محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلة بلاغ العدد ٧٢ – ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

قال الله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].

قال الإمام السعدي في تفسيره [إلاّ تنصروه] أي النبيَّ صلى الله عليه وسلم «فقد نصره الله إذ» حين «أخرجه الذين كفروا» من مكة أي الجؤوه إلى الخروج لما أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه بدار الندوة «ثاني اثنين» حال أي أحد اثنين والآخر أبو بكر – المعنى نصره الله في مثل تلك الحالة فلا يخذله في غيرها – «إذ» بدل من إذ قبله «هما في الغار» نقب في جبل ثور «إذ» بدل ثان «يقول لصاحبه» أبي بكر وقد قال له لما رأى أقدام المشركين لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا «لا تحزن إن الله معنا» بنصره «فأنزل الله سكينته» طمأنينته «عليه» قيل على النبي * وقيل على أبي بكر «وأيَّده» أي النبي صلى الله عليه وسلم «بجنود لم تروها» ملائكة في الغار ومواطن قتاله «وجعل كلمة الذين كفروا» أي دعوة الشرك «السفلى» المغلوبة «وكلمة الله» أي كلمة الشهادة «هي العليا» الظاهرة الغالبة «والله عزيز» في ملكه «حكيم» في صنعه” انتهى كلامه رحمه الله.

قال الشيخ علي القرني حفظه الله في إحدى محاضراته يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّه رسول الله خير الخلق في طفولته، أطهر المطهرين في شبابه، أنجب البشرية في كهولته، إليه انقاد الشجر وعليه سلم الحجر، سمّاه ربي ذو الجلال محمداً وكفاه أنّ الله قد سمّاه وبالأفضال أولاه، وقد حنّ له الجزع كما أوحى له الربّ، فما زاغ له طرف ولا ران له قلب.

وقال الشيخ عبد العزيز الطريفي فرّج الله عنه: “إنّ حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من حرمة البشر، وأعظم من حرمة الكائنات الجامدة ولو كانت معظمة، وإنّ تشريف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه أعظم من تشريف البيت الحرام والكعبة”.

إِنَّ مِنَ الأُمُورِ المُقَرَّرَةِ الثَّابِتَةِ التِي لاَ مَجَالَ فِيهَا للشَّكِّ وَالرَّيبِ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِمَامُ المُتَّقِينَ، وَصَفْوَةُ الخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَأَفْضَلُ الأَنْبِيَاءِ وَخَاتَمُ المُرْسَلِينَ، صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ، وَاللِّوَاءِ المَعْقُودِ، وَالمَقَامِ المَحْمُودِ، وَالحَوْضِ المَوْرُودِ، أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ، وَيَشْفَعُ للخَلْقِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ المَوْعُودِ.

وَأَنَّ طَاعَتَهُ وَتَقْدِيرَهُ وَاحْتِرَامَهُ حَيًّا وَمِيِّتًا مِنْ أَعْظَمِ الوَاجِبَاتِ التِي لاَ يَتِمُّ إِيمَانُ العَبْدِ إِلاَّ بِهَا، وَأَنَّ مَحَبَّتَهُ وَالدِّفَاعَ عَنْهُ وَنُصْرَتَهُ وَفِدَاءَهُ بِالنَّفْسِ وَالمَالِ وَالأَهْلِ دِينٌ يَدِينُ بِهِ المُسْلِمُ للهِ تَعَالَى، وَأَنَّ كَرَاهِيَتَهُ وَبُغْضَهُ وَانْتِقَاصَهُ وَالاسْتِهْزَاءَ بِهِ وَبِدِينِهِ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى، تُوْجِبُ العُقُوبَةَ وَاللَّعْنَةَ، وَتُهْدِرُ دَمَ فَاعِلِهَا وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ، {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57].

وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

لَقَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ بِبِعْثَتِهِ -صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ، وَأَفْضَلَ الخَلِيقَةِ عَلَى الإِطْلاَقِ، وَاخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ، وَجَمَعَ لَهُ بَينَ الخُلَّةِ وَالتَّكْلِيمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ، وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا، وَأَعْلاَهُمْ قَدْرًا وَمَقَامًا، رَسُولاً للعَالَمِينَ أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

لَقَدِ اسْتَقَرَّتْ مَحَبَّتُهُ -صلى الله عليه وسلم- فِي النُّفُوسِ، وَأَجَلَّتْهُ القُلُوبُ، وَشَهِدَ بِعَدْلِهِ وَصِدْقِهِ وَفَضْلِهِ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ، وَالعَدُّو وَالصَّدِيقُ، وَلاَ يَزَالُ أَتْبَاعُهُ فِي ازْدِيَادٍ، وَذِكْرُهُ خَالِدًا، إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، تَهْتِفُ بِهِ أَعْوَادُ المَآذن كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ.

