الأستاذ: أبو يحيى الشامي
قرأت الكثير من المقالات والمنشورات التي فيها مغالطاتٍ ومبالغاتٍ كثيرةٍ، ومنها منشورٌ يقول صاحبه: إن الحروب بعد الحرب العالمية الثانية كانت حصراً ضد الإسلام والمسلمين، وهذه روايةٌ عاطفيةٌ جهل أو تجاهل راويها حروباً دمويةً كثيرةً لم يكن المسلمون من أطرافها أو تأثروا هامشياً بها، كالحرب الكورية، والحرب الفيتنامية، وحرب الكونغو، ربما نسي أو تناسى الراوي هذه الحروب وغيرها لبعدها الزمني وهو بعدٌ قصيرٌ، ولقد أتت الحرب الروسية _ الأوكرانية لتظهر مفارقاتٍ نقف على بعضها للفائدة.
– من أهم مفارقات الحرب الروسية _ الأوكرانية أنها ليست حرباً دينيةً ولا عرقيةً ولا طائفيةً، بل هي حربٌ مصلحيةٌ، فلم تحارب روسيا أوكرانيا إلا لمصلحتها، ولم يدعم الغرب أوكرانيا لسبب غير مصلحته، ومع ذلك لا يستغرب لهم دعمها من باب الدين أو التجانس الحضاري أو أي سببٍ آخرٍ، أما المسلم الذي ينشغل بالمقارنات ويعتب على الغرب الصليبي عدم نصرته له!، فعنده مشكلةٌ في الولاء والبراء وفهم أساسيات الدين والسياسة والتاريخ، وإنه بالتأكيد من المفتونين بدعوى الإنسانية العلمانية التي أنتجها وروجها النظام الدولي الحالي، إنها دعوى زورٍ وإن من يصدقها ضالٌّ ومن يدعو إليها مضلٌّ.
– الثبات و”الصمود الأسطوري” كما يحلو للبعض وصفه ليس حكراً على المسلمين أو المجاهدين، بل هو ضرورةٌ قد يلجأ إليها المحارب بغض النظر عن دينه دفاعاً عن نفسه أو أرضه أو عرضه، وبعد توقعاتٍ بانهيار الجيش والشعب الأوكراني ثبتوا وصمدوا بطريقةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ معتبرةٍ منتجةٍ، ما كانت لتكون لولا الإعداد العقدي والمادي لسبع سنواتٍ مضت بعد احتلال روسيا للقرم ودونباس، فيما أكثر بعض الإعلاميين والمتصدرين من عبارة “الصمود الأسطوري” في الشام، في الوقت الذي كان المجاهدون يتعرضون فيه للقتل الجماعي في بلدةٍ صغيرةٍ في محور واحدٍ محصورٍ، أثناء سكون وركون باقي الجبهات ومنع الشعب من المساهمة في الدفاع!، ثم الانسحاب ثم هذا التغني ثم الانسحاب وهكذا، ولطالما استأت من عبارة “صمود أسطوري” الباردة هذه عندما يسوقها من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ولا يغضب لله ولا ينصح للمجاهدين بل يخذلهم ويتغنى ببطولاتهم المحصورة غير المنتجة، والسبب القيادة غير المسؤولة، هذا مع معنى “أسطوري” السيئ أساساً الذي يدل لغوياً وشرعياً على الوهم والكذب.
– قبل أن تقوم روسيا بتوجيه قواتها إلى أوكرانيا كانت الحكومة ولسنواتٍ مضت سمحت باقتناء السلاح ثم وزعته على شعبها ودربتهم عليه للمساهمة في الدفاع عن بلدهم، هذا سببه الأساس أن الحاكم في أوكرانيا منتخبٌ لا يخشى على نفسه من الشعب، بينما عملت الأنظمة والتنظيمات القهرية الشمولية التي تحكم المسلمين على نزع السلاح منهم واحتكاره وملاحقة من يحمله، مع تثبيط كل جهد شعبيٍّ للعمل على التحرير، هذا ماثلٌ بدءاً من القضية الفلسطينية إلى ما يجري في شمال سوريا المحرر اليوم، حيث يسير الاستبداد بالتوازي مع العمالة للأعداء، وإن لم يلتقيا معاً في البداية فلا ريب أنهما سيلتقيان في النهاية؛ لأن خط الاستبداد ينحرف في اتجاه العمالة بالضرورة، وإن الشعب يلتف حول قيادةٍ معروفةٍ مدعومةٍ منه، لا قيادةٍ مجهولةٍ مرفوضةٍ هي سببٌ رئيسيٌّ في التنازع والفشل.
