مجدُ المنافق (1) – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٢٨ – صفر ١٤٤٣ هـ

الأستاذ: غياث الحلبي

في الزمن البعيد الغابر ومن خلف الجبل الشاهقة والبحار العميقة كانت هناك بضع ممالك صغيرة يتوسطها مملكة هي أزهاها وأهمها وأكثرها تقدما وحضارة، يحكمها ملك جليل نشر العدل في أرجاء مملكته فعمها الأمان والسلام.

في تلك المملكة لا يقدر شريف أن يحيف على ضعيف، ولا يجرؤ قوي على ظلم من هو أدنى منه، ولا يخطر على بال صاحب منصب أن يستغل منصبه لمصالحه الشخصية وأهوائه النفسية.

كان أصحاب المناصب في تلك المملكة يعتبرون أنفسهم خدما لشعب المملكة، وموظفين عندهم، والمنصب مغرم لا بد من التعاون على حمله، وليس بقرة حلوبا يستأثر أفراد بخيرها، ويحرم عامة الشعب منه.

كان يقف خلف الملك وزير صدق، إن ذكر الملك أعانه، وإن نسي ذكَّره، وقد ورث هذا الوزير هذا المنصب عن آبائه كابرا عن كابر، كما ورث الْمَلك الْمُلك عن آبائه كابرا عن كابر؛ لذلك كان الوزير يحسن سياسة الدولة وخدمة الملك أيما إحسان، وقد تعلم من أبيه عبارة جعلها نصب عينيه كما أوصاه بذلك أبوه، وهي: “لا يجتمع حظ النفس ومصلحة المملكة إلا كما يجتمع الماء والنار، فأمت حظ نفسك لتحيا مصالح المملكة“، وقد انتفع بذلك الوزير في سياسته أعظم الانتفاع، فكان إذا أشار على الملك تجرد من حظ نفسه فأصابت شوراه عين الصواب.

وعندما رقد والد الوزير على فراش الموت أوصى ولده قائلا: “اعلم يا بني أنه لا أضر على الملك ولا أسوأ أثرا عليه من المنافق؛ لأنه جعل بوصلته هوى الملك لا نصيحته ومصلحته، فهو يحسِّن القبيح ويقبح الحسن، ويجعل الظلم عدلا والعدل ضعفا، والغي رشدا والرشد عجزا، والهوى حكمة والحكمة خنوعا، والحمق عقلا والعقل حمقا، والإسراف والتبذير كرما والاقتصاد شحا وبخلا، والإسراع في سفك الدماء حزما والتعفف عنها خورا، وما من فضيلة يرغب عنها إلا جعلها نقيصة، فاحذر أن تكونه، وجرد النصح للملك ولو كان في ذلك السيف؛ فإنك أن تموت لقولك الحق خير من أن تعيش لقولك الباطل” ثم مات.

عمل الوزير بنصيحة والده، فلم يكن يشير على الملك إلا بما يجده حقا ولو خالف هواه، ولم يكن يجد في ذلك مشقة؛ لعقل الملك وثقته بوزيره، حتى حضر أمر خطير جلل، فقد نزل الموت بالملك، ولم يكن لديه إلا ولد شاب منهمك في لذاته مقبل على شهواته، وقد أخفقت جميع محاولات أبيه لإصلاحه، وسيؤول الملك إلى هذا الشاب الطائش الذي قد يودي بالمملكة بحمقه وتهالكه على الزعامة وشدة رغبته فيها واستعداده لفعل أي شيء للوصول إليها ثم البقاء فيها.

استدعى الملك وهو على فراش الموت وزيره المخلص ليستشيره، فأقبل وهو في حيرة من أمره، أيقره على استخلاف ابنه الأحمق فيخونه ويخون الأمانة، أم ينهاه عن ذلك فيُتهم بالسعي لنيل الملك والوصاية على الملك الجديد، وهو بريء من هذه التهمة البراءة كلها.

فلما دخل على الملك سلم عليه ثم جلس عند رأسه، وقال: فديتك أيها الملك.

– نظر الملك إليه، وقال: لقد نزل بي ما لا بد نازل بكل أحد، ودنت ساعة مماتي، وعما قليل سأفارق دنياكم هذه، وقد أهمني شأن الرعية من بعدي، فماذا ترى؟

– إن حقك واجب علي أيها الملك، ولقد أمضيت وآبائي أعمارنا في طاعتكم وخدمتكم ولن أخون الأمانة التي طوقتم بها عنقي، ابنك يا مولاي لا يصلح للمُلك وليس أهلا له.