وَمَعَ مَكَانَتِهِ العَالِيَةِ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَنْزِلَتِهِ الرَّفِيعَةِ، وَأَخْلاَقِهِ الحَمِيدَةِ، وَفَضَائِلِهِ العَظِيمَةِ التِي زَكَّاهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ، وَأَثْبَتَهَا لَهُ قَبْلَ النَّاسِ، وَشَهِدَ بِهَا عُقَلاَءُ البَشَرِ وَمُثَقَّفُوهُمْ حَتَّى مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الكُفْرِ وَالمِلَلِ الأُخْرَى قَبْلَ البِعْثَةِ وَبَعْدَهَا، إِلاَّ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْلَمْ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالأَذَى، وَالاعْتِدَاءِ وَالشَّتْمِ، وَالتَّنَقُّصِ وَالتَّهَكُّمِ، منْذُ بِعْثَتِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَإِلَى هَذِهِ الأَيَّامِ، شَأْنُهُ شَأْن إِخْوَانِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ الذِينَ كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ تَعَالَى، وَصَدَقَ اللهُ العَظِيمُ حِينَ قَالَ: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [يس:30].

وَلاَ يَزَالُ أسلوب الفِرَى وَالأَكَاذِيبِ وَتَلْفِيقِ التُّهَمِ بِجَنَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَالاسْتِهْزَاءِ بِهِ مُسْتَمِرًّا، مِنْذُ بَدَأَهُ الكُفَّارُ وَالمُشْرِكُونَ إِبَّانَ البِعْثَةِ وَإِلَى هَذِهِ الأَيَّامِ؛ وَصَفُوهُ -صلى الله عليه وسلم- بِالجُنُونِ وَالسِّحْر، وَالكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ؛ وَلَمَزُوهُ فِي عِرْضِهِ، وَغَمَزُوهُ فِي أَهْلِهِ وَنَفْسِهِ، وَضَعُوا سَلَى الجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يُصَلِّي، وَأَدْمَوا عَقِبَهُ الشَّرِيفَ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ الكَرِيمَ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَهُ، وَأَغْرَوا بِهِ السُّفَهَاءَ يَسُبُّونَهُ وَيُؤْذُونَهُ، وَيَنَالُونَ مِنْ عِرْضِهِ وَحُقُوقِهِ، وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا مِنْ قَتْلِهِ وَالتَّنْكِيلِ بِهِ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ.

وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ حِمَايَةَ نَبِيِّهِ الكَرِيمِ، وَالدِّفَاعَ عَنْهُ، وَحِفْظَهُ وَنُصْرَتَهُ، وَخُذْلاَنَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ، وَإِهْلاَكَهُ، وَخُسْرَانَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ؛ وَهَذَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى شَاهِدٌ فِي آيَاتٍ كَثِيرَاتٍ تُتْلَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]، {إِنَّا كَفَينَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95]، {إِنَّا أَعْطَينَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر].

وَهَذِهِ وُعُودٌ ثَابِتَةٌ صَادِقَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَن لاَّ يَضُرَّهُ المُسْتَهْزِئُونَ، وَأَنْ يَكْفِيَهُ إِيَّاهُمْ بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ العُقُوبَةِ؛ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَهْدًا وَقِيلاً وَنُصْرَةً وَمَقْدِرَةً؟!

وَهَذَا هُوَ التَّأْرِيخُ بِعِبَرِهِ وَأَحْدَاثِهِ، وَهُوَ شَاهِدٌ لاَ يَكْذِبُ، فَإِنَّهُ مَا تَظَاهَرَ أَحَدٌ بِمُعَادَاةِ رَسُولِ الهُدَى -صلى الله عليه وسلم-، وَالاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَهْلَكَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَذَلَّهُ، وَخَذَلَهُ، وَأَمَاتَهُ شَرَّ مِيتَةٍ، وَبَتَرَ نَسْلَهُ وَقَطَعَهُ.

