الأستاذ: أبو يحيى الشامي
لم تقم الثورة السورية كثورةٍ دينيةٍ منذ البداية، رغم أن المبادئ والأهداف التي نادى بها روادها على الأرض تنبع من صميم الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتتوافق مع الإسلام بنسبةٍ كبيرةٍ وحقيقةٍ عمليةٍ، فالشعب السوري رغم المائة عامٍ التي سبقت الثورة بالتجهيل والتضليل ومحاولات الإبعاد عن الشرع، بقي الشرع أحب إليه مما عداه، وكانت دعوة “تعال لنتشارع” منتشرة بين المسلمين في سوريا خاصة، وفي ظل حكم النصيرية المحاربين للدين.
إن شغف وتشوق الشعب المسلم السني للدين جعله يرفع شعاراتٍ إسلاميةٍ كمبادئ يسعى لتحقيقها وتحقيق مصلحتها، لا غفلةً بل يقظةً وفطرةً، “قائدنا للأبد سيدنا محمد”… “هي لله هي لله”… “هي ويا الله ما منركع إلا لله”… هي شعاراتٌ كثيرةٌ حقيقيةٌ، والتزامٌ عمليٌ بتقديم أهل الدين وخطاب الشرع، والانقياد لهم طوعاً، حباً بالله ودينه.
هذه المكانة المرموقة للدين وأهله عند أهل الشام، جعلت الكثيرين ممن يطلبون الدنيا ومصالحهم الشخصية والحزبية بالدين يعرضون بضاعتهم الزائفةَ للمزايدة والمقايضة، ومنذ انطلاقتها عانت الثورة السورية من هذا التوجه السقيم لدى الأشخاص والجماعات والتنظيمات، خاصةً الغامضة المتقلبة منها، فالواضح الثابت وإن كان على منهجٍ باطلٍ يضعف أثره ويهون خطره إذا ما قيس بالغامض المتقلب.
وفي الوقت الذي رفض ونبذ الشعب السوري الثائر مؤسسات المعارضة العلمانية التي ادعت تمثيل الثورة السورية، أيد ودافع عن التنظيمات الجهادية والمؤسسات الدينية التي قالت باسم الإسلام وادعت العمل له وفي سبيله، ثم ظهر مدى صدق الادعاءات خلال عشر سنواتٍ من المحن والابتلاءات وتضييع المنح الإلهية.
هنا لا بد من عرض أمثلةٍ واضحةٍ وصريحةٍ، والقارئ لن يحضره الائتلاف المعارض والمؤسسات المتفرعة عنه في معرض الحديث عمن يبيع الدين بالدنيا، فهذه المؤسسات لم تعرض الدين كسلعةٍ للمزايدة والمساومة وتحقيق المصالح أساساً، بل همشته تماماً وتنكرت له ووقعت في العلمانية مع بعض الجماعات التي انسلخت حتى من شعاراتها الإسلامية لتلبس رداء العلمانية منذ زمن.
من التنظيمات التي تعاملت مع الثورة السورية بمصلحية بحتةٍ وفجَّةٍ، تنظيم “دولة العراق الإسلامية” بتفرعاته وتطوراته، وهذا معروفٌ ومشهودٌ لا يجهله عاقلٌ ولا ينكره منصفٌ، والمصلحة الضيقة التي عمل التنظيم لتحقيقها هي السطوة واحتكار الحق بتزويره وقتال وقتل أهله، هذا هو المختصر من استعراض تعامل التنظيم والتنظيمات المماثلة، سلعتهم ووسيلتهم الدين والخطاب الديني، أما المثال الأبرز على من اتخذ المصلحة مبدأً ضيع بها ولها كل مبدأٍ أعلنه، فهو الحزب الذي تنقل بين التبعية لدولة العراق وقيادة جبهة النصرة فجبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام مؤخراً.
هذا ليس مقالاً نظرياً يُعنى بالإيحاء والدلالة العامة، إذ لا بد من الدلالة الواقعية التي تستفاد منها عبرةٌ عمليةٌ تنفع، إن الذي حدث في العشر سنواتٍ الماضية فاق المخاوف والتصورات، لقد تغلب هؤلاء على أنفسهم مراراً وتكراراً بعد أن تغلبوا على معلميهم في مدرسة ومضمار المصلحية واستغلال الدين لتحقيقها، ولو كلف ذلك الكثير من التناقضات.
قال ميكافيلي مؤلف كتاب الأمير الذي رسخ فيه مبدأ الغاية تبرر الوسيلة: “الدين ضروريٌّ للحكومات لا من أجل الفضيلة ولكن لغرض السيطرة على الناس”، وهذا بالتحديد ما قام به المثال الذي نتحدث عنه الآن، فمنذ مبايعة تنظيم دولة العراق والعمل تحت ولايته ورايته، استخدموا الدين لإظهار وتمكين الذات وإقصاء الغير، بالتسقيط والتكفير والقتل، أو قتل المصلحة إن لم يكن هناك مستند للتسقيط والتكفير، هذا الجزء الأبرز من هذا المنهج.
البقاء على الولاء لتنظيم الدولة لم يكن في مصلحة الدين والأمة، والانقلاب عليه لم يكن لأجلها، ومبايعة تنظيم القاعدة علناً ورفض فك الارتباط معه في وقت دعت فيه قيادة ذات التنظيم لتشكيل جبهةٍ إسلاميةٍ سوريةٍ جامعةٍ لم يكن رفض فك الارتباط ورفض الاندماج مع الإسلاميين يصب في مصلحة الدين والأمة ولا التنظيم نفسه، وفك الارتباط عن التنظيم بطريقة تشبه السرقة لم يهدف إلى مصلحة الدين والأمة بدلالة ما بعده.