– الحالة العسكرية المنتشرة المتكاملة في أوكرانيا وقد تصدت لهجومٍ روسيٍّ ضخمٍ تذكر ببداية الثورة السورية، قبل أن ينجح العدو في حصرها بالإفادة من الهدن والاستفراد والنزاعات البينية، كان العدو وقتها لا يعلم من أين يأتيه الضرب والاستهداف، كما يحدث الآن في أوكرانيا وبطريقة عشوائيتها مربكةٌ منهكةٌ أكثر.
– القصف العنيف الذي تعرضت له المدن والبلدات السورية تتعرض له المدن والبلدات الأوكرانية، ويُقتل المدنيون وتُدمر البنية التحتية، ولا يفرض الغرب حظر طيرانٍ ولا يتدخل مباشرةً لدحر القوات الروسية وحماية الأوكرانيين، ليس لأن روسيا تملك السلاح النووي وقد تستخدمه إن شعرت قيادتها بالخسارة الفادحة أو الخطر الوجودي، بل لأن من مصلحة الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة توريط روسيا في حربٍ طويلةٍ تستنزفها وتذهب بقوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، هذا توجه مصلحيٌّ واضحٌ، يخفف من لوعة الغش التي يتسبب بها الجاهلون لأنفسهم إن فهموه، ولقد تحدث الساسة والإعلاميون الأوروبيون عن مشابهة ما يجري في ماريوبول المحاصرة لحلب التي حوصرت قبل سبع سنواتٍ، وإني أذكر أن الغرب ما قصر في الحديث عن حلب وعُقدت جلساتٌ أمميةٌ لذلك، وكان التنديد وقتها أكبر، لكن بلا فائدةٍ عمليةٍ إلا إخراج أهل حلب منها وتسليمها للعدو.
– تحدثت النخب الأوروبية وقالها بعض الإعلاميين الأوروبيين علناً: “إن اللاجئين الأوكرانيين ليسوا كاللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان”، يقصدون من حيث الدين والعرق والمستوى الحضاري، وهذا الكلام مزعجٌ للوهلة الأولى، لكن من المعتاد أن يفكروا بهذه الطريقة، وما على المسلم إلا أن يرجع إلى الدستور الإلهي الذي أنزله الخالق جلَّ وعلا، ليعلم أن هذا الكلام ينبع من ناموسٍ قدريٍّ، فالبشر يحسنون إلى الأقرب فالأقرب ثم الأبعد، والتاريخ يؤكد هذا، ثم فليراجع موقف الدول العربية والمسلمة من اللاجئين وطريقة معاملتهم، ومع ذلك تظهر مع الوقت معاملة عنصرية للاجئين من أين وأينما كانوا ولو كانوا من ذات البلد، ويظهر الاستغلال واضحاً في مجتمعٍ ماديٍّ فاسدٍ، ولقد قرأت مؤخراً تقريراً عن محاولات الاستغلال الجنسي للاجئات الأوكرانيات الجميلات في فرنسا، نعم على المرء ألا يعجب، فقد تعرضت اللاجئات السوريات للاستغلال من قبل مسلمين في دولٍ عربيةٍ مجاورةٍ بطريق الزواج المؤقت، بل في سوريا ذاتها وفي المنطقة الثورية تعرض النازحون للاستغلال المادي والمعاملة القاسية في بعض القرى والبلدات، بعض مظاهرها رفع قيمة بدل الإيجار وغلاء الأسعار، فلا تكن عاطفياً، ولا تنشغل بالمقارنات والعتب.