 

أَينَ أَبُو لَهَبٍ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَالوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ، وَالعَاصِي بنُ وَائِلٍ، وَصَنَادِيدُ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ الذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم – فَاسْتَهْزَؤوا بِهِ، وَنَاصَبُوهُ العِدَاءَ؟! وَأَينَ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالمُنَافِقُونَ الذِينَ حَارَبُوهُ -صلى الله عليه وسلم- وَكَذَّبُوهُ، وَطَعَنُوا فِي عِرْضِهِ وَأَهْلِهِ، وَاسْتَهْزَؤُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ وَدِينِهِ؟! بَلْ أَينَ الأَكَاسِرَةُ وَالقَيَاصِرَةُ وَأَعْدَاؤُهُ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَرِّ العُصُورِ؟! هَلْ بَقِي لَهُمْ نَسْلٌ وَعَقِبٌ وَذِكْرٌ؟! كَلاَّ وَاللهِ، لَقَدْ هَلَكُوا جَمِيعًا، وَقُتِلُوا شَرَّ قِتْلَةٍ، وَقَطَعَ اللهُ نَسْلَهُمْ، وَطَمَرَتْهُمُ الأَرْضُ، وَلَحِقَتْهُمُ اللَّعْنَةُ، وَبَاؤُوا بِثِقْلِ التَّبِعَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ، وَبَقِي ذِكْرُهُ -صلى الله عليه وسلم- عَلَمًا شَامِخًا، وَعَقِبُهُ مُتَتَابِعًا مَذْكُوَرًا، وَسِيرَتُهُ مَنْبَعًا ثَرًّا للمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَيهَقِيُّ وَغَيرُهُمَا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا كَفَينَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}، قَالَ: المُسْتَهْزِئُونَ: الوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ، وَالأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالأَسْوَدُ بنُ المُطَّلِبِ، وَالحَارِثُ بنُ غَيطَلَةَ السَّهْمِيُّ، وَالعَاصٍي بنُ وَائِلٍ؛ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَشَكَاهُمْ إِلَيهِ -صلى الله عليه وسلم- -بَعْدَمَا نَالَهُ مِنْهُمْ أَذًى عَظِيمٌ-، فَقَالَ: أَرِنِي إِيَّاهُمْ، فَأَرَاهُ إِيَّاهُمْ، وَجِبْرِيلُ يُشِيرُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ، وَيَقُولُ: كَفَيتُكَهُ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “مَا صَنَعْتَ شَيئًا”.

فَمَا هِي إِلاَّ أَيَّامٌ حَتَّى مَرَّ الوَلِيدُ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلاً، فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَنَزَلَ تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ، أَلاَ تَدْفَعُونَ عَنِّي؟! قَدْ هَلَكْتُ وَطُعِنْتُ بِالشَّوْكِ فِي عَينَيَّ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيئًا، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلكَ حَتَّى عَمِيَتْ عَينَاهُ، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثٍ، فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الحَارِثُ فَأَخَذَهُ المَاءُ الأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خَرْؤُهُ مِنْ فِيهِ، فَمَاتَ مِنْهُ، وَأَمَّا العَاصِي فَرَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ، فَرَبَضَ عَلَى شِبْرِقَةٍ، فَدَخَلَ مِنْ أَخْمَصِ قَدِمِهِ شَوْكَةٌ، فَقَتَلَتْهُ.

وَهَا هُو كِسْرَى يُمَزِّقُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَيَسْخَرُ مِنْهُ وَمِنْ رَسُولِهِ، فَيَدْعُو عَلَيهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُمَزِّقَ اللهُ مُلْكَهُ، فَيُمَزَّقُ، وَيُقْتَلُ عَلَى يَدِ وَلَدِهِ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيهِ!

وَعِنْدَ البُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: “كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا، فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ، فَأَمَاتَهُ اللهُ، فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ؛ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؛ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ”.

قَالَ شَيخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: “فَهَذَا المَلْعُونُ الذِي قَدِ افْتَرَى عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ لاَ يَدْرِي إِلاَّ مَا كَتَبَ لَهُ، قَصَمَهُ اللهُ وَفَضَحَهُ، بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنَ القَبْرِ بَعْدَ أَنْ دُفِنَ مِرَارًا، وَهَذَا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ العَادَةِ، يَدُلُّ كُلَّ أَحَدٍ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ عُقُوبَةً لِمَا قَالَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا”.

إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِينَ والفرق الباطنية كالدروز والروافض والنصيري، قَوْمٌ بُهْتٌ خَوَنَةٌ، نَقَضَةٌ للعُهُودِ، قَتَلَةٌ للأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَعْدَاءٌ للهِ تَعَالَى وَلِرُسُلِهِ وَدِينِهِ وَالمُؤْمِنِينَ، وَمَا فِي ذَلِكَ شَكٌّ وَلاَ رَيبٌ؛ فَقَدْ سَبُّوا اللهَ تَعَالَى سَبًّا قَبِيحًا، وَنَسَبُوا إِلَيهِ مِنَ الصِّفَاتِ القَبِيحَةِ مَا يَتَوَرَّعُ عَنْهُ عُقَلاَءُ البَشَرِ جَمِيعًا وَيَتَنَزَّهُون عَنْهُ؛ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَحَارَبُوهُمْ، وَكَذَّبُوهُمْ، وَآَذَوْهُمْ، وَرَمَوْهُمْ بِالنَّقَائِصِ وَالقَبَائِحِ، وَنَسَبُوا إِلَيهِم مِنَ البُهْتَانِ وَالفَوَاحِشِ مَا تَعُجُّ بِهِ كُتُبُ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ المُحَرَّفَةِ التِي بِأَيدِيهِمْ.

قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]،

وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120].

وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].

وَقَدْ قَطَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ مِنْذُ بُعِثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى عَدَاوَةِ الإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ وَالرَّسُولِ مَا عَاشُوا، فِي حَمَلاَتٍ شَعْوَاءَ مُتَتَابِعَةٍ، لاَ يَنْتَهِي مُسَلْسَلُهَا مِنَ العِدَاءِ وَالحِقْدِ وَالاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- وَالإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ بَينَ الفَينَةِ وَالأُخْرَى،  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].

يَتَطَاوَلُونَ عَلَى جَنَابِ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- الرَّفِيعِ، وَدِينِهِ الحَنِيفِ، بِطَرِيقَةٍ هَمَجِيَّةٍ قَبِيحَةٍ، تُؤَجِّجُ الفِتَنَ، وَتَزْرَعُ الكَرَاهِيَةَ، وَتُنَمِّي الأَحْقَادَ، وَتُذْكِي العَدَاوَةَ بَينَ الشُّعُوبِ.

وَمَعَ اسْتِنْكَارِ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا فِي العَالَمِ بِأَسْرِهِ لِهَذِهِ الإساءة لجناب المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- وَمُطَالَبَتِهِمْ بِمُعَاقَبَةِ أَهْلِهَا وَالاعْتِذَارِ لَهَا، إِلاَّ أَنَّ عُبَّادَ الصَّلِيبِ وَالطَّاغُوتِ وعملائهم من الفرق الباطنية يُصِرُّونَ عَلَى حِقْدِهِمْ، قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَشَتَّتَ شَمْلَهُمْ، وَأَدَالَ دَوْلَتَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.

وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ بَشَّرَ قَوْمَهُ فِي الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ عَلَيهِم بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَخَذَ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ المِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].

 

وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ؛ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»، وَعِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي».

وَلأَجْلِ هَذَا كَانَ مِنْ أَرْكَانِ الإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ عَقِيدَةِ الإِسْلاَمِ العَظِيمَةِ الإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ عَلَيهِمُ السَّلاَمُ، وَمَحَبَّتُهُمْ، وَاحْتِرَامُهُمْ، وَعَدَمُ التَّفْرِيقِ بَينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَينَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:150-152].

أَلاَ فلْيَحْذَر المعتدون والمتربصون بالرسول صلى الله عليه وسلم سُنَنَ اللهِ فِي المُسْتَهْزِئِينَ بِدِينِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ عليهم الصلاة والسلام.

إِنَّهُ لَيسَ لَدَى المُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ رَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَدِينِهِمْ، وَإِنَّ حُبَّهُ وَالدِّفَاعَ عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم- لَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُفَاخِرُ بِهِ المُسْلِمُونَ وَيَتَسَابَقُونَ إِلَيهِ، وَإِنَّ الوَاجِبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَادِقٍ فِي إِسْلاَمِهِ وَإِيمَانِهِ أَنْ يَفْدِيَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِكُلِّ مَا لَدَيهِ مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَمَالٍ، بَلْ حَتَّى بِنَفْسِهِ التِي بَينَ جَنْبَيهِ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم.

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].

اللهم أكرمنا بالدفاع عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم والدفاع عن دينك وسنته الشريفة.

 

وليعلم كلّ مسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بحاجةٍ للدفاع عنه، بل كل مسلم بحاجة للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليثبت إيمانه وولائه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

 

اللهم استخدمنا في طاعتك ومحابك ومرضاتك والدفاع عن نبيك ودينك وكتابك وأنبيائك.

 

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، والحمد لله رب العالمين. 

Exit mobile version