الأستاذ: حسين أبو عمر
هذا المقال كنت قد كتبته في أكتوبر/تشرين الأول 2024، إلا أنه تأخر نشره من قبل المجلة الناشرة طويلا، وأجد الآن أن التهديدات التي يطلقها ترامب وبعض أعضاء إدارته ضد أهلنا في غزة تستدعي نشره، ولذلك أنشره في هذا العدد من مجلة بلاغ..
قبل الدخول في صلب الموضوع، أُود التذكير بأن الاحتلال خاض هذه الحرب، ومارس كل هذا الإجرام وهذه الوحشية، منطلقًا من دافع وجودي، ومن رؤية دينية، ومن مشروع جيوسياسي توسعي كبير؛ والأهم من ذلك كله حصوله على غطاءٍ ودعمٍ أمريكيٍّ مفتوحٍ لتحقيق هذه الغايات..
كان الدافع للتحرك في البداية هو الانتقام واستعادة الردع، على إثر حالة تهديد الوجود التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى؛ وكان سيُقدم على هذا الإجرام ويمارس كل هذه الوحشية لـ “استعادة الردع” حتى لو أطلقت حماس جميع الأسرى منذ اليوم الأول، بل حتى لو أطلقت سراحهم دون مقابل..
لاحقاً، تطورت الأهداف، وأصبح يتحرك منطلقاً من رؤية دينية ومشروع جيوسياسي توسعي كبير؛ يهدف إلى التوسع في المنطقة، وفرض الهيمنة عليها، بل وإلى تغيير المنطقة سياسيًا ودينيًا وثقافيًا؛ مشاريع كبرى كانت مؤجلةً ويرون الآن أن الوقت أصبح مناسباً لوضعها موضع التنفيذ.
ما أردت التنبيه عليه من إعادة التذكير بهذه الأمور هو أن من يتحرك لتحقيق قضايا وجودية، أو لتنفيذ مشاريع جيوسياسية كبرى، ومنطلقًا من رؤى دينية، فمن الطبيعي أن يكون مستعدًا لتقديم حجمٍ معينٍ من الخسائر في سبيل تحقيقها؛ فكيف إذا كان الدافع هو كل هذه المحركات مجتمعة!! ولذلك لم يبال الاحتلال بمصير أسراه، ولن يتوقف عن وحشيته وعن تنفيذ مخططاته إذا بقيت خسائره ضمن المقبول.
كما أن مجرد فضح جرائمه لا يمكن أن يؤدي إلى إيقاف وحشيته، وقد قال المجرم نتنياهو ذلك بشكل صريح في تصريح لمجلة تايم: “أفضل أن أحظى بتغطية إعلامية سيئة على أن أحظى بنعي جيد”.
والاحتلال يعرف نفسه أنه عدوٌ للأمة، وأنه مرتكبٌ لأفظع الموبقات بحقها، وأنه، وأنه..؛ فهو لا يبالي كثيراً بعداوة الأمة له، ولن يؤثر على نهجه فضحه، وشحن الأمة عاطفياً ضده..
لا شك أن من أوجب الواجبات على علماء الأمة ونخبها تبيين حقيقة الصراع مع العدو المحتل، وفرضية جهاده، وشحن الأمة واستنفارها لمجاهدته؛ بل ولا يجوز لهم الاكتفاء بإطلاق الدعوات، وإنما يجب عليهم تقدم الصفوف، وتحويل دعوات مجاهدته إلى مشاريع عملية (على سبيل المثال: من المقدور عليه إنشاء وتدريب خلايا وتزويدها بما تحتاج إليه لصناعة الطائرات المسيرة وقصف العدو بها؛ وإنجاح مثل هكذا مشروع ليس من الأمور الصعبة، حيث باتت هذه التقنية في متناول الجميع، وكذلك تجنيد الشباب المستعدين لاستهداف العدو في داخل أو في خارج فلسطين، وغير ذلك).
