الأستاذ: حسين أبو عمر
أمام خروج الناس إلى الشوارع مطالبين بإسقاط الجولاني، وكف ظلمه وظلم جهازه الأمني، وأمرهم بالمعروف وبالعدل، وبإرجاع الأمر شورى؛ راح البعض يواجه مطالب الناس بالتنظير لنظرية التغلب البدعي وبعدم جواز الخروج على المتغلب، ولو كان ظالمًا ومستبدًا بشكل صريحٍ بلا حياءٍ ولا خجلٍ، ولا حتى مواربة!
عندما ظهرت بدايات التنظير لهذا الفقه قبل سنوات كان الدكتور حالكم المطيري قد علق على ذلك في مقال تحت عنوان «الثورة العربية العدل المنشود.. والرشد المفقود» بقوله: “لقد بدأ التنظير في إدلب لخطاب سياسي جديد لا يدعي وجود الخلافة ووجوب الطاعة لها كما فعل تنظيم الدولة! بل يدعي وجوب السمع والطاعة لسلطة الأمر الواقع -قبل اختيار الشعب لنظامه السياسي- بخطاب جهادي مصلحي يروج للخطاب “السلطاني” بكل أدبياته “السعودية” بما فيها وجوب السمع والطاعة لولي الأمر المعدوم!
وعدم وجوب أخذ الأمير المتغلب برأي مجلس الشورى المزعوم! فالشورى مستحبة وغير ملزمة!”.
هل الإسلام يقر التغلب؟
روى مسلم في صحيحه أنَّ أبا موسى الأشعري قال: “دخلت على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول اللَّهِ، أمِّرنا على بعض ما ولاك اللَّهُ، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا واللَّه لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه»”.
إذا كان مجردُ السؤالِ أو الحرص على الولاية يمنع السائلَ من الحصول عليها، ويُحرِّمها عليه؛ فكيف بمن يسفك الدماء، وينتهك المحرمات، ويرتكب الموبقات من أجل الحصول عليها، مغتصباً لها؟!!
وانظر إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكد بـ “إنَّ” ثم أقسم بـ “الله” على أنه لا يولي أحدا سأل الولاية أو حرص عليها أو أرادها كما في رواية البخاري، فماذا كان سيقول عن السافك للدماء من أجلها!!
فنعوذ بالله أن نكون من المتنكبين عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ننكر منكرات الخلوف، الذين لا يستنون بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يهتدون بهديه، الماضين على سنن الجبابرة والقياصرة..
ولقد كان للأئمة الكبار مواقف عظيمة من عدم اعتبار بيعة المكرَه، ووقوفهم مع الثائرين على الظالمين؛ كموقف الإمام أبي حنيفة من حكام زمانه، وفتوى الإمام مالك ببطلان بيعة المكرَه.
قال ابن حجر الهيتمي في «الصواعق المحرقة»: “المتغلِّب فاسقٌ معاقب لا يستحق أن يبشرَ ولا يؤمرَ بالإحسان فيما تغلَّب عليه، بل إنَّما يستحق الزجر والمقت والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله..”.
وقال القرطبي في «الجامع ﻷحكام القرآن»: “لا خلاف بين الأمَّة أنَّه لا يجوز أن تعقدَ الإمامة لفاسق..”.
وقال الجويني في «غياث الأمم»: “إذا لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس، فكيف يولى أمر المسلمين كافة”.
وقال أيضا: “لا يجوز عقد الإمامة لفاسق، وإن كانت ثورتُه لحاجةٍ ثمَّ زالت وحالت، فاستمسك بعدته محاولاً حملَ أهل الحل والعقد على بيعته، فهذا أيضاً من المطاولة والمصاولة، وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق. فإذا تصورت الحالة بهذه الصورة، لم يجزْ أنْ يُبايع..”.
هذا مع التنبيه على فوارق مؤثرة بين حالتنا والحالة التي ذكرها الجويني، منها: أن الجولاني ليس هو من قام بالثورة، وإنما الثورة هي ثورة الناس؛ فهم من قام بها، هم من قدم التضحيات الجسام في سبيل نصرتها، والجولاني هو من تسلق على تضحياتهم، ومنها أن الجولاني كان سببًا في سقوط الكثير من المناطق التي كانت قد حررت بتضحيات هؤلاء الناس، ومنها أن الجولاني حرف الثورة عن التحرير وتحول إلى جماعة ضبط سيطرة، ومنها أن الجولاني سفك الدماء الحرام، وحارب أهل الحل والعقد في الثورة، ومنها الجولاني فاقد للكفاءة في المحافظة على المحرر؛ وتاريخه يشهد بذلك، ومازال إلى الآن مفرطًا في الثغور وفي الإعداد، ومنها أن الجولاني ظالم؛ وأنه لا يجوز تولية الظالم، وغير ذلك…
كما نقل الزمخشري في «الكشاف» عن ابن عيينة: “لا يكون الظالم إمامًا قطّ، وكيف يجوز نصبُ الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكفِّ الظلمة؟! فإذا نُصب مَن كان ظالمًا في نفسه؛ فقد جاء المثل السائر: مَن استرعى الذئبَ ظَلَم”.
ونختم بكلام نفيس لأبي الحسن الندوي في كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» حول تولية هذا الصنف من الناس، حيث يقول: “إن أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لكل خطر ويجعلها فريسة للمنافقين ولعبة للعابثين هو فقدان الوعي في هذه الأمة، وافتتانها بكل دعوة واندفاعها إلى كل موجة وخضوعها لكل متسلط، وسكونها على كل فظيعة وتحملها لكل ضيم، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في موضعها، ولا تميز بين الصديق والعدو وبين الناصح والغاش وأن تلدغ من جحر مرة بعد مرة ولا تنصحها الحوادث، ولا تروعها التجارب، ولا تنتفع بالكوارث، ولا تزال تولي قيادها من جربت عليه الغش والخديعة والخيانة والأثرة والأنانية، ولا تزال تضع ثقتها فيه وتمكنه من نفسها وأموالها وأعراضها ومفاتيح ملكها وتنسى سريعاً ما لاقت على يده الخسائر والنكبات، فيجترئ بذلك السياسيون المحترفون، والقادة الخائنون ويأمنون سخط الأمة ومحاسبتها ويتمادون في غيهم ويسترسلون في خياناتهم وعبثهم ثقة ببلاهة الأمة وسذاجة الشعب وفقدان الوعي”.