الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فمع انطلاق انتفاضة الأقصى الجديدة ضد اليهود الغاصبين، واتساع العمليات الجهادية المباركة، وتشوق كثير من المسلمين لجهاد الكفار المجرمين، تأتي هذه المقدمة في الحديث عن الجهاد الفردي؛ تذكيرا للأبطال وتشجيعا للأخيار، فالدال على الخير كفاعله.
أولا: تعريف الجهاد الفردي:
أ – لغة:
الجهاد هو المبالغة واستفراغ الوسع في القتال والحرب.
والفرد كلمة تدل على وحدة، والوَتر، والذي لا نظير له ولا مثل له في جودته، والفريد هو الدُّر إذا نُظم وفُصل بغيره [والدُّر هو كبار اللؤلؤ]، وهو كذلك الجوهرة النفيسة، والجمع أفراد وفرادى. [ينظر مقاييس اللغة ولسان العرب].
وفي الحديث «سبق المفَرِّدون» قال الصحابة: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» رواه مسلم، قال النووي في شرح مسلم: “قال ابن قتيبة وغيره: وأصل المفردين الذين هلك أقرانهم وانفردوا عنهم فبقوا يذكرون الله تعالى”.
ب – اصطلاحا:
مصطلح “الجهاد الفردي” مصطلح معاصر لم يُعرف بهذا الاسم في كتب التراث، ولكنه ظهر حديثا كتعريف لأساليب قتال معينة ازداد الاهتمام بها في العصر الحديث، كما هو حال كثير من المصطلحات المعاصرة التي دعت الحاجة لاستخدامها؛ كفقه النوازل، والتفسير الموضوعي، وتوحيد الحاكمية، والإعجاز العلمي.. وغير ذلك كثير جدا، فلا مشاحة في الاصطلاح، وهناك مصطلحات أخرى معاصرة قريبة في بعض أساليب القتال من مصطلح “الجهاد الفردي”؛ مثل مصطلحات: حرب العصابات، والعمليات النوعية، والذئاب المنفردة..
وكثير من الصور والمسائل المندرجة تحت مصطلح “الجهاد الفردي” موجودة في كتب التراث عند كلام العلماء في مسائل تتعلق بالجهاد؛ كبعث السرايا من شخص أو أشخاص قليلين، ودفع الصائل، والانغماس في العدو، واغتيال الأسير للكفار..، وغير ذلك من المسائل؛ فمثلا قال ابن تيمية كما في جامع المسائل: “الرجل أو الطائفة يُقاتل منهم أكثر من ضِعْفَيْهم، إذا كان في قتالِهم منفعة للدِّين، وقد غَلَبَ على ظنِّهم أنهم يُقْتَلُون؛ كالرجل يَحْمِلُ وَحْدَهُ على صف الكفار ويَدْخُل فيهم، ويُسَمِّي العلماء ذلك الانغماس في العدو، فإنه يَغِيبُ فيهم كالشيء يَنْغَمِسُ فيه فيما يَغْمُره. وكذلك الرجل يَقْتُل بعض رؤساء الكفار بين أصحابه، مثل أن يَثِب عليه جَهْرة إذا اخْتَلَسَه، ويرى أنه يَقْتُله ويُقتَل بعد ذلك. والرجل يَنْهزِم أصحابه فيُقاتِل وحده أو هو وطائفةٌ معه العدوَّ، وفي ذلك نِكَاية في العَدو، ولكن يظنُّون أنهم يُقْتَلُون. فهذا كله جائز عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وليس في ذلك إلا خلاف شاذ. وأمَّا الأئمة المُتَبّعَون كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد نصُّوا على جواز ذلك. وكذلك هو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما. ودليلُ ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة”..
* فيمكن حسب تأمل المعاني المرادة من الاستخدام المعاصر “للجهاد الفردي” تعريفه بأنه: “العمليات والمعارك التي يقوم بها فرد أو أفراد بأسلوب قتالي يتناسب مع أعدادهم القليلة، ابتغاء مرضاة الله”.