مثل هذه الأعمال يمكن أن تحدث ضررًا ونكايةً في العدو؛ لكن، هل ستكون كافيةً لإرغامه على تغيير نهجه وخططه؟
في الحقيقة، تأثير الأمة وعلماؤها ونخبها على مجريات الأحداث من قرب ضئيلٌ جداً، وسيبقى كذلك في المنظور القريب، ولا يمكن أن يؤدي وفق المعطيات والإمكانات الحالية إلى إحداث تغييرٍ كبيرٍ في الموازين، وفي مجريات الصراع، وبالتالي إلى إجبار العدو على تغيير نهجه وخططه.
لكن، ما تستطيع الأمة تقديمه لإيقاف جرائم الاحتلال، وهو ما يجب على علماء الأمة ونخبها أن يوجهوا الأمة ويقودوها إليه، هو التأثير على الأحداث من بعيد..
الأمريكي مشاركٌ في الحرب منذ البداية، ويوفر للاحتلال دعماً وغطاءً مفتوحاً: عسكريًا واستخباراتيًا ولوجستيًا وماديًا وسياسيًا…؛ والأمريكي هو الوحيد الذي يستطيع إجبار الاحتلال على إيقاف جرائمه، وإذا كان الاحتلال لا يبالي بالدخول في عداوةٍ مفتوحةٍ مع الأمة، فإن الأمريكي يهتم لذلك جداً، فهو غير مستعدٍ للدخول في حالة صراعٍ جديدةٍ مع الأمة، خاصةً في هذا التوقيت، حيث المنافسة بينه وبين الصين على أشدها، وحالة الصراع مع الروسي في أوكرانيا..
قبل عملية طوفان الأقصى كان المخطط الأمريكي للمنطقة هو التهدئة؛ من أجل التفرغ للصين بالدرجة الأولى ولروسيا بالدرجة الثانية؛ وأجرى خلال السنوات السابقة بعض الانسحابات من المنطقة لصالح استراتيجية التحول إلى منطقة المحيط الهادئ، وقام بالدخول في عدة تحالفات في تلك المنطقة لاحتواء الصين، لكن، عملية طوفان الأقصى أجبرته على تغيير هذا التوجه، فعاد للمنطقة بأكثر مما كان عليه في السابق؛ والغاية من إعادة الانتشار في المنطقة، واستعراض القوة فيها، هي إظهار الدعم اللامحدود للكيان، ولردع الآخرين عن المشاركة في الحرب، وبالتالي منع توسعها؛ فأمريكا حريصةٌ جداً منذ البداية على ضبط إيقاع الحرب، وعلى منع توسعها وتحولها إلى حربٍ إقليميةٍ؛ خشيةً من جرها للتورط في حروب استنزافٍ جديدة، حيث أخذت الدرس من حربي أفغانستان والعراق، كما كان قد صرح بذلك وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، حيث قال في أول خطاب له عقب بدء الانسحاب الأميركي من أفغانستان: «الحروب التقليدية استنزفت وزارة الدفاع وقد ولى عهدها».
حقيقة؛ في البداية كان لدى الأمريكي تخوفٌ حقيقيٌ من توسع الحرب؛ ولذلك قام بإعادة الانتشار وبهذا الاستعراض للقوة -مارس ما يُعرف بسياسة «حافة الهاوية» – كما مارس في ذات الوقت مستوىً رهيبًا من الخداع والتضليل الاستراتيجي؛ لإبقاء الحرب تحت السيطرة.
وما كان الأمريكي ليسمح للاحتلال باقتراف كل هذه الجرائم، والظهور بكل هذه الوحشية، لو أنه رأى جدية الأطراف الأخرى بتوسيع الحرب، أو لو أنه وجد ردة فعلٍ إسلاميةً مكافئةً لجرائم العدو ولدعمه إياه؛ لكنه، عندما لم يجد شيئاً من ذلك، وجد الظرف مناسباً لإنهاء الملفات العالقة التي كانت مؤجلةً، فأعطى الاحتلال الضوء الأخضر، وقدم له كل ما يحتاج من الدعم، لإعادة ترتيب المنطقة وفق رؤيته، وليتفرغ هو بعد ذلك للصين.