– أعلم ذلك أيها الوزير النصوح، ولذلك أردت استشارتك، أأترك الناس فوضى يقتتلون بعدي على الملك، أم أوصي بالملك إلى غيره، وهذا لن يرضيه وسيؤدي إلى حرب داخلية تأكل الأخضر واليابس.

– اعهد بالملك إلى غيره، واجعل له الولاية من بعده، فإما أن ينصلح حاله وإما أن يموت قبلها، وإما أن يعزل.

– هذا لن يرضيه، سيكون هو الملك من بعدي، غير أني سأوصيه وصية شديدة بطاعتك وعدم الخروج عن مشورتك، فعسى أن يرشد بذلك.

– ثم استدعى الملك ابنه، وقال له: يا بني إنني في لحظات عمري الأخيرة، ولست بحاجة إلى مداراتك بالخطاب، والوقت لا يتسع لذلك، يا بني إنك مقدم على الملك، ولست له بكفء، وهو أمانة عظيمة، ويا خيبة من لم يقم بحقها، يا بني إنك متهالك على الزعامة راغب فيها، وهي والله لخصلة ذميمة، غير أني أوصيك بوصية إذا حفظتها رشدت ودام لك الملك حياتك، شاور الوزير في عظائم أمورك ولا تخرجن عن رأيه أبدا، فقد خبرته طوال مدة حكمي فوجدته صادقا أمينا ممحضا النصح لنا حريصا على نفع المملكة.

ثم مات الملك، ونصب ابنه ملكا من بعده، فارتدى ثياب الملك، ووضع التاج على رأسه، وأمسك الصولجان بيده.

* في المملكة المجاورة كان يعيش شاب طموح يطمح أن يحصل على المجد، والمجد عنده هو المال والجاه والشهرة بغض النظر عن طريق الوصول إلى ذلك، وكان دائم التحدث في المجالس عن المجد الذي يسعى إليه، فكان أبوه يعاتبه على ذلك، ويذكر له قول أبي الطيب:

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

 

يا بني لن تحصل على المجد بدون عمل، المجد لا ينال بالأماني، لا بد أن تسلك طرقا محفوفة بالمصاعب والمخاطر، السماء لا تمطر مجدا ينهمر على رؤوس العاطلين وأصحاب الأماني، هاك سير من تسنموا ذرى المجد، لقد ركبوا المشاق وعبروا فيافي الشدائد وتسلقوا جبال الأهوال حتى بلغوا قمة المجد.

كان الشاب يتضايق من نصائح والده التي تخالف أحلامه وأمانيه، فهو يريد الوصول إلى المجد على أكف الراحة ويأبى ركوب مطايا المشاق وعبور فيافي الشدائد وتسلق جبال الأهوال، فما له ولهذه الأمور.

وذات يوم دخل هذا الشاب مكتبة عامة وأخذ يقلب طرفه في رفوفها وينقل بصره من كتاب إلى آخر، حتى وقع بصره على مخطوطة قديمة تحمل عنوانا غريبا جدا، كان عنوانها “بلوغ القصد في نصائح إبليس لارتقاء المجد“، تناول الشاب المخطوطة وفتح صفحتها الأولى فرأى مكتوبا فيها: “جزء يرويه أبو الضلال عن ابن الشرير عن شيخ الزنادقة كفار بن جاحد عن فاجر بن الفاجري عن الفويسق الظلامي عن المنافق بن المجرم عن إمام أهل النار أبي مرة إبليس الرجيم عليه لعائن الله تترى إلى يوم الدين“.

قلب الصفحة فوجد مكتوبا: “جلس أبو مرة إبليس في نفر من أصحابه فقال: أخبروني عن أسهل طريق للوصول إلى اللذائذ.

فانبرى شيطان، وقال: السرقة والربا والرشوة، فإذا حصلت على المال كانت الشهوات تبعا له يجتبي ما يشاء من لذائذها، أأصبت يا إمام أهل النار؟

– أما السرقة، فيُقبض على السارق فتقطع يده، فأي لذة هذه تلك التي تؤدي إلى فقدان عضو جعل الله فيه نصف دية النفس، وأما الرشوة فيُشعر به عما قريب فيرمى في السجن، والسجن أخو القبر، وأما الربا فإن المرابي يحتقره الصغير والكبير، ولا يزال يسمع من هذا وذاك ما يكره، لا خير في هذا الطريق.