فالجهاد إذًا يمكن تقسيمه حسب أساليب القتال إلى: جهاد الجيوش، والجهاد الفردي؛ والفرق بينهما هو أن ما يتعلق بالجهاد والمعارك كالهجوم والصد والتقدم والانسحاب والآثار المترتبة على المعارك.. وغير ذلك، يقوم في جهاد الجيوش على أعداد كبيرة لهم أهداف وخطط وأساليب قتالية تتناسب مع تلك الأعداد الكبيرة، أما في الجهاد الفردي فيقوم على فرد أو أفراد قليلين لهم أهداف وخطط وأساليب قتالية تتناسب مع تلك الأعداد القليلة.
وهذا التقسيم الثنائي لا يعني انفصام أهداف وخطط وأساليب جهاد الجيوش عن الجهاد الفردي؛ بل قد يشتركان في بعضها، وقد يختص كل نوع بأمور تناسبه وحده، حسب كل واقع وظروفه.
ثانيا: مشروعية الجهاد الفردي:
دلت على أصل مشروعية الجهاد الفردي أدلة كثيرة؛ منها:
– قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذا دليل من الأدلة العامة على مشروعية الجهاد، وأوامر الشرع للمؤمنين هي أوامر لكل فرد منهم خاصة، فيدخل فيها الجهاد الفردي.
– قال تعالى: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن كثير في تفسيره: “يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عليه فلا عليه منه”.
– قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) قال الطبري في تفسير شرى النفس: “كل من باعَ نفسه في طاعته حتى قُتل فيها، أو استقتل وإن لم يُقتل..، في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر”، وذكر آثارا عن الصحابة فيمن حمل على صف العدو وحده أنه داخل في هذه الآية.
– حديث أبي بصير وأبي جندل رضي الله عنهما، وفيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ويل أمه مِسْعر حرب، لو كان له أحد”، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم، لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن» رواه البخاري، قال ابن حجر في الفتح في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: «مِسْعر حرب، لو كان له أحد»: “فيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به”.
– عن أنس رضي الله عنه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا» متفق عليه.
– قال الترمذي في سننه: “باب ما جاء في الرجل يبعث وحده سرية”، وذكر فيه حديث: «عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية»، وقال الشافعي في الأم: “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ورجلا من الأنصار سرية وحدهما، وبعث عبد الله بن أنيس سرية وحده”، ولمثل هذا نظائر في السيرة عديدة.
– عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأتاه..، فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله» متفق عليه.
– «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار، فأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه..، فقال عبد الله..: ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته» رواه البخاري.
– قصة غزوة ذي قرد والتي طارد فيها سلمة بن الأكوع المشركين وحده، يقول سلمة: «لقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، فقال: أُخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: من أخذها؟ قال: غطفان، قال: فصرخت ثلاث صرخات يا صباحاه، قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم، وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميا، وأقول: أنا ابن الأكوع … واليوم يوم الرُّضع، وأرتجز، حتى استنقذت اللقاح منهم» متفق عليه.
– عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار» رواه مسلم.
– عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم: الذي إذا تكشف فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل..» رواه الحاكم في المستدرك.
ثالثا: فضل الجهاد الفردي:
الجهاد الفردي نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى، فكل فضائل الجهاد العامة هي بعض فضائله؛ فهو سبب لمغفرة الذنوب، والفوز العظيم، ودخول الجنة، وهو خير من الدنيا وما عليها، ومثل المجاهد مثل الصائم القائم القانت، وغير ذلك مما ورد في كثير من أدلة القرآن والسنة كقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى» متفق عليه.
يضاف إلى ذلك ما قد يحتف بآحاد أعمال الجهاد الفردي من فضائل تحيط ببعضها وقد تتحقق بها أحيانا أكثر من غيرها؛ من: قتال لأئمة الكفر، وإغاظة للمشركين، وإرهاب لأعداء الدين، وردع للمعتدين، وتحريض للمؤمنين، واستنقاذ للأسرى..، وغير ذلك.
