الأستاذ: أبو يحيى الشامي
بسمِ الله، الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسولِ الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إنه لمن الصعبِ جداً إيصالُ الفكرةِ الصحيحةِ الدقيقةِ والإقناعِ بها، في عالمٍ غلبت عليه الدِّعائيةُ وفوضى وسائلِ التواصلِ ومنصاتُ ترويجِ وتداولِ “البروباغندا”، لكن لا بد من السعي المتواصل في الدفاع عن الأساسيات وتثبيتها، لكي تبقى معالمُ الطريق وصفاتُه، يستدلُّ بها السالكون، فيستمسكون بطريقِ الحقِّ، لا يتفلتون منه، ولا يتشبثون بطرق الضلالةِ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وللثبات يجب أن تكون المنطلقاتُ ثابتةً نابعةً من اعتقادٍ جازمٍ، لا مصلحةً عابرةً أو عاطفةً طارئة، بل يجب دائماً أن تكون المصلحةُ والعاطفة تبعاً للعقيدة وفي خدمتها وتحت حكمها، فلا يتغير الحكم والتعاطي مع الأحداث وأشخاصها بتغيُّرِ المصالح المحصورة أو الموهومة، ولا بتبدل العواطف غير المنضبطة، والقانون المفروض من الله يفصِل ويحكم؛
فــ {تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [النساء:61].
أثار بعض المتصدرين للحديث في شأن الأمّة العامِّ لَغَطاً حول الفرح بهلاك بعض عتاة المحور الرافضي الصفوي الباطني، الذي يتمسَّحُ ويتزيَّا بنصرة القضية الفلسطينية، قليلٌ منهم من احتج بالسياسة وواجبِ الوقت مع إقراره بالاختلاف العقدي وتخطيه لواقع الاعتداء والاحتلال، وكثيرٌ منهم لم يُولِ العقيدة اهتماماً، ودعا إلى التعاطف مع محور إيران وأذرعها وأحزابها، من باب الإسلام الواسع وحقوق المسلم على المسلم وما إلى ذلك.
ومع الردود التي عُنِيَتْ ببيانِ شرعيَّةِ الفرح بهلاك الظالمين عموماً سواء كانوا كافرين أو من أكابر الظالمين المسلمين، وسردِ الأدلة المعروفة، أذكِّر أن هناك نهياً إلهياً في القرآن الكريم عن هؤلاء الباطنيين المعتدين تحققت أسبابه كلُّها، فلا يحِلُّ لنا أن نتعاطف معهم، ولا أن نُعينهم أو نستعين بهم، ولا أن نصِلَهُم إلا بالحرب التي أذن بها الله ضدَّهم، ويُكللها بالنصر بفضله، عند تحقق أسبابه.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9]، هذه القاعدةُ الشرعيةُ الواضحةُ ننطلق منها ليستبين خطأ “النُّخَبِ” الذين دعوا إلى التعاطف والتقارب مع حزب إيران اللبناني ومحورِ إيرانَ الصفوي الباطني، وألفتُ عناية القارئ المهتم إلى أسباب تهافُتِ هؤلاء “النُّخَبِ”، بعرض نقاطٍ هامَّةٍ:
أولاً: أساسُ العداءِ بيننا وبين الحلفِ الباطني عقديٌّ، لا هو سياسيٌّ ولا مصلحيٌّ:
إن القاعدة الشرعية التي انطلقنا منها أعلاه واضحةٌ، وإن هؤلاء القومَ قاتلونا في الدين علناً رغم باطنيّتهم وما ينهجونه من تقيَّةٍ، فهم على مَرِّ التاريخ يعمَدون إليها حال ضعفهم، ويعلنون عداءهم للإسلام والمسلمين ويفعلونَه حال قوتهم، ولقد أعلنوا كُفريَّاتهم عندما نهضت لهم دول، كما حدث مع العُبيديين (الفاطميين) والقرامطة والبُويهيين والصَّفويين، وأعلنوه صارخين اليوم مع انتفاشةِ إيرانَ ومحورها، ولقد خرج زعيمُ حزب إيران اللبناني كي يعلنها حرباً دينية على الإسلام عندما أرسل جنوده ليقاتلوا ضد أهل الشام المسلمين، معلنين كفرياتهم وشركهم، رافعين راياتهم، محتجين بحماية المقامات المزعومة التي يحجون إليها ويشركون عندها.