– أكتب بموضوعيةٍ لا بعاطفيةٍ، فللفائدة على القارئ أن يقرأ بموضوعيةٍ، وليعلم أنه لا يثير الدهشة موضوع تقبل العالم المتطوعين للقتال مع أوكرانيا فيما رفض وعادى المتطوعين للقتال مع الثورة السورية تحت المصطلح الشرعي “المهاجرين”، وذلك لعدة أسباب منها عدم إعلان هؤلاء المتطوعين العداء والتهديد لحكومات بلدانهم الأصلية والدول الأخرى حتى إن كانت في صف روسيا كالصين مثلاً، فيما نشر الكثير من المهاجرين مقاطع يتوعدون فيها بفتح روما أو حتى مكة، قبل أن يحرروا مدينةً سوريةً واحدةً، كما أن المتطوعين لم يحاولوا فرض رؤيتهم على القيادة والشعب الأوكراني، فيما تصدر الكثير من المهاجرين وعملوا على فرض رؤيتهم بطرقٍ مختلفةٍ، وهنا لا أتحدث عن الشريعة فهي مطلب أبناء الشام الأصيلين، بل على طريقة تطبيقها وإن في “داعش” وأمثالها مثالاً واضحاً على ذلك، مما تسبب فيما لسنا بصدد نقاشه الآن، وما ذكرت أعلاه لا يشمل كل المهاجرين بل جزءاً منهم، والجزء الآخر ضحوا بأنفسهم وجهودهم وأعمارهم في سبيل الله بالتزام للثغور وكف أذى وعمل بسنة وسياسة النبي صلى الله عليه وسلم، فجزاهم الله خير الجزاء.
– في أوكرانيا رأينا عياناً كيف حوسب العملاء لروسيا فوراً وبلا خجلٍ ولا وجلٍ ولا مماطلةٍ، من قبل جهاز أمنٍ يستهدف العملاء حصراً ويبطش بهم بعد تحقيقٍ ومحاكمةٍ، إلا إن قاوم العميل بالسلاح فإنه يقتل بالسلاح، أما في الثورة السورية فدمُ العملاء مصانٌ معصومٌ عند الكثير من الفصائل وسلطات الأمر الواقع أكثر من دماء المسلمين والمجاهدين، بل إنهم يَسمَنون في السجون ريثما يُدبَّر هروبهم أو يُفتدون بمبالغ ماليةٍ أو يخرجون بتبادل أسرى، والمقابل من لهم في سجن النظام أشهر أو أسابيع بقبضٍ عشوائيٍّ، وهذا سببه غياب المرجعية القائمة بالشرع والنابعة من الشعب، وتقصير الشعب ذاته في المتابعة وإسقاط ومحاسبة العملاء والخائنين، بل أكثر مما تقدم ليس هناك علمٌ بعدد العملاء في المراكز القيادية في الثورة السورية إن كان في الكفة ذات الزي العلماني أو الكفة ذات الزي الإسلامي، في الوقت الذي تظهر فيه قرائن وعلامات العمالة للعدو على الكثير من القيادات مع غياب الأدلة الدامغة، ولا قضاءٌ مستقلٌ يحقق في هذا ويرغم الأنوف، إن هذه حالةٌ فوضويةٌ فاسدةٌ مفسدةٌ معطِّلةٌ، والله يعلم المفسد من المصلح، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
* كانت هذه بعض المفارقات وليس كلها، لكنها من أهمها، يكفي أن يتجرد المرء من العاطفية المضلة ويحكِّم عقله المستنير بنور الشرع، لكي يخرج من دوامة العَيِّ والغِشِّ الذاتيِّ، فقلما يأتي قهرٌ أو هزيمةٌ من الغير، إلا أن يشاء الله، عندها العاقل العامل قدم الأسباب والعذر، والله ولي التوفيق وهو المستعان.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز كلمة الدين، وارفع راية التوحيد بأيدي صادقي المجاهدين، اللهم آمين.
للمزيد من مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا
لتحميل نسختك من مجلة بلاغ اضغط هنا