رابعا: مزايا الجهاد الفردي:
للجهاد الفردي مزايا مهمة خاصة في زمن ضعف الأمة وتسلط الكفار من صهاينة وصليبيين على كثير من بلاد المسلمين، وهو يتكامل مع جهاد الجيوش بتحقيق ما قد يصعب على الجيوش تحقيقه، ومن ذلك أنه:
1- وسيلة لتفعيل كثير من طاقات الأمة التي تريد المشاركة في الجهاد ويصعب عليها الالتحاق بالساحات التي فيها جيوش إسلامية.
2- قد يحقق من النتائج ما تعجز عن تحقيقه الجيوش الكبيرة خاصة في تصيد رؤوس الكفر وتتبع مواطن ضعف العدو.
3- يسبب إرهاقا كبيرا للأعداء في مواجهة من يباغتهم عادة من حيث لا يشعرون.
4- أبعد عن ترصد العدو وتتبعهم لأفراده.
5- يتجاوز إشكالية فارق التسليح الكبير بين أفراد أمتنا وجيوش العدو.
6- يتكيف مع التغيرات والتطورات الحاصلة ولا ينحصر في صورة محددة ولا وسيلة ولا منطقة؛ فإن عجزت الجيوش عن الاستمرار في المواجهة لم يعجز الفرد عن ذلك.
7- سهولة التعلم والتدرب وتبادل الخبرات وتقييم التجارب وتدارس الحلول.
خامسا: ضوابط للجهاد الفردي:
الجهاد الفردي هو نوع من أنواع الجهاد يقوم ككل عبادة على الإخلاص والمتابعة، وأحكامه وضوابطه هي أحكام وضوابط الجهاد؛ كمن يتعين عليه الجهاد ومن لا يتعين، ومن يجوز قتاله ومن لا يجوز، ووجوب الإعداد، ومشروعية الشورى، وطاعة الأمير، ووجوب الثبات، وحالات التحيز، وطرق قسمة الغنائم..، إلى غير ذلك من أمور مذكورة في كتب فقه الجهاد.
ولكن تحسن هنا الإشارة إلى بعض الضوابط التي تكثر الحاجة إليها في الجهاد الفردي:
1- استئذان الأمير: الأصل في الجهاد أنه وجب على الأمة، والأمراء وكلاء عنها ينظمون الأمور العامة بما يحقق المصالح الشرعية، وتشرع طاعتهم في المعروف؛ لذا كان الأدب في الجهاد الفردي أن يُستأذن فيه الأمير المعتبرة إمارته شرعا إذنا عاما أو خاصا أو عرفيا؛ فالأمير أعرف بالمصلحة، وأعلم بمكامن العدو، وأقدر على نصرتهم وإمدادهم ومنعتهم، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه ويتقى به» متفق عليه، قال ابن الفراء في كتاب الروايتين والوجهين: “ويكره لطائفة قليلة أن تغزو بغير إذن الإمام؛ لأنه أعرف بالطرقات، وأوقات الحرب، ومكان الحرب، وخلاف غيره، لاهتمامه بذلك، فإن كان بإذنه أرشدهم وهداهم إلى ما هو أصوب، فإذا تركوا الأصوب كُره لهم، ولأنه إذا كان بإذنه كان ردءا لهم وعلى خبرتهم، حتى إذا احتاجوا إلى مدد بادر به إليهم، وإذا لم يكن بإذنه لم يعلم بهم فربما نالهم ما لا طاقة لهم به فهلكوا”.
فإن لم يكن هناك أمير عام، أو لم يكن الأفراد داخلين في ولايته، أو كان الأمير فاسقا، أو كان انتظار إذنه فيه ضرر على المسلمين أو تفويت مصلحة مهمة.. أو ما شابه ذلك، فلا يتوقف الجهاد الفردي على إذنه، وتشرع استشارة أهل الرأي إن أمكن، قال ابن رشد في البيان والتحصيل: “الإمام إذا كان غير عدل لم يلزم استئذانه في مبارزة ولا قتال؛ إذ قد ينهاه عن عدة قد ثبتت له على غير وجه نظر يعضده”.
وقال البلقيني في تتمة التدريب: “يكره الغزو بغير إذن الإمام أو نائبه إلا إذا كان من يريد الغزو لو ذهب إلى الاستئذان فاته المقصود، وإلا إذا عطل الإمام الغزو وأقبل هو وجنده على أمور الدنيا وغير ذلك، وإلا إذا كان من يريد الغزو لا يقدر على الاستئذان ويغلب على ظنه أنه لو استأذن لم يؤذن له فلا كراهة في هذه الصور”.
وقال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: “وإنما اعتبر إذنه في غير حال الضرورة وتأدبا معه، وحال الضرورة ليس فيها رعاية أدب”.
وقال البهوتي في كشاف القناع: “إذا لم تجز المبارزة إلا بإذنه فالغزو أولى، إلا أن يفجأهم أي يطلع عليهم بغتة عدو يخافون كَلَبَهُ، بفتح الكاف واللام أي شره وأذاه بالتوقف على الإذن؛ لأن الحاجة تدعو إليه لما في التأخير من الضرر، وحينئذ لا يجوز التخلف لأحد إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال، ومن لا قوة له على الخروج، ومن يمنعه الإمام، أو يجدون فرصة يخافون فوتها إن تركوها حتى يستأذنوا الأمير، فإن لهم الخروج بغير إذنه لئلا تفوتهم، ولأنه إذا حضر العدو صار الجهاد فرض عين فلا يجوز التخلف عنه”.
2- الفتوى في الجهاد الفردي: الجهاد في سبيل الله تعالى يقوم على الإخلاص والمتابعة، والمتابعة تكون باتباع شرع الله جل وعلا والرجوع لأهل العلم، والجهاد والقتال هو تنفيذ للحكم، وتنفيذ الحكم رتبة تأتي بعد رتبة الإلزام بالحكم الناتجة عن القضاء الشرعي، والإلزام بالحكم رتبة فوق رتبة الإخبار بالحكم الناتجة عن الفتوى؛ لذا يجب أن يكون الجهاد على صراط مستقيم كي لا ينحرف السيف عن هدفه؛ فالأولى بالجهاد الفردي أن يتخصص في قتال المجموعات والأفراد الذين لا إشكال في قتالهم ولا يختلف أهل العلم خاصة المجاهدين منهم في حكمهم ولا في الترغيب في قتالهم، والرجوع لأهل العلم العاملين فيما أشكل مهم لطالب النجاة الذي يريد أن يتقبل الله جهاده ويخشى أن تنزلق قدمه إلى النار..
3- تقدير المصلحة في الجهاد الفردي: هناك عادة مجال كبير للاختيار الشخصي في الجهاد الفردي؛ سواء في اختيار زمان الغزوة والعملية أو مكانها أو المستهدف فيها أو السلاح..، وهو اختيار يقوم على تقدير المصالح والمفاسد. وحيث إن تقدير المصالح والمفاسد فيه أمور يتوافق عليها الأقوياء الأمناء عادة وفيه أمور يختلفون حولها، فينبغي أن يتخصص الجهاد الفردي في الأمور التي تظهر مصلحتها عادة ولا يختلف الثقاة حولها، خاصة إن كان لهذا الجهاد الفردي آثار عامة لا تختص بمن قام به؛ فاختيار استهداف أئمة الكفر أولى من اختيار استهداف المختلف في قتاله، واختيار قتال من ظهر سبب مشروعية قتاله لعامة الناس أولى من اختيار من خفي سبب مشروعية قتاله، واختيار الاستهداف في الزمان والمكان الذي تتشوق نفوس الصالحين للاستهداف فيه أولى من اختيار الزمان والمكان الذي قد يثير لغطا ويتحدث الناس حوله بما يسيء للإسلام، واختيار عمليات تشجع الصالحين على الجهاد أولى من اختيار ما ينفر بعضهم عنه، واختيار السلاح الذي يحقق المقصود بوضوح أولى من اختيار السلاح الذي يخطئ أحيانا هدفه..، وهكذا كلما كان الجهاد الفردي سادا لثغور الأمة العامة مواكبا لمعاركها الكبرى ملبيا لطموحاتها كان أمضى وأنفع وأدعى لتحقيق مقاصده.
* وختاما: فمن توكل على الله كفاه، ومن جاهد في سبيله هداه، ومن سار في طريق الحق فقد وقع أجره على الله، (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
والحمد لله رب العالمين.
الشيخ أبو شعيب طلحة المسير