ولقد أخطأ من لم ينطلق من حقيقة أن هؤلاء القوم طائفةٌ كافرةٌ بالله أعلن عالموها ومقدموها وعامّتها كفرهم بكتاب الله، فقالوا أنه محرفٌ، وأنكروا آيات تبرأة أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها، واتهموا عرض النبي صلى الله وسبوا ولعنوا زوجاته، وكفروا ولعنوا سائر أصحابه إلا قليلاً نادراً منهم، وأنكروا السُّنةَ وافتروا من الأحاديث ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، وأشركوا أئمتهم بالألوهية والربوبية، وجعلوا مراقد أئمتهم أقدس من بيت الله الحرام، وكفَّروا المسلمين عامةً إلا من اعتقد اعتقادهم أو داهنهم فداهنوه، وكفرياتٍ أخرى تبنَّتها هذه الطائفة وأيدت أقوال أشهر معمميها المعروفين بكفرهم وعدائهم للإسلام والمسلمين، كالكُلَيني والقُمِّي والطبرَسي.
ولقد كفّرهم من علماء الأمة أبو حنيفة، والبخاري، والإسفَراييني، والقاضي عِياض، وأبو حامد الغزالي، وابن تيمية، وابن كثير، وابن حزم الظاهري، وابن باز، وابن عثيمين، والحويني، وغيرهم -رحمهم الله- … وقال البخاري -رحمه الله- في كتاب خلق أفعال العباد (ص 125): “ما أُبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يُسلَّم عليهم، ولا يُعادُون، ولا يناكَحون، ولا يُشهدون ولا تؤكل ذبائحهم” انتهى، لا يُعادون: لا يُزارون، عاد من العيادة أي الزيارة، لا يُشهدون: لا تُشهد جنائزهم.
والتفصيل في شأن العامَّةِ المقلدِّين لعرضهم على ضابط العذر بالجهل، فهذا عند الحكم على المُعَيَّن لا الطائفة المُمتَنِعةِ المُتَمالئةِ المحاربة، كما أنه فيما لا يَسهُل تبيِّنُه من العامي المقلِّد الذي أصبحَ يُناكِف المسلمينَ وعلماءَهم على وسائل التواصل، يسب دين المسلمين وينقضُ أسُسَه التي يحاججونه بها، ويعلن كُفريَّات طائفته أكثر من مُعمَّميها ومُقَدَّميها الذين يخفونها أحياناً لمصلحة يرونها وخديعة يدبرونها، وقد قال ابن تيمية – رحمه الله- في كتابه بغية المرتاد (ص:353): “ثبوت التكفير في حق الشخص المُعيَّن موقوفٌ على قيام الحُجة التي يكفر تاركها” انتهى، وإن هؤلاء قد أعلنوا الكفر بحجة الحجج وأصل الدين، القرآن والسنة، وقال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (11/ 407): “كثيرٌ من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثيرٌ من علوم النبوَّات حتى لا يبقى مَن يُبلِّغ ما بعث اللهُ به رسولَه من الكتاب والحِكمة، فلا يعلم كثيرًا مما يبعث اللهُ به رسولَه، ولا يكون هناك مَن يُبلِّغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة؛ فإنه لا يُحكَم بكفره حتى يُعرَّف ما جاء به الرسول” انتهى، فالعذر بالجهل ليس على إطلاقه، وإلا ليشمل أفراد الأديان والطوائف الكافرة والباطنية وجنودها، الذين يعرفون الإسلام وأركانه وبنيانه فيعرضون ويسعون في هدمه!، وإلا فلماذا لا يُعذر عامة اليهود والنصارى والوثنيين إذا دُعيت طائفتهم فأبت الإسلام؟!.
فمن هنا حتى لو لم يكن بيننا وبين القوم حروبٌ ودماءٌ، قديمةٌ وحديثةٌ، إنَّا برآءٌ منهم ومما يعبدون من دون الله كفرنا بهم وبدا بيننا وبينهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده، فهل بدأناهم بقتالٍ أو أذيةٍ يوماً؟
ثانياً: محور إيران الباطني قاتلونا في الدين وأخرجونا من ديارنا وظاهروا على إخراجنا:
كلُّ العداواتِ قد تُرجى مودتها *** إلا مودةَ من عاداك في الدِّينِ
لم يُسجِّل التاريخ أن المسلمين بدأوا طائفةً باطنيةً بقتال، بل إن الزَّنادقةَ الباطنيين يجمعون جموعهم ويمكرون مكرهم ويغدرون بالمسلمين، فينهض خيار مجاهدي الأمة أصحابُ العقيدة السليمة والفهم الصحيح لقتالهم ودفع خطرهم، كما حصل لرافضة جبل عاملة وكسروان أجداد الحزب الرافضي في لبنان عندما تعاونوا مع الصليبيين والتتار ضد المسلمين، فقتلوا وسبوا من المسلمين، فنهض المسلمون وفيهم شيخ الإسلام ابن تيمية فدفعوهم واستأصلوا شأفتهم.