فقام مارد شرير، وقال: النساء النساء، يا أبا مرة، يتمتع بهن ويقضي وطره ويرمي غلة شهواته.

– ثم يفضي الأمر به إلى الجلد والتغريب أو الرجم، أي لذة هذه؟

فنهض عفريت، وقال: كلاهما أخطأ والصواب عندي يا أبا مرة.

– هات لنرى.

إنها الخمر يغلق عليه باب وينادي ساقيه ويقول:

ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر

ولا تسقني سرا إن أمكن الجهر

 فيطرب ويرى نفسه ملكا فوق الملوك.

– ثم يصحو ولا يجد في يده شيئا مما كان يخيل إليه سوى الحدث في ثيابه، ثم ينكشف أمره فيجلد على رؤوس الأشهاد فتلحقه فضيحة تدخل معه قبره.

وفي أخريات المجلس شيطان صغير كان مترددا أيدلي برأيه أم لا، فلمحه إبليس وقال: لا تتردد يا فتى، فلن نعدم منك صوابا نتبعه أو زيفا فنحذر منه ونجتنبه.

– إنه القتل أن يقتل المرء خصمه الذي طالما أرهقه وضايقه.

– لا زلت صغيرا فعلا يا شيطوني الصغير، يبدو أنك تحتاج كثيرا حتى تحنكك التجارب، وهل بعد القتل إلا القتل.

هنا صاحت الشياطين المحتشدة في المجلس، قد قلنا ما عندنا فعلمنا يا إمام أهل النار.

فتبسم إبليس ثم قال: إنه نفاق الملوك والحكام، فمن تهيأ له أن يكون منافقا لحاكم أو ملك فقد تسنم بذلك ذروة المجد وأتيح له أن يفعل ما يحلو له دون خوف العاقبة، فهو يقتل خصومه بسيف الملك؛ لأنهم أعداء الدولة، ويسرق من مال الأمة ما شاء لمصلحة الأمة وتلبية مطالبها، ويمضي لياليه بين الكأس والغيد الحسان ولا يجرؤ أحد على انتقاده أو محاسبته، أوليس هو المنافح عن الملك المبين لعبقريته وحكمته ودهائه وذكائه وسعة أفقه ودقة نظره وحصيف آرائه ورجيح أفكاره؟ فمن آذاه فقد آذى الملك، ومن أسخطه فقد أسخط الملك، ومن أزعجه فقد أزعج الملك؛ لذا فالكل ملتمس رضاه ومسارع في هواه.

فأخذ المجلس الشيطاني في التصفير والتصفيق استحسانا لما قاله أبو مرة، ثم انصرفوا شاكرين مذعنين له بالتقدم والإمامة لأهل الشر والضلال”.

* لم يشعر الشاب إلا وقد وصل إلى نهاية المخطوطة وقد كتب في آخرها: “ونسخه انتهازي بن نفعي، وقرأه عليه في مجلس واحد وأجازه به أبو السفاح مجرم بن لئيم الملقب بقليل الأصل“.

أخذ الشاب يحدث نفسه: هذا هو الطريق السهل للوصول إلى المجد، لعن الله إبليس ما أشد دهاءه، غدا سأرحل إلى المملكة المجاورة فقد تربع على عرشها ملك طائش يسهل خداعه بالكذب والنفاق ومعسول الكلام لأتبوأ أرفع مراتب المجد دون أن أضطر إلى لعق صبر أبي الطيب المتنبي، سأبلغ المجد وأنا آكل اللحوم وأشرب العصائر وأنام على الفراش الوثير وأجمع الأموال وأتقلب في النعيم.

ثم سأجعل من تجربتي الناجحة حاشية على حسن القصد وأنشرها بعنوان: “إيفاء الوعد بشرح حسن القصد في نصائح إبليس لارتقاء ذرى المجد“.

وبما أني سأحسِّن للملك كل ما يحب ويهوى فلتكن كنيتي من الآن: “أبا تحسين التحسيني”، ومضى يغذ السير نحو المملكة المجاورة وأحلام اليقظة تداعب مخيلته، فعما قريب سيغدو ثريا وجيها مشهورا، لا تُرد له كلمة ولا يعصى له أمر.

يتبع.

لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا 

لقراءة مقالات مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا 

Exit mobile version