كما أن إعطاء العهود والمواثيق للشركاء في هيئة تحرير الشام ثم الانقلاب عليهم هو ضد مصلحة الدين والأمة، وهذا حال كل أفعال التكفير والقتال والاحتطاب والتشليح والغصب التي استهدفت فصائلَ وأشخاصَ ومؤسساتِ الثورة، الهدف منها المصلحة الفئوية الحزبية التي ظهرت سافرةً عاريةً في معظم الأحيان.
ومن أكبر وأوضح الموبقات التي ارتكبوها أنهم يدعون إلى الشرع إذا كان في مصلحتهم ويتنصلون منه إذا نظروا فقدروا أنه لا يحقق مصلحتهم المُنبَتَّة، {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)} [النور : 48 -50]، هذا معروفٌ ومشهودٌ في كل بغيٍ اجترحوه وكل دعوةٍ إلى تحكيم الشرع فيهم وفي غيرهم، ولقد كان قبولهم المؤقت بلجانٍ شرعيةٍ مستقلةٍ خدعةً مكررةً للعباد لكنها أعظم فهي تذكر بقول الإمام أيوب السختياني: “يخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيان، ولو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي”. مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية، جمع ابن قاسم: (30 / 223).
– السيطرة على مقدرات الثورة وإقصاء وتقييد أهلها،
– والانقلاب على المنهج القديم كلياً بلا مراجعاتٍ ولا توبةٍ،
– وحصر الحكم وتوجيهه لتحقيق مصلحة وتزيين صورة الفئة المسيطرة،
– ومد يد المصلحيَّة إلى من كفروهم ولاحقوهم بالأمس لا للتكفير عما سبق بل للإفادة مما لحق،
– ومد يد الذل إلى الدول التي كان التواصل معها ردة عن الدين بالأمس في حكم هؤلاء،
– واستباحة المسلمين خاصة المجاهدين وكل من يهدد حالة الاستقرار الوهمي الهش التي تخدم مصالحهم،
– وتأمين الطرقات للأعداء وفق الاتفاقيات الدولية،
– وعدم التعرض لمن يهاجم المنطقة التي حررت بدماء الشهداء، فلا تصدوا لإنزالٍ أمريكيٍّ ولا ردعوا قصفاً روسيًّا إيرانيًّا،
– مع الانشغال والإشغال عن واجب العمل الثوري الجهادي بردغة المكاسب المادية الضحلة،
وغير ذلك كثيرٌ جعل المراقب يعلم يقيناً أن هذا المثال هو المثال الأوضح والأبرز عن الموضوع الذي نتحدث عنه.
مبدأ المصلحة الشخصية والفئوية الضيقة التي يجدون لها تخريجاتٍ وتبريراتٍ في كل منعطفٍ ومنزلقٍ، يصدقها من له مصلحةٌ في تصديقها أيضاً، في حوارٍ مع أحد المجاهدين القدامى الذين جابهوا النظام النصيري قبل الثورة بعشر سنين، كنت أعلم أنه يعارض الجولاني ومن معه، لم أفاجأ عندما قال لي: إنه يحب الجولاني، لكن صعقت عندما علمت السبب، قال لي بلا خجل: “لقد أعطاني ثلاثة بيوتٍ في حارم”!!!، يا للعجب كيف يتراكم الباطل وأهله لأوهى الأسباب، وكيف يضيع المجاهد مبادئه من أجل لعاعةٍ زائلةٍ.
ما كنت لأركز الحديث على من اتخذ منهج المصلحية دون تشبعٍ بالدين وتزينٍ ومزاودةٍ به، فكل الفساق في تضييعِ الدين لأجل الدنيا سواءٌ، إلا أن منهم من يكفر ومنهم من يبقى على الإسلام مع الخطيئة، لكن من يرتكب الموبقات والمتناقضات باسم الدين ويصر على ذلك، فهذا مما يتطلب ذكراً مفصلاً، فمن فعل كل هذه الأفاعيل هو من المرشحين لدخول التاريخ لكن من أشنع الأبواب.
قال عبد الله بن وهب: “قال لي مالك بن أنس: يا عبد الله! لا تحملن الناس على ظهرك، وما كنت لاعباً به من شيء فلا تلعبن بدينك!”. الحجة في بيان المحجة (1 / 207)، وروى الحاكم في تاريخه عن ربيعة الرأي أنه قال للإمام مالك: يا مالك من السفلة؟ قال: “من أكل بدينه”، فقال لي: ومن أسفل السفلة؟ قلت: “من أصلح دنيا غيره بفساد دينه”. الآداب الشرعية (1 / 329).
إن الحديث عن مصلحة المبدأ ومبدأ المصلحة يطول، فللأمر تفصيلٌ وتمثيلٌ كثيرٌ، لكن النتيجة التي سنصل إليها في كل نهاية، أنه لا يمكن تحقيق المصلحة العامة من خلال المصلحة الخاصة، ولا يمكن القيام بمصلحة المبدأ إلا بإنهاء وتخطي مبدأ المصلحة، تلك البراغماتية الضيقة والميكافيلية الوقحة، فإن لم يكن هذا فالتردي مستمرٌ والهاوية سحيقةٌ، ولا حول ولا قوة الا بالله.
يقول شيخ الإسلام ابن القيم -رحمه الله-: “فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات، لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضادّه من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج بالتوبة” الفوائد (100).
قال: “لي مخرج بالتوبة”… لا يمنع التوبة مخلوق، ولكن المقدمات تدل على النتائج، ولا يناسب المقام إلا أن نحذر من صعوبة أو استحالة توبة المخلدين إلى الأرض المضيعين الدين من أجل الدنيا، فهيهات… هيهات.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٣ رجب ١٤٤٣ هـ