الأستاذ: حسين أبو عمر
«نحن أمام خيارين، إما أن نغير الطريقة التي نعيش بها، أو أن نغير الطريقة التي يعيش هؤلاء الآخرون بها، ونحن اخترنا الطريقة الثانية»
رامسفيلد – أكتوبر 2001 – قُبيل غزو أفغانستان
«قرار الانسحاب لا يتعلق فقط بأفغانستان، بل بإنهاء حقبة من العمليات العسكرية لإعادة تشكيل بلدان أخرى»
بايدن – أغسطس 2021 – بُعيد الانسحاب من أفغانستان
في بداية هذه الألفية، أطلقت الولايات المتحدة حربا كونية بغرض “فرض مبادئها” على العالم تحت ذريعة أن “مبادئها كونية”، وأن العالم يجب أن يتبع هذه المبادئ كما في كلام رامسفيلد في الأعلى..
في الحقيقة، لم يكن الدافع الأساسي لتلك الحروب هو نشر المبادئ الأمريكية، بل هو بسط النفوذ على مصادر وطرق الطاقة.. ضمان هيمنة أمريكا على العالم، وليس شيئا آخر.
في كتابه ((مأساة سياسة القوى العظمى)) يقول عالم السياسة الأمريكي جون ميرشايمر: «يُصاغ خطاب السياسة الخارجية في الولايات المتحدة عادة بلغة الليبرالية. ومن هنا تنبع هيمنة التفاؤل والنزعة الأخلاقية على تصريحات النخب السياسية. ويتميز الأكاديميون الأمريكيون بمهارة خاصة في ترويج الفكر الليبرالي في سوق الأفكار. لكن خلف الأبواب المغلقة تتحدث النخب التي تضع سياسة الأمن القومي بلغة القوة وليس لغة المبادئ».
لم تكد تمضي بضع سنوات على غزو أمريكا لأفغانستان حتى بدأت علامات العطب جراء هذا السلوك الإمبراطوري الإمبريالي تطفو على السطح، وبدأت معها الصيحات من مفكرين أمريكيين كبار تعلو، محذرة من خطورة الوقوع في مستنقعات حروب مكلفة لا نهاية لها؛ تستنزف مقدرات أمريكا وتحط من مكانتها العالمية، ويدعو أصحاب هذه الصيحات إلى ضرورة الإسراع في إيقاف هذا النوع من الحروب.
* صيحات مفكرين أمريكيين لتلافي الوضع:
كان من أبرز هذه الشخصيات التي حذرت مبكرا من خطورة هذه السلوك، باري بوزين، أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج دراسات الأمن في “معهد ماساشوستس للتكنولوجيا MIT -” الجامعة الحائزة على لقب أفضل جامعة في العالم لهذا العام، له عدة كتابات يشير فيها إلى خطورة السلوك الإمبراطوري الذي انتهجته الولايات المتحدة، ويدعو فيها صُناع القرار في الولايات المتحدة إلى الكف عن ذلك. من ضمنها مقالة تحت عنوان ((السياسة الخارجية بعد جورج بوش: أسباب تدعو إلى فرض قيود)) نشرتها مجلة “أمريكان انترست” في نوفمبر 2007، ودراسة بعنوان ((انسحبوا – الدفاع عن قضية سياسة خارجية أمريكية أقل نشاطاً)) نشرتها دورية “فورين أفيرز” في بداية 2013..
ومن الشخصيات البارزة كذلك، عالم السياسة الأمريكي، أستاذ العلاقات الدولية، رئيس “معهد كوينسي لفن الحكم” المسؤول، الضابط المتقاعد أندرو باسيفتش. ففي عام 2008 قام بنشر كتابه ((حدود القوة.. نهاية الاستثنائية الأمريكية))، وقد نشر “مركز الجزيرة للدراسات” مناقشة صفوت الزيات للكتاب، يقول: «وقد قادت تلك الأزمات أمريكا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين إلى حرب كونية افتقدت فيها وضوح الرؤية وأهدرت فيها -وما زالت- مصادر الثروة والقوة معا، وكشفت عن تواضع وحدود القوة الأمريكية في إعادة تشكيل العالم وإجباره على التوافق مع نمط الحياة الأمريكية. ويرى باسيفتش في هذا الأمر دعوة للأمريكيين إلى تفحص هذا النمط والعمل على تغييره قبل أن يصل التلف فيه وبسببه إلى تخوم اللا إصلاح».
وقال أيضا: «السؤال الأكبر حول جدوى الاستمرار في هذه الحروب على ضوء نتائج تكلفتها المريرة في العراق وأفغانستان. فلماذا إذاً لا نسعى لتغيير سياستنا لتكون أكثر واقعية وقابلية للتحمل بدلاً من الاعتماد على قوة عسكرية تأكدت محدودية فعاليتها؟!».
