله من الافتتان والاستبدال، و(إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك، فانظر فيمَ أقامك).
لتحميل نسختك من العدد 30 من مجلة بلاغ اضغط هنا
لقراءة باقي المقالات اضغط هنا