وفي هذا الزمان رأى الجميع كيف غدر حلف إيران بثورات الربيع العربي والإسلامي، ودمروا أربعة بلدانٍ عربيةٍ مسلمةٍ، وفي سوريا تهيؤوا لمحاربة ثورتها حتى قبل أن تقوم، فلقد أعلنها الهالك زعيم حزب إيران اللبناني في لقائه مع الصحفي بن جدو، أن قاسم سليماني أخبره بخوفه من امتداد الربيع العربي من تونس ومصر إلى سوريا، وأنهم يجب أن يتجهزوا لمنع ذلك حفاظاً على “محور المقاومة” المزعوم، ثم كان ما خططوا له، فتدخلوا ضد الثورة، وأعلنوا أن طريقَ القدس يمر فوق دماء وأشلاء السوريين.
وأكثر من ذلك أكد الهالك ذاته أن قاسم سليماني ذهب إلى روسيا لكي يقنع قيادتها بالدخول في الحرب ضد الثورة السورية، وقال إن الدور الأكبر في هذا الإقناع كان لسليماني الهالك الرافضي، ثم ظاهروا الروس في سوريا على قتل وإخراج المسلمين الشاميين من ديارهم، كما ظاهروا الأمريكان في العراق على قتل وإخراج المسلمين العراقيين بحجة داعش وغيرها، وفي الحقيقة دعموا وجود داعش لتكون ذريعة استئصالٍ للمسلمين.
فيأتي هؤلاء “النُّخَبْ” يدعون إلى تناسي هذه الأفعال التي لا تُنسى، وهي مستمرةٌ إلى الآن وما بعده حتى يَمُنَّ الله على عباده بالنصر والتمكين، مستمرةٌ في العراق والتفاهمات مع الأمريكي ضد المسلمين موجودةٌ، وسجون الرافضة مليئةٌ بالمسلمين يُعدَمُ منهم أعدادٌ كبيرةٌ دورياً، ومستمرةٌ في سوريا مع الروس والنصيرية، وأهل الشام مهجرون من ديارهم، يُقصفون بقذائف وصواريخ الحقد الباطني، ومستمرة في لبنان حيث لا يكفُّ الحزب الرافضي عن استبداده وإجرامه بذريعة “المقاومة” المنخورة المهترئة، ومستمرةٌ في اليمن بجماعة الحوثي التي تقوم بدورها في حرب مسلمي اليمن، ومستمرةٌ في تهديد دولٍ أخرى ومحاولة مد أذرعٍ فيها، وقتل أهل السنة في إيران ذاتها على قدمٍ وساقٍ منذ قرون.
ثالثاً: محور إيران الباطني أخطر من غيره على الإسلام والمسلمين:
عند المقارنة بين عداء الملل الكافرة للمسلمين تحكم الآية: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، وفي الواقع يرى المسلم عداءَ اليهودِ والهندوس والصينيين والصليبيين والباطنيين، ويرى المُطِّلعُ البصير أن الباطنيين أخطرُ هؤلاء الأعداءِ إن هم تمكنوا من شوكة.
وأول ما يدل على خطورة الطوائفِ الباطنية هذه الفتنةُ التي وقع فيها شيوخٌ ومثقفونَ، وأوقعوا فيها ممن يتابعهم من عامة المسلمين الكثير، بسبب خداع هذا الطوائف وغدرها، فها هو خامنئي مرشد الحلف الباطني يصرح أن الجبهة الحسينية مستمرة ضد الجبهة اليزيدية (يقصد أهل السنة)، وبعدها بمدةٍ قصيرةٍ يقول أن على الأمة الإسلامية أن تتضامن للانتصار على عدوها (قاله بعد الضربات التي تلقاها من الصهاينة)، وفي الطبِّ يُعرف أن الفيروسَ الذي يهاجمُ الجسد من الداخل ويستنسخ نفسه في خلايا الجسدِ ذاته، أخطر من أي شيء يهاجم الجسدَ من خارجه، وإن حصان طروادة الذي تسلل فيه عشراتٌ إليها أخطر من جيوش الإغريق التي حاصرتها عشر سنين، وإن ابن العلقمي أخطر من جيوش هولاكو.
كما أن هذه الطوائفَ دأبُها الدائبُ وشغلها الشاغل مهاجمةُ الإسلام مكراً وغدراً للقضاء عليه وتحويل أهله إلى القبور أو إلى اعتقاد معتقداتهم، وهذا واضحٌ جليٌّ في حملات “التَّشيُّع” التي يقودها المحور الإيراني في المسلمين، بالترغيب والترهيب.
أما الجرائم، فقد رآها العالم كله، وشهد القاصي والداني أنها أبشعُ وأفظع من جرائم يهودَ في فلسطين، فلقد استعمل المحور الرافضي الذبح بالسكاكين والتقطيع بالسواطير، والخنق بالكيماوي، واغتصاب الإناث والذكور، ودفن المسلمين وهم أحياء، ودهسهم بالدبابات، وغيرها من جرائمَ في الحُولة والغوطةِ وحلبَ وكل سوريا، ويليها العراق واليمن ولبنان، والجرائم مستمرةٌ لم تتوقف.