وكذلك فعل مستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي، في كتابه ((رؤية استراتيجية.. أمريكا وأزمة السلطة العالمية)) انتقد حروب أمريكا الإمبريالية الطويلة، ودعاها للكف عن لعب دور شرطي العالم، ومما قاله: «روما المتوسعة أكثر مما ينبغي ما لبثت أن أوشكت على الإفلاس في منتصف القرن الخامس». كما وصف بريجنسكي التورط الأمريكي في أفغانستان بأنه مضعف لقوة أمريكا ومكانتها العالمية من جهة ومفيد للقوى الآسيوية الناهضة المنافسة لأمريكا من جهة أخرى؛ يقول: «إلا أن كبار استراتيجيي هذه القوى (الصين – روسيا – الهند) يبقون في الوقت نفسه منتبهين، من دون أدنى شك، إلى أن تورط أمريكا المستمر في المنطقة دائبٌ على إضعاف مكانتها العالمية حتى وهي عاكفة على تبديد أخطار محتملة مهددة لأمن بلدانهم».
كذلك توجد شخصيات أخرى كثيرة، لها مكانتها العلمية، تشاطر هؤلاء المفكرين الرأي، لدرجة أن قال بروفيسور جون ميرشايمر: إن كل أقطاب المدرسة الواقعية كانوا يعارضون حرب العراق.
هذه الآراء ولدت جدلا ساخنا وطويلا داخل الولايات المتحدة حول الوسيلة الأنجع للحفاظ على مكانة أمريكا العالمية. في مقالة ((أمريكا والعالم.. عُزلة وانحسار أم إعادة تموضع؟)) للكاتب اللبناني سعيد محيو، التي نشرها عام 2013 بعد نشر باري بوزين لدراسة ((انسحبوا – الدفاع عن قضية سياسة خارجية أمريكية أقل نشاطاً)) يقول محيو: «الجدل المحتدم لا يزال ساخناً في الولايات المتحدة منذ سنتين حول الوسيلة الأنجع للحفاظ على الزعامة العالمية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، وهو جدل يدور بين معسكريْن رئيسيين اثنين: الأول، يدعو إلى تقليص الالتزامات الأمنية – العسكرية الأمريكية في العالم إلى حد كبير، والتركيز بدلاً من ذلك على “بناء الأمة” في الداخل الأمريكي وعلى تطوير الاقتصاد والبنى التحتية والتعليم والصحة وسد الفجوة الهائلة التي تزداد اتساعا بين الفقراء والأغنياء في الولايات المتحدة.
والثاني، يطالب بإبقاء الاستراتيجية الكبرى الراهنة القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الحفاظ على النظام الليبرالي الدولي الراهن بقوة السلاح الأمريكي».
* لصالح أي المعسكرين حُسم الجدل؟
الجدل المحتدم الذي ذكره محيو في مقالته كان قد حُسم لصالح معسكر “إعادة التموضع” على أرض الواقع، وكما أثبتت العديد من الوثائق والكتب واللقاءات. منها الوثيقة التي أصدرتها وزارة الدفاع الأميركية في يناير / كانون الثاني 2012 بعنوان: ((الحفاظ على استمرارية القيادة العالمية للولايات المتحدة: أولويات الدفاع في القرن الحادي والعشرين)). ومنها ما ذكره غير واحد من المحللين المطلعين من الأمريكيين؛ في لقاء مع برنامج “حديث خاص” على تلفزيون العربي في 8 / 10 / 2016، قُبيل انتخابات الرئاسة الأمريكية التي فاز فيها ترامب، قال بروفيسور جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية، مبدع مصطلحي “القوة الناعمة” و “القوة الذكية”، ومساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة بل كلينتون: «إن الولايات المتحدة تمر بمرحلة تسعى من خلالها إلى التقليل من تدخلاتها في النزاعات الخارجية… هذا الموقف لا يتعلق بالضرورة بحزب أو آخر».
والواقع أثبت ما قاله جوزيف ناي، فترامب هو من وقع اتفاقية الخروج من أفغانستان مع “طالبان”، وبايدن نفذها؛ فقرار الانسحاب من بعض المناطق والتقليل من التدخلات الخارجية هو قرار متفق عليه في مؤسسات الحكم في أمريكا، بينما نجد أن بايدن ألغى كثيرا من القرارات التي كان قد اتخذها ترامب في مواضيع أخرى: رفع التصنيف عن جماعة الحوثي، ورفع العقوبات عن مشروع “نورد ستريم 2″….
* هل هُزمت أمريكا في أفغانستان؟
في 23 / 8 / 2021 أجرت “الجزيرة . نت” لقاء مع المفكر الأمريكي الشهير ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، قال فيه: «المستنقع الأفغاني كلف الولايات المتحدة أكثر من 6 آلاف جندي قتيل، فضلا عن المصابين، وأكثر من تريليوني دولار، وتشتيت انتباه القادة الأميركيين عن قضايا أهم. وقد كان للحرب في أفغانستان (والحرب في العراق) فائدة كبيرة للصين».
