الأستاذ: حسين أبو عمر
كثرت في الآونة الأخيرة التسريبات عن نية الولايات المتحدة إطلاق عملية برية للقضاء على ما تبقى من خلايا لجماعة “الدولة” في البادية السورية، ولإبعاد ميليشيات إيران عن الحدود (السورية – العراقية) وعن حدود إسرائيل، وأن الولايات المتحدة كثفت من تدريب القوات المتواجدة في قاعدة التنف عند المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني، كما أن الولايات المتحدة أدخلت في الفترة الماضية الكثير من التعزيزات لقواتها المتواجدة في شرق سوريا؛ ما دفع وزارة الدفاع الروسية للإعراب عن قلقها إزاء هذه التحركات.
كنت قد تناولت الخطوط العريضة لاستراتيجية وأهداف الولايات المتحدة في سوريا في مقالة (أمريكا والثورة السورية.. الأهداف والاستراتيجية – العدد ٢١ من مجلة بلاغ) دون إيغال في التفاصيل، ما يغني عن إعادة ذكر كل أهداف أمريكا واستراتيجيتها هنا. في هذه المقالة سيكون الكلام مقتصرا ومركزا على محور إعادة رسم الحدود وتقسيم المقسم، على ما يُعرف بمشروع “برنارد لويس” أو “الشرق الأوسط الجديد” أو “حدود الدم” لرالف بيترز…
قبل الدخول في صلب الموضوع، لا بد من الإشارة إلى أنه لم تشكل إيران وميليشياتها ولا حتى جماعة الدولة ولا باقي فصائل الثورة السورية أي تهديد حقيقي لأمن إسرائيل ولا على مصالح أمريكا في المنطقة، ولم توجد الظروف التي تدفع الولايات المتحدة لتتحرك بردات الفعل طوال عمر الثورة، وإنما كانت وما زالت تحركاتها حقيقة ضمن خطة منظمة، وإن كان ثمة من تحركات الآن أو مستقبلا فلن تكون خارج سياق الخطة المنظمة، طالما بقيت المعطيات هي هي.
قبل انطلاق عملية “غصن الزيتون” للسيطرة على عفرين تصور الكثيرون أن إيصال الأكراد إلى البحر وأن يكون لـ “روج آفا” منفذ بحري وألا تكون “كردستان” دولة حبيسة هدف أساسي من أهداف الولايات المتحدة في سوريا، وربما ما زال البعض إلى الآن لديه هذا التصور؛ من وجهة نظري هذا التصور لأهداف الولايات المتحدة خاطئ، وأن إعطاء الأكراد منفذا بحريا لم يكن ولن يكون مستقبلا من ضمن خطة أمريكا؛ لاعتبارات عدة، منها:
أولا: الدولة الكردية (في سوريا والعراق و…) تتوفر فيها مقدرات ضخمة من نفط وماء وأراضٍ زراعية خصبة، وإذا ما استحوذت على منفذ بحري فسيمكنها ذلك من تصدير كل منتجاتها بطريقة سلسة وبدون قيود، ما سيوفر لها غنى وانطلاقة قوية نحو النمو والتطور، وستصبح دولة قوية جدا؛ وهذا ما لا تريده أمريكا لأي دولة في المنطقة. هذا النهج “فن توزيع القوة وضبطها” أمر طبيعي في سياسة الدول العظمى، حتى إن بعض علماء السياسة عرف السياسة بأنها “فن تحصيل القوة واستعمالها وتوزيعها”. فالدول العظمى لا تسمح لأحد أن يحوز ما شاء من القوة، بل تسعى دائما إلى ضبط قوة أعدائها وأصدقائها على حد سواء؛ يقول جون ميرشايمر في كتابه “مأساة سياسة القوى العظمى”: ((إن القوى العظمى لا تسعى إلى اكتساب القوة على حساب الدول الأخرى وحسب، وإنما تحاول أيضا أن تحبط المنافسين العازمين على اكتساب القوة على حسابها)).
الاعتبار الثاني يتعلق بحركة المجتمعات؛ فمن عادة المجتمعات إذا ما حققت درجة معينة من الغنى والتقدم فإنها تبدأ تبحث عن هويتها الخاصة بها وعن تحقيق الذات -مثلها مثل الإنسان الفرد في ترتيب الاحتياجات والسعي لإشباعها-؛ والدين والذاكرة التاريخية والموروث الحضاري هو أكبر ما يشبع هذه الرغبة، وإن المجتمعات مهما ابتعدت أو أُبعدت عن دينها وتاريخها وحضارتها فإنها ترجع إلى الاعتزاز بدينها وبتاريخها وبأمجادها ما أن تحقق هذه الدرجة من التقدم؛ هنالك أمثلة كثيرة تؤكد هذه النظرية في حركة المجتمعات، أقربها لمثال المجتمع الكردي هو المجتمع التركي وما مورس عليه من إبعاد عن دينه وحضارته منذ سقوط الدولة العثمانية وكيف يسعى الآن للعودة إلى هويته وإلى دينه وإلى مكانته التاريخية.
الاعتبار الثالث: وهو الأخطر، أن أمريكا تريد للأكراد أن يسيطروا على كامل الحدود (السورية – العراقية) وصولا إلى حدود مناطق الدروز في الجنوب، تريد أن تتصل حدود “كردستان” بحدود “درزستان”؛ هذا من جهة الشرق.
أما من جهة الجنوب فيسيطر الدروز -بدعم أمريكي- على كامل الشريط الحدودي مع الأردن وصولا إلى حدود “المحتل الإسرائيلي” وهو الأرجح، أو أن يتوغل “المحتل الصهيوني” في الجنوب السوري وصولا إلى الحدود الجديدة ل “كردستان” تحت ذريعة إخراج إيران من جنوب سوريا أو غيرها من الذرائع.
في هذا الموضع لا بد من استطراد مهم؛ معظم الدراسات الغربية التي اعترضت على تقسيم سايكس بيكو، كان من ضمن اعتراضها أن ذاك المشروع لم يصنع حدودا حقيقية؛ فابن دير الزور السورية تربطه مع ابن الأنبار العراقية -على سبيل المثال- وحدة الدين والمذهب والدم والتاريخ واللغة -وحتى اللهجة- والنسب والمصاهرة، ولا توجد حتى تضاريس تفصل بينهما، وأن هذه الحدود المصطنعة لا قيمة لها في عقلية ولا نفسية الناس في كلا الجانبين؛ وقد تجلت هذه الحقيقة مرارا في وقوف الناس مع بعضهم أثناء الأزمات.
ونفس الأمر ينطبق على الحدود (السورية – الأردنية)، فابن درعا السورية كابن إربد الأردنية؛ وكلهم ابن حوران واحدة، وابن دين واحد ومذهب واحد وتاريخ واحد، وتربط الكثير منهم قرابات وعلاقات مصاهرة…
أما لماذا قلت: إن الاعتبار الثالث هو الأخطر؛ فلما سيرافق تنفيذ هذا المخطط من تهجير وإحلال ديموغرافي للمنطقة وتغيير في تاريخ المنطقة وتركيبتها السكانية، وإدخال حائل يحجز بين ما سيتبقى من سكان المنطقة في كلا الجانبين، صناعة “حدود الدم” حقيقة لا كما ادعى الضابط الأمريكي رالف بيترز من قبل.
وثانيا: كنت قد ذكرت أني أعتقد أن أمريكا تريد لدولة المقدرات الضخمة “كردستان” أن تكون دولة حبيسة، ثم من خلال ربط حدود “كردستان” مع حدود دولة “الاحتلال الصهيوني” سواء عن طريق الدروز أو بشكل مباشر تصبح دولة “الاحتلال الصهيوني” هي الرئة التي تتنفس منها “كردستان” وبوابة كردستان على العالم الخارجي في ظل محيط معادي. فلن تستطيع “كردستان” أن تصدر شيئا من منتجاتها أو تستورد شيئا مما تحتاجه إلا عن طريق الصهاينة؛ وهذا سيحقق للصهاينة أرباحا ضخمة من جهة، ويجعل من “كردستان” رهينة وخاضعة لدولة الاحتلال لفترات طويلة من جهة ثانية.
سيناريو سيئ، لكنه للأسف متوقع وبقوة؛ فلا أظن أن الولايات المتحدة سمحت لتركيا بالسيطرة على عفرين في شمال غرب سوريا وما رافق ذلك من هجرة وتهجير للأكراد إلى مناطق شرق الفرات، ولا حافظت على تواجدها في قاعدة التنف عند المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني إلا من أجل تنفيذ هذا السيناريو.
لكن، هل تنفيذه بات قريبا فعلا، أم ما زال الأمر مبكرا؟ ما زال الأمر غير واضح.
في الختام، أشير إلى أن الكلام عن أن حدود المنطقة تغيرت وتتغير إلى غير رجعة هو ليس رهين الكلام خلف الأبواب المغلقة والخطط السرية أو الدراسات الفردية، بل جاء حتى في التصريحات الغربية العلنية ومن مستويات عالية في الغرب أو من الصهاينة؛ فخلال المؤتمر حول الاستخبارات الذي نظمته جامعة “جورج واشنطن” قبيل نهاية عام 2015 أعلن كل من مدير الاستخبارات الفرنسية “برنار باجوليه” ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” وقتها “جون برينان”: «أن الشرق الأوسط انتهى إلى غير رجعة وأن دولا مثل سوريا والعراق لن ترجعا إلى حدودهما السابقة مجددا».
كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق “موشي يعلون” خلال حديثه أمام مؤتمر الأمن الذي انعقد في ميونيخ بألمانيا في بداية 2016: «يجب أن ندرك أننا سنشهد قيام جيوب (مثل) علويستان وكردستان السورية ودرزستان السورية قد تتعاون أو تحارب بعضها البعض». وكذلك وصف مدير عام وزارة المخابرات الإسرائيلية “رام بن باراك” وقتها تقسيم سوريا بأنه «الحل الممكن الوحيد». وهي ذات الجملة التي قالها وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر في أكثر من مناسبة.
الأستاذ حسين أبو عمر