بعض العلماء والنخب تصور أنه يمكن التأثير على مجريات الحرب، والدفع باتجاه توسعها، من خلال الثناء على إيران وعلى ميليشياتها، والاصطفاف معهم في الحرب!! إيران وميليشياتها، الذين لم يستجيبوا لنداءات حماس للمشاركة الجادة عندما كان الوقت مناسباً، ولم يدخلوا الحرب بالرغم من معرفتهم أن الدور سيأتي على الحزب، ولم يحولوها إلى حربٍ مفتوحةٍ مع الكيان بالرغم من كل الضربات التي تلقوها؛ هل سيستجيبون لأصحاب هذه الدعوات؟!! دولٌ وأحزاب وجماعات لديها ممارساتٌ سياسيةٌ طويلةٌ، وساسةٌ، واستخباراتٌ، وخبراء، وحلفاء، هل يمكن أن تبني سياساتها بناءً على توجيهات أصحاب هذه الدعوات!!
صراحة، أقل ما يمكن أن يُقال بحق أصحاب هذه الدعوات أن لديهم شعورًا مبالغًا فيه بذواتهم، وأن لديهم تصورًا ساذجًا لكيفية بناء الدول لسياساتها.
في الظروف الحالية، تكاد تكون الوسيلة الوحيدة التي يستطيع من خلالها علماءُ الأمة ونخبُها التأثير على مجريات الأحداث بشكلٍ جوهري، وإيقاف الإبادة الجماعية بحق أهلنا في غزة، وإفشال خطط ومشاريع الاحتلال الإجرامية والتوسعية، هي توجيه الضغط الرئيسي إلى الأمريكي، وليس إلى غيره، ولا حتى إلى الاحتلال؛ إذ الاحتلال مستعدٌ لتحمل العداوة كما أسلفنا، والأوروبيون تبع للأمريكي، أما الأمريكي فهو صاحب القرار، وهو غير مستعدٍ لتحمل العداوة والضغط؛ ولذلك يحاول أحياناً إخفاء دوره في الحرب، ويمارس كل هذا التضليل والخداع، ويعمل على منع توسع الحرب وعلى إبقائها تحت السيطرة.
وسقف الضغط على الأمريكي ينبغي أن يكون مفتوحاً، إذ هو يقود حرباً مفتوحة ضد الأمة، وإن حاول التعمية على ذلك؛ فيجب فضح دوره في هذه الحرب، وتوعية شعوب الأمة بهذا الدور الخبيث الذي يمارسه، وتحميله مسؤولية الجرائم التي يرتكبها الاحتلال، والقيام بحملاتٍ منظمةٍ لمقاطعة منتجاته، وتوجيه الدعوات لمظاهراتٍ حاشدةٍ أمام سفاراته ومصالحه، وإظهارُ أعلى درجات الغضب ضده، والتبيينُ للأمة بأن الأمريكي يقود حرباً مفتوحةً ضدها، وبالتالي يجب عليها الدفاع عن نفسها وعن مقدساتها بكل ما تستطيع أمامه، ويجب أن يتقدموا هم بأنفسهم الجموع، لا أن يكتفوا بالبيانات..
هذه تكاد تكون الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها إيقاف الإبادة الجماعية بحق إخواننا في غزة، ومخططات الإبادات في مناطق أخرى، وإفشال مشاريع التهجير، والتوسع، وتغيير دين وثقافة المنطقة؛ وعلماء الأمة ونخبها اليوم أمام مسؤولية كبيرة للتصدي لذلك وإفشال هذه المشاريع.