وواضحٌ تماماً أن هذا الحلف الخبيث الذي يتخذ معاداة الصهاينة دثاراً، يضرب مائة سهمٍ صائبٍ على المسلمين، ليرمي بالكاد سهماً خائباً على الكافرين، فشغلهم الشاغل هدمُ الإسلام وقتل أهله، وتصريحاتهم عندما انتفشوا أنهم سيحتلون حتى مكة والمدينة موجودةٌ مشهورةٌ منتشرةٌ، ولئن حدد الصهاينة طموحهم الاحتلالي بإسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، فحدود طموح الرافضة كل بلاد الإسلام وكل المسلمين أينما كانوا.
والأخطر وسبب انتفاش هذا الحلف هو تراخي الغرب معه عندما رأوا فيه مربط احتواءٍ وإلهاءٍ يُقيد المسلمين ويشغلهم عن التصدي للصهاينة، فالولايات المتحدة التي سمحت لإيران أن تحكم العراق، سمحت لها أن تتمدد في لبنان وسوريا واليمن، لضرب أهل المقاومة الصادقين وإعطاءِ ذريعةٍ لزعماء الدول العربية الخائنين أن يرتموا في حضن الصهاينة هرباً من الصفوية.
وعند المقارنة بين طرح وحدة الأديان (الديانة الإبراهيمية) الذي طرحه الصهاينة، وطرح وحدة المذاهب الذي طرحه الصفوية ومن يروج لهم، رأينا كيف فشل طرح وحدة الأديان لأنه طرحٌ خارجيٌّ تصدى له الكثيرون ولم تُعره الشعوب المسلمة اهتماماً لاستحالة تنفيذه، ومرَّ طرحُ وحدة المذاهب بسهولةٍ ليقول أحد المثقفين: “اليوم تنصهر المذاهب فلا يبقى إلا مذهبين، إما أن تكون مع المقاومة أو مع الصهاينة”، وتناقل هذه العبارةَ الكثير من المفتونين، وخطورته تكمن في اعتبارِ الباطنية مذهباً من المذاهب التي انصهرت بزعمهم، واحتكارِ حلف الباطنية للمقاومة وإقناع الناس أنها لا تكون إلا معهم، وبالتالي اتهامِ واستهداف كل مقاومٍ غيرهم، بفحوى ومعنى (من ليس معنا فهو ضدنا).
رابعاً: دعوة هؤلاء “النُّخَبِ” فيها إضعافُ وتجزيءُ الولاء والبراء:
بينما المحور الباطني يدعو إلى وحدة الساحات من وجهة نظره ولتحقيق مصلحته في السيطرة على هذه “الساحات” سياسياً وعقدياً، يتابعه بعض “النُّخَب” في ذلك، ويطلبون من المسلمين نسيان جراحهم النازفة وبلدانهم المحتلة للتعاون مع العدو الصفوي المحتل ضد العدو الصهيوني المحتل!، وفي الوقت ذاته ليبرروا ويمرروا هذه الدعوة يدعون إلى عزلِ الساحات بالنسبة للمسلمين، وإضعافِ وتجزيء الولاء والبراء.
فمثلاً قدّم “نائل مصران” الفلسطيني الغزي قاعدة انفكاك الجهة وهي قاعدةٌ أصوليّةٌ لا تنزل في هذا المقام العقدي، لكي يدعو إلى فكِّ حكم التعامل مع حلف الباطنية المعتدي في سوريا عن حكم التعامل معه في لبنان وفلسطين، رغم أن هذه المسألة عقديةٌ، متعلقةٌ بالولاء والبراء ذي الحكمِ العامِّ الذي يشمل كل الأمة بلا استثناء لا ينفك ولا يتجزأ، وفي حال الاضطرار تقدر الضرورة بقدرها بغير ابتغاءٍ ولا تَعَدٍّ، ومن باب السياسة وتقدير المصلحة والمفسدة المحكوم بالعقيدة لا المُتحكِّمِ بها، فلا يجوز للفلسطيني أن يوالي باطنياً أساساً، فكيف إن كان هذا الباطني يقتل ويهجِّر إخوانه في سورياً، والعكس بالعكس، لا يجوز للسوري أن يوالي يهودياً أساساً، فكيف إن كان هذا اليهودي يقتل ويهجِّرُ إخوانه في فلسطين، ولا يجوز لهما أن يواليا هندوسياً أو كافراً صينياً، ولا تنفك الجهات هنا بحالٍ من الأحوال.
أما “محمد إلهامي” المصري، فبعد أن قال بإسلام الرافضة هؤلاء مستنداً إلى تفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية بشأن الحكم على العامة الجاهلين المقلدين، (وقد كان ذلك في زمانٍ لم يجاهر هؤلاء العامة ويتحدَّون بالكفريات الواضحة الصريحة كما بينا أعلاه)، قال إلهامي: “سنقاتل إيران حين تقاتلنا، لكن في النهاية لمَّا تبقى المصلحة أن إيران تقاتل إسرائيل، فينبغي أن نكون في هذه المعركة صفاً واحداً مع إيران ومع حزب الله إذا أمكن.. أما وأنه غير ممكن بلاش ناكل بعض خلينا متفاهمين” انتهى.
وهذا الكلام له معنيين، الأول: هو تجزيء الولاء والبراء بحيث لا يكترث إلهامي و”المتفرجون” بدماء المسلمين وأسراهم وديارهم المحتلة في سوريا والعراق واليمن ولبنان وحتى داخل إيران… وغيرها، والمعنى الثاني: عدم اعتبار إلهامي إيرانَ في حالة قتالٍ وقتلٍ مستمرٍ للمسلمين، وهي تحتل أربع دول عربيةٍ مسلمةٍ بمباركةٍ غربية، على ألا تمس بالكيان الغاصب، وتكيد لاحتلال دول أخرى، فهذا أعجب من المعنى الأول والواقع فاقعٌ أمام الأعين صارخ في الآذان، وسكين المحور الباطني الذي يتهارش مع الصهاينة ما زال على أعناق المسلمين.
ثم ألم ير هؤلاء أن أهل سوريا لم يستعينوا بالصهاينة ضد حلف الباطنية، وهو أداة الصهاينة في محاربة الثورة إذ سمحوا له بالتمدد لمحاربة من يصدقُ في حرب الصهاينة ويرعبهم، فلو أذعن السوريون للصهاينة لكان تغير الواقع، لكنهم لم يذعنوا، وهذا واضحٌ للمطلع البصير، فلقد تحمل أهل الشام كلَّ ما لاقوه وثبتوا على عدائهم للصهاينة كُرمى لدينهم وإخوانهم في فلسطين، وعدائهم للصين -لو عن بعد- كرمى للأويغور، ولبورما كرمى لأراكان، ولإثيوبيا كرمى للصومال، وهكذا… لكنهم انشغلوا بقتال من يليهم، ولو استطاعوا لنصروا كل مستنصر.
خامساً: نظرة هؤلاء “النُّخَبِ” المادية سببُ فتنتهم:
إن سبب التيه والفتنة التي وَلَجَها متصدرون محسوبون على تيارٍ إسلاميٍّ إصلاحيٍّ، سببه النظرة المادية للواقع والفاعلين فيه، بينما المأمور به هو النظرةُ الشرعية المنضبطة بالأدلة والفهم الصحيح، وهذه ليست تهمةً ولا انتقاصاً منهم، فلا أقصد هنا انتفاعهم الشخصي، رغم أنه موجودٌ معروفٌ عند بعض الشخصيات، لكن أقصد نظرتهم المادية لوزن القوى واختيارها والاصطفاف معها، من باب السياسة غير المنضبطة، أي أنها غير شرعية.
فمثلاً؛ عندما انتفش نظام صدام حسين في العراق، وغزا الكويت وهدد دولاً أخرى، نظر أبناء ذات التيار إلى الواقع الذي لن يختاروا فيه العدو الصهيوصليبي، فاختار بعضهم تأييد صدام حسين ولو كان على باطلٍ من جهة الحكم العلماني والظلم المستطير والحروب العبثية، ولم يختاروا موقفاً وسطاً أو لم يختاروا الوقوف مع المعتدى عليه متبرئين من الحلف الغربي.
وكذا فعل البعض عندما اختاروا تأييد تنظيم داعش والفرح بإنجازاته والدعوة إلى التقارب معه وهو يرفع الصوت بتكفير المسلمين وسيوفه تقطر من دماء خيرة المجاهدين، هذه الدعوة إلى داعش أعلنها “الإعلامي أحمد زيدان” في تغريداتٍ موجودة، وهو مثالٌ صارخٌ بهذه المادية إلى الآن، فلقد اختار الجولانيَّ المجرمَ لأنه يسيطر على مساحةٍ قهرَ أهلها وسلب سلاحها واحتكره، وفرض حكومةً وضرائب وسجوناً، فلا يتصور الدكتور زيدان أن يكون صمودٌ وتحريرٌ إلا بالجولاني، فلذلك يختاره ويتجهم المظلومين الضعفاء من خصومه ويتهمهم.
وهذا ما اختاره أشخاص آخرون لذات السبب، منهم “الشيخ الحسن بن علي الكتاني” المعجب بحكومة الجولاني وإنجازاته المادية، وأحمد مولانا الذي بدأ بشن هجمات على خصوم الجولاني، ولذات السبب والنظرة المادية قال (محمد إلهامي): “إن اغتيال زعيم حزب إيران اللبناني انتصار للصهاينة يساوي أو يزيد في قيمته العسكرية والسياسية والمعنوية عن اغتيال قادة مقاومة سابقين مثل ياسين والرنتيسي والقسام وعبد القادر الحسيني… وذلك أن منظمته أقوى من منظماتهم، وأن شخصيته كانت طاغية ومؤثرة على منظمته ربما بأكثر من طغيان شخصيات هؤلاء على حركاتهم” انتهى.
إنها نظرةٌ ماديةٌ غيرُ قِيميةٍ ولا شرعيةٍ غلبت على هؤلاء الذين تكلموا يوماً ما عن النصر الإلهي، الذي يتنزل على القلة الصابرة المحتسبة الملتزمة التي أعدت ما استطاعت من قوةٍ حلالٍ، وفيما كان يحب أن ينتفعوا وينفعوا غيرهم من تثبيت هذه الفكرة، انقلبوا عليها في الاختبار العملي، فهل يقبلون أن ينخدع غيرهم للسيسي ويخدع الناس به؟!.. أم يقبل “أحمد مولانا” أن يصفه أحدٌ أنه هاربٌ من السيسي الذي يحكم مصر ويعمر فيها القصور وينجز البهارج، ويجمّدها كما جمّد الجولاني إدلب وبالتالي الثورة السورية!!، هذا مثالٌ عن النظرة المادية التي تختار الظالم القادر على بناء الصروح وهدم الشعوب.
فماذا لو كان هؤلاء في زمن العبيديين الذين اجتاحوا المغرب ومصر ثم الشام، هل كانوا سيخطِّئون أبا بكر النابلسي -رحمه الله-، الذي أقامه جوهر الصقلي لأبي تميمٍ المُعِزّ، فقال له: “بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم، وجب أن يرمي في الروم سهماً، وفينا تسعة!، قال: ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم، وجب أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الالهية”، فأمر بإشهاره وجلده، ثم جلده حياً، تقبله الله في الشهداء..، وهل كانوا سيختارون الحجاج أقوى عاملٍ في الدولة الأموية ويلومون سعيد بن جبير، أو يطلبون تأييد أبي مسلم الخراساني لأنه أقوى رجل في دولة بني العباس، أو ينصرون أمير المعتزلة المعتصم صاحب فتح عمورية على إمام أهل السنة المضيق عليه أحمد -رحمه الله-، أو يدعون توحيد الجهود لقتال المغول والتتار تحت أمر وبسياسة ابن العلقمي؟!..
فهل تغني وتنفع قوة ومادة إيران وحلفها ومن على شاكلتهم من طغاةٍ متجبرين؟
سادساً: قوةُ الباطلِ المادية لا تنفع الحق وأهله:
يظن المخدوعون أن ما حازه محور الرافضة على عين الغرب من سيطرةٍ وسلاحٍ يغني أو ينفع أهل الحق، بينما الواقع أن الطغاة يستعملون قوتهم في تثبيت نفوذهم والبحث عن مكاسبَ سهلةٍ مدعومةٍ من العدو، ويَعِدون بما يحرك عواطف وتطلعات “الجماهير” لخداعهم واستعمالهم، فالآن وبعد عام من انطلاق معركة طوفان الأقصى، ماذا قدم حلف إيران في معركة التحرير التي لطالما بشَّر وتغنى بها؟!
إيران رفعت شعار: “توحيد الساحات” وشعار: “خلُّوا بيننا وبين الصهاينة”، حتى لم يبق بينهم وبين الصهاينة ذراع، في جنوب لبنان والجولان، لكنهم التفوا يريدون دخول الأردن، وباعوا غزة وأهلها ثم لبنان وأهله عندما دهمهم العدو، وبرروا الخذلان لأتباعهم بالمحافظة على مشروع الرَّدع النووي، وهذا وهمٌ ينطلي على الجاهل والمنتفع، فلا إيران تستطيع امتلاك السلاح النووي، ولا تستطيع استعماله، فالنووي سلاح ردعٍ وتدميرٍ وليس سلاح نصرٍ وتحرير، وغيرها فيه أسبق وأقدر.
وبالمشابهة نتذكر كيف دعا الدواعش الناس لمبايعة خليفتهم والانضواء تحت دولتهم، وسحبوا السلاح من أهل السنة المسلمين، ورفعوا شعار: “خلُّوا بيننا وبين النُّصيريَّة”، وعندما التحموا بالنُّصيريَّة شرق حمص وحماة لم نر من بأسهم الموعود إلا القليل في تدمر وانسحبوا، ولم يتابعوا التَّوغُّلَ في مناطق سيطرة النظام المجرم كما فعلوا وبسرعةٍ مذهلةٍ في مناطق أهل السنة، ثم زالت قوتهم لأنها ليست في سبيل الله، واستباح الأعداء بذريعتهم أهل السنة في ديارهم.
وبالمشابهة نذكر مما رأينا وسمعنا الجولاني الذي خدع بعض الناس برفع شعارات التحرير، بدأها من روما وتراجع إلى القدس ثم دمشق ثم حلب، والآن عندما لاحت فرصة انشغال الأعداء ببعضهم تنشر بعض قنواته الإعلامية أن المعركة ليست سهلةً، وللمفارقة فإن هؤلاء “النُّخَب” أيَّد عددٌ منهم الجولاني وأعلنوا الإعجاب بإنجازاته المادية ودعوا إلى نسيان جرائمه والإذعان له، كالإذعان للحلف الرافضي المحتل أثناء وبحجة تهارشه مع الصهاينة.
سابعاً: انعدام التأثير الإصلاحي لهؤلاء “النُّخَب”:
في الغالب تتدخَّل المساعي “الإصلاحية” بين الظالم والمظلوم لتَجنَفَ على المظلوم وتطلب منه التنازل عن حقوقه أو الإذعان للظالم، فإن سمعنا قولَ ونصحَ هؤلاء “النُّخبِ”، وطلبنا منهم أن يكلموا الحلف الباطني ليخرج من سوريا ويكفَّ عن قتال أهلها المسلمين، ويوقف جرائمه في العراق واليمن، أو على الأقل نُخصِّص الحزب الرافضي في لبنان ليطلبوا منه إخراج أسرى أهل السنة من السجون وإعادة حقوقهم، ورفع يده التي تحتكر البلد وتضيق على أهله، هل سيقبل منهم، ويفعل ذلك إسعافاً لنفسه، وجمعاً للكلمة -كما يقولون- ضد العدو الذي لا يميز بين رافضيٍّ ومسلم!، هم يعلمون ويصرِّحونَ أنه لن يفعل، بل لا تأثير لهم عليه أساساً في ذلك، و هذا كفيلٌ بدحضِ ما يدَّعون، ودفع ما يدعون إليه.
ويحضر سؤال آخر مهم جداً: هل استطاعوا دفع إيران وحزبها في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن إلى الدخول الفعلي في الحرب ضدَّ الصهاينة خلال سنةٍ كاملةٍ من القتال والقتل في غزة، وهي سنةٌ من الخذلان باسم جبهة دعمٍ وإسنادٍ؟!.. لا ولن يستطيعوا التدخل في هذا، ونظام الملالي في طهران يستغل كل المذكورين!، وهذا المحور يرى أرض المسلمين التي استولى عليها -خاصةً في سوريا- مزرعةً له، ومكسباً أكبر من تحرير الأرض الفلسطينية، لذلك لن ينشغل بحرب الصهاينة اليهود، وهو يعادي المسلمين أكثر مما يعاديهم.
وبالمثل ولكي نشمل كل الطغاة بغض النظر عن انتسابهم الديني، لا ولن يستطيع الداعون إلى التطبيع مع الصهاينة ضمانهم ومنع جرائمهم وانقلابهم على كل العهود والمواثيق، وأقرب من ذلك، لم يستطع الداعون إلى التقارب مع البغدادي أو الجولاني التأثير عليهم وحجزهم عن طغيانهم…
هذا الطرح في الغالب مرفوضٌ منهم لأنهم يرون استحالته، ومع ذلك يمضون في طروحاتهم التقريبية الظالمة سواء رافقها تميِيعٌ عقديٌّ أو تضليلٌ فكريٌّ.
نذكر “الشيخ أبا قتادة الفلسطيني” مثالاً على هذا، فبعد أن تدخَّل ليدعو إلى الجولاني ومن معه، صمت عن جرائمهم وتعطيلهم الجهاد، وملاحقتهم وتسليمهم المجاهدين، فلا يتكلم في هذا الشأن، فالتأثير السهل والمرجو عادةً يكون على المظلوم لصالح الظالم وليس العكس.
ثامناً: حالة الرُّكونِ صفةٌ جامعةٌ لهؤلاء “النُّخَب”:
هو ركونٌ إلى الذين ظلموا نوعاً ما وبنسبةٍ ما، من خلال التَّخيُّر بين الشُّرورِ المتعددة من باب السياسة، لكن كما ذكرنا بغير ضبطٍ عقديٍّ وبغير عملٍ وتأثيرٍ إصلاحي، أو بالسكوت عن حالاتٍ معينةٍ لمصلحةٍ ربما تكون النوع الثاني من الركون، وهو إلى حالة الاستقرار الشخصي.
عندنا مثالٌ عن صاحب موقفٍ متوازنٍ، نسأل الله أن يتقبل منه ويحفظه ويثبته، وهو الشيخ مجدي المغربي الغزي، هو في غزة الآن يقاسي ويعاني مع أهلها، ويقف علناً ضد الحلف الباطني ويحذِّرُ منه ويبيِّنُ كذب نصرته للمسلمين أو للقضية الفلسطينية، وبالمثل المشايخ والكوادر المجاهدون في ساحاتٍ وأماكن أخرى، هداهم الله سُبُلَ الرَّشادِ فوزنوا الأمور بميزانها الصحيح، وحكموا انطلاقاً مما يجاهدون في سبيله.
أما “النخب” الداعية إلى التقارب مع محور الرافضة ففي الغالب يعيشون في حالة استقرارٍ في البلدان التي هم فيها، ركنوا إلى هذه الحالة فيتكلمون فيما لا يؤثر عليها وعليهم فيها، كما أنهم لم يصطلوا بنار من يدعون إلى التقارب معهم ليكون حكمهم العاطفي واقعياً، طالما أنهم لا ينضبطون بالعقيدةِ والشَّريعةِ في أحكامهم ودعواتهم.
دعاؤهم للبلدان التي يعيشون فيها: {رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [البقرة:126]، من يعيش في الأردن لا يذكر أحوال الأردن بشيء، ومن يذكرها فضمن حدود المسموح، فإن دعا الأمة أن تثور على حكامها لأجل نصرة غزة، لا يذكر الأردن ولا يلمح، وكذا الذي يعيش في تركيا فيما يتعلق بها، وكذا الذي يعيش في بلدان أخرى!.
وبينما هم يدعون إلى الخلطة غير المتجانسة بين القاتل والضحية ويُنظِّرون من مكانٍ مستقر، يسأل المجاهدون اللهَ أن تتحرك كل الجبهات وتتحرر كل الطاقات المقيدة الكامنة لمواجهة العدوين المتعاونين ضد المسلمين المُتضادَّين على المصالح والنفوذ، ولن تتوحد جهود الصادقين في الأمة طالما بقيت مرابط الاحتواء التي صنعها النظام الدولي لضمان الاستقرار السلبي قائمة.
تاسعاً: القضيَّةُ الفلسطينية ليست ميزانَ العدالة ولا أساس التَّصنيف، لكنها جزءٌ مهم:
يتهمون أهل الشام والعراق واليمن المجاهدين بأنهم “أصحابُ قراءةٍ متسرعةٍ مشوبةٍ بالعاطفة”، هذا ما قاله الدكتور عصام البشير السوداني، والعكس هو الصحيح، فأحد منطلقاتِ هؤلاء “النُّخَبِ” هو الانحيازُ العاطفيُّ الآنيُّ، الذي يتناسى الماضي ولا ينظر في المآلات، فهم ينظرون بعينٍ واحدةٍ لمدًى قصيرٍ، وبذلك يكون عامةُ أهل الشامِ والعراقِ واليمنِ أكثرَ وعياً وموضوعيةً وحرصاً على الأمةِ وقضاياها، فنظرهم شرعيٌّ موضوعيٌّ واقعيٌّ.
ولئن كان عندَ هؤلاء “النُّخَبِ” عاطفةٌ، فكتابهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم وأمهاتُ المؤمنين والرعيلُ الأول من المسلمين أولى بعاطفتهم من قضية ثورة الشام وقضية فلسطين، فهؤلاء الأعداء الصهيوصليبيين إن سبوا الدين وهددوا أهله وتوعدوهم مرةً فمقابلها ألفُ مرةٍ من الرافضةِ الباطنيةِ، الذين يلهجون ويلهثون بذلك في الليل والنهار، إن نحملْ عليهم أو نتركْهم، وهم أداةٌ يسبحون ويطيشون فيما يسمح لهم، فكيف إن تمكنوا أكثر؟!
لقد عذرنا حماس عندما اضطُرَّت إليهم، ولُمنا قادتها عندما تمادوا في مدح قادة جيوشِ الباطنيَّةِ المعتدين، فذلك منهيٌّ عنه شرعاً ولا يحقق السياسة الشرعية المنضبطة، ولقد أدت سياسةُ حماس التي تخطَّت الضوابط بالتوازي مع خذلانِ الدول العربية والإسلامية إلى هذه الفتنة التي نتحدث عنها.
عاشراً: تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ ودعوةِ خير:
هذه الواقعيَّةُ السياسيَّةُ التي انتهجها البعض وتحولت مع الوقت إلى واقعةٍ ماديةٍ واهمةٍ، يمكنُ الخروج منها بالعودة إلى القانون المشترك الملزم الذي ندَّعِي وتدَّعِي هذه النُّخَبُ الالتزام به، وهو ذاتُهُ الذي لا يمكن أن يلتزم به الحلف الباطني الذي يدعون إلى التقارب معهم وتوَليه، فهو كافرٌ به أساساً، أما هؤلاء النخب وقد علمنا حرصهم على هذا القانون ومن خلاله مصلحة الأمة، فيمكن التفاهم معