الأستاذ: غياث الحلبي
كانت الفرحة تغمره، والشعور بالنجاح يسيطر عليه، لقد تمكن أخيرًا من الوصول إلى منصب المدير في الشركة بعد سلسلة من المكائد والألاعيب والفخاخ التي نصبها لمديره السابق حتى تمكن من إزاحته أخيرًا ليحل مكانه.
همه الأول الآن هو المحافظة على النصر الذي حققه وهذا يستدعي تقريب من يضمن ولاءه وإقصاء من يستشعر منه اعتراضًا أو تسخطًا.
قال ناظم لنفسه: لقد كلفني هذا المنصب الكثير من الجهد والعمل وعلي المحافظة عليه بأي ثمن، والخطوة الأولى هي اختيار نائب لي لا يرى إلا ما أراه ولا يخرج عن أمري قِيد أنملة، يجب أن يكون ولاؤه تامًا وإخلاصه مطلقًا لي ليحمي ظهري من المتربصين بي وما أكثرهم اليوم فمنصبي كبير أُحسد عليه فعلًا.
وأخذ يستعرض في ذهنه الموظفين ليختار واحدًا منهم.
أنور: شابٌ نشيطٌ ومجدٌ ولكنه يناقش كثيرًا ويسأل كثيرًا ولذا يجب استبعاده فأنا لا أحب هذا الصنف إنه يجلب الصداع وأنا عنه مستغنٍ.
زيد: شابٌ مثقفٌ ويحمل شهادةً علميةً رفيعةً وذو خبرةٍ كبيرةٍ ولكنه صعب الانقياد ويحظى بشعبيةٍ كبيرةٍ داخل الشركة مما يؤهله لمنافستي وربما أطاح بي ولذا يجب إقصاؤه أيضًا.
خالد: شابٌ ذكيٌّ جدًا يأتي بأفكار رائدةٍ دائمًا تطور الشركة وتجعلها تسبق منافساتها غير أنه صموت وفيه انطوائية وبالتالي فهو غير مؤهل لترويج أفكاري والثناء على حسن سياستي وإلجام المعترضين.
باقل: موظفٌ ثرثارٌ جدًا، سليط اللسان، قليل الاهتمام بعمله، لا يحمل أي شهادةٍ علمية، وقحٌ، دماغه ينتج أطنانًا من الأفكار الغبية الحمقاء ومع ذلك لا يجد الحياء إلى وجهه سبيلًا، وهو دائم الثناء عليّ والمديح لأساليبي شديد المهاجمة لمن يشتَمّ منه رائحة اعتراضٍ أو حتى تشككٍ في حسن إدارتي، نعم إنه الشخص المناسب فمزاياه تستر عيوبه ولا أنسى ذلك اليوم الذي قال فيه في جمع من الموظفين: “لكل مدير كلب وأنا كلب ناظم”، نعم إنه الشخص المناسب ثم إنه ليس أنسب من الكلاب لهذا المنصب يكفيهم ما فيهم من الوفاء لأسيادهم.
وبعد عدة أيام أصدر ناظم قرارًا بتعيين باقل في منصب نائب المدير وذُهل الموظفون من هذا القرار، كيف يترك الأكفاء من أصحاب الخبرة ويسند هذا المنصب إلى أحد النوكى.
وسرعان ما بدأ باقل باتخاذ القرارات المائقة فقد طلب من قسم الإنتاج تقليل المواد الأولية في المنتوجات ليوفر بذلك على الشركة ملايين الدولارات، وصعق مسؤول قسم الإنتاج وهو يسمع هذا الكلام فأبدى اعتراضه إذ إن تقليل المواد يعني رداءة الإنتاج والشركات المنافسة كثيرة وهذا وإن جلب للشركة ملايين الدولارات لبضعة أشهر ولكنه سرعان ما سيؤدي إلى انهيار الشركة وإفلاسها عندما يكتشف الزبائن قلة الجودة ورداءة الصنع، ومع أن الكلام علميٌ وواقعيٌ إلا أن باقل أصر على تنفيذ رأيه وأخذ يثرثر كعادته بأمور لا علاقة لها بالموضوع غير أنها محشوة بمديح نفسه والحديث عن نجاحاته ولا رابط بينها ولا زمام لها ولا خطام ثم ختم حديثه الممل الطويل قائلًا: لقد سردت عليكم الحجج العلمية التي تجعل هذا القرار صائبًا لا شك فيه فعليكم أن تنشغلوا في أعمالكم ودعوا سياسة الشركة لأهلها.
وبعد أن خرج باقل قال أحد الموظفين: هل فهم أحد شيئًا يا شباب؟
فأجابه آخر: وَشِعْرٍ كَبَعْرِ الكَبْشِ فَرَّقَ بَيْنَهُ *** لِسَانُ دَعِيٍّ فِي القَرِيْضِ دَخِيْلِ
ـــ أيضًا لم أفهم
ــــ هذا أفضل
وفي اليوم التالي كان مسؤول الإنتاج قد قدم استقالته ورغم خبرته الواسعة وقِدَمِهِ في الشركة قبلت استقالته وخسرت الشركة أحد أعمدتها الثقيلة وسرعان ما تلقته الشركات المنافسة لتنزله المكانة اللائقة به.
وعقد باقل اجتماعًا في اليوم التالي لقبول الاستقالة ليعلن أن العناصر المشاغبة والتي تعرقل تقدم الشركة سيكون مصيرهم الطرد فلا حاجة لنا بالمعطلين، هناك الكثير من المنافسين ويجب أن نبذل قصارى جهودنا لنأتي في المرتبة الأولى دائمًا.
ثم زار باقل قسم الدعاية والإعلان وطلب منهم اختصار الإعلانات إلى النصف ليقلل النفقات ويختصر على الميزانية ملايين الدولارات وظن مسؤول قسم الدعاية أنه يمزح معه فأخذ في الضحك ولكنه رأى علامات الجد على وجهه فقال: المبيعات التي تسببها الدعايات تعوض نفقات الدعاية أضعافًا مضاعفة وتوقف الإعلانات سيؤدي إلى تكدس البضائع في المستودعات وسيعود بخسائر جمة على الشركة وأصر باقل على تنفيذ رأيه فاستقال مسؤول القسم لتتلقفه أحد الشركات المنافسة ويلقي بعدها باقل بيانًا كبيانه الأول فالشركة ستفصل كل من يعطل تقدمها الذي يحسدها عليه جميع الشركات المنافسة ويتمنون مجرد الاقتراب من نصفه.
ثم زار باقل قسم المبيعات ليأمرهم برفع أسعار البضائع لتزداد الأرباح ولما حاول مسؤول القسم إفهامه أن السوق تعاني كسادًا وأن الشركة بحاجة إلى تخفيض الأسعار لتتخلص من فائض منتوجاتها بدل تكديسها ودفع أجور تخزينها قام بفصله لينتقل إلى إحدى الشركات المنافسة ويلقي بعدها باقل بيانًا يثني فيه على حسن سياسة المدير في إدارة الشركة وأن العناصر التي تعيق ارتقاء الشركة مصيرها الفصل.
ثم زار باقل قسم الموارد البشرية وطلب من مسؤوله إلغاء الإجازات وزيادة ساعات الدوام لتحقيق مزيد من الإنتاج فسأله عن المبلغ الذي ستدفعه الشركة مقابل الساعة الإضافية.
أجابه: لا شيء طبعًا يجب أن نقدم للشركة دون مقابل فنحن نأكل من خيرها وهي الآن في محنة فلنتعاون حتى نتجاوزها
ـــ هذا شيء لا يقنع العمال
ـــ من لم يقتنع فليتفضل فالباب يخرج فيلا بدل الجمل
وازدادت ساعات العمل دون مقابل فاستقال أصحاب الخبرة والكفاءة من الشركة وبقي فيها من لا يجد خيارًا أفضل.
فأعلن باقل عن حاجة الشركة إلى عمال فتقدم الكثيرون وبعد المقابلة التي أجراها قسم الموارد البشرية قدم ترشيحاته لقبول بعض المتقدمين غير أن باقل ضرب بذلك عرض الحائط وقبل بدلًا عن ذلك أشخاصًا يعرفهم كان قد طلب منهم التقدم إلى الوظيفة وغصت الشركة بالموظفين الذين جاء بهم باقل.
ثم زار باقل قسم الموارد المالية فطلب منه تخفيض أجور العمال وفي الوقت نفسه صرف مكافآت مجزية للعمال الجدد الذين جاء بهم.
ومجددًا استقال عدد من الموظفين احتجاجًا على ذلك واستُقدم عدد آخر ليحلوا محلهم.
وهنا رأى باقل أن الطبخة قد نضجت فأعد تقريرًا عن تردي الأوضاع في الشركة وزوده بجداول إحصائية تبين فيه الخسائر التي لحقت بالشركة منذ تولى إدارتها ناظم كما زودها ببيان أعداد الموظفين الذين استقالوا منها احتجاجًا على سوء إدارته وفساده وقبح تعامله مع الزبائن مما أدى إلى انفضاضهم، كما أضاف إلى ذلك ملفات فساد تتعلق بتقليل المواد الأولية في المصنوعات مما أدى إلى كسادها وعزوف الزبائن عنها وبذلك صار التقرير جاهزًا لإرساله إلى مقر الشركة الرئيسي.
وضع باقل التقرير على طاولة مكتبه ثم خرج وأحلام استلام منصب المدير تلاعبه وفي اليوم التالي جاء الحاجب كعادته فوجد التقرير على المكتب فظن أن به أمرًا يجب أن يوقع من المدير أو نائبه فتوجه به إلى مكتب المدير قائلًا:
سيدي هذا يحتاج إلى توقيعك
أخذ ناظم التقرير وفتحه وكاد يجن وهو يقرأه لقد غدر به باقل وهو على وشك الإطاحة به،
ـــ يجب معالجة الأمر بأقصى سرعة، الوغد لقد دمر الشركة ثم نسب ذلك إليّ، ولكني أتحمل المسؤولية لقد أطلقت يده يفعل ما يشاء، ومع كثرة الشكايات التي رفعت إليّ إلا أني أعرضت عنها جميعًا وتجاهلتها، يجب علي الآن التخلص منه ثم أفكر بالأمر مليًا.
ولما قدم باقل إلى الشركة كان ناظم بانتظاره فأصدر أمرًا مباشرة بفصله وفصل عدد من الموظفين الذين جاء بهم وأعلن عن حاجة الشركة إلى موظفين وتم قبول أعداد منهم بسرعة لسد النقص واستدراك الخلل.
وبعد سعي حثيث عاد الهدوء والاستقرار نوعا ما إلى الشركة وأخذ ناظم يفكر بشخص ليجعله نائبًا له فقال في نفسه: أريد نائبًا لا يرى إلا ما أراه ولا يخرج عن أمري قِيد أنملة، يجب أن يكون ولاؤه تامًا وإخلاصه مطلقًا لي ليحمي ظهري من المتربصين بي وما أكثرهم اليوم فمنصبي كبير أُحسد عليه فعلًا.
ثم فتح المفكرة ليدون عليها بعض الأسماء ثم يختار أحدهم فوجد مكتوبا في أعلى الصفحة: قيل لحكيم: ما الجنون؟ فقال: أن تفعل الشيء نفسه مرتين وتنتظر نتائج مختلفة.
ولم يعن ذلك لناظم شيئًا واستمر يدون الأسماء ليختار أحدهم على المقاييس السابقة.