أما أندرو باسيفتش، الذي كان قد دق جرس الإنذار مبكرا، فقد صرح قبل أيام بأن عصر الهيمنة الأمريكية قد ولى بلا رجعة، في مقالة تحت عنوان ((عصر الامتياز الأمريكي انتهى)) نشرتها “الواشنطن بوست”، قال فيه: «الحرب الأميركية في أفغانستان انتهت بإذلال مرير، ولكنها ينبغي أن تكون أيضا بمثابة جرس إنذار بأن عصر الامتياز الأميركي ذهب بلا رجعة».
أما من أوروبا -حلفاء الناتو- فكانت ردود الفعل أكثر صراحة، فقد تصدرت كلمات (فشل الغرب، إذلال الغرب، إهانة الغرب…) الصحف والندوات التلفزيونية في دول أوروبا الكبرى..، بل أبعد من ذلك، فقد اعتبر آرمين لاشيت، رئيس وزراء ولاية شمال الراين ويستفاليا ورئيس الحزب المسيحي الديمقراطي المنتمية إليه المستشارة ميركل، ومرشح الحزب لمنصب مستشار ألمانيا في الانتخابات القادمة: أن ما حدث في أفغانستان أكبر كارثة يتعرض لها الناتو منذ تأسيسه.
* الاستراتيجية الأمريكية الجديدة:
في أول خطاب له عقب بدء الانسحاب الأميركي من أفغانستان قال وزير الدفاع الأميركي الحالي لويد أوستن: «الحروب التقليدية استنزفت وزارة الدفاع وقد ولى عهدها».
وقال: «الطريقة التي سنقاتل بها في الحرب الرئيسية المقبلة ستبدو مختلفة تماما عن الطريقة التي قاتلنا بها في الحروب السابقة».
لن تنسحب أمريكا انسحابا كاملا من العالم الإسلامي بشكل عام، ومن الشرق الأوسط على وجه الخصوص. ويكاد يُجمع المحللون على أن أمريكا لن تتوقف عن خوض الحروب مطلقا، ولكن الذي يجري هو تغيير طريقة خوض الحروب، ستكون الاستراتيجية الجديدة مرتكزة على: توجيه الضربات الجوية النوعية، والعمليات الخاصة التي تستهدف الخصوم من دون التورط في إبقاء جنود على الأرض، وجعل الحلفاء يدافعون عن أنفسهم، والاعتماد على قوى إقليمية.. لكن، هنالك واقع جديد يمكن الاستثمار فيه.
* الواقع الجديد والفرصة السانحة:
بعد الهزيمة التي مُنيت بها أمريكا وحلفاؤها في أفغانستان فلا شك أن:
– صورة الغرب الذي لا يُقهر قد أزيلت من عقول كثير من الناس.
– وأن اليأس الذي كان متمكنا من نفوس كثيرة قد انقشع عنها.
– وأن المعنويات قد ارتفعت.
– والثقة بنصر الله لمن أخذ بأسبابه قد زادت.
– بالإضافة إلى تهلهل تماسك المعسكر الأمريكي.
– وفقدان كثير من حلفائه الثقة به.
– وأخيرا صعود الصين وما تشكله من خطر على نفوذ أمريكا وهيمنتها على العالم، واستدارة أمريكا نحوها والدخول في حرب باردة معها.
كل هذه العوامل توفر فرصة تاريخية كبيرة لإمكانية التحرر والخروج من نفق الهيمنة الغربية على بلدان المسلمين عامة، وعلى الدول الإسلامية في أفريقيا بشكل خاص..
هذا، مع فشل جماعات العمل السياسي بعد استعمال السلطات لها في بعض بلدان الربيع العربي لقطع الطريق على الثوار، وإيقاف هذه الثورات في منتصف الطريق، ثم الانقلاب على هذه الجماعات مرة أخرى، وإخراجها خارج السلطة؛ كما هو الحال دائما، وانسداد الأفق أمام الجماعات السلمية؛ يقضي على فكرة أنصاف الحلول والحلول السلمية..، ويعطي دافعا قويا لضرورة الاقتداء بالنموذج الطالباني.
أعلم أن أغلب القيادات التقليدية للجماعات الإسلامية ليست أهلاً لأن تستغل هذه الفرصة التاريخية؛ فالمشكلة عندهم هي مشكلة نفوس قبل أن تكون مشكلة ظروف أو أفكار. لكن، هل تفعلها قواعد الجماعات الإسلامية وتستغل هذه الفرصة التاريخية؟
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا
لقراءة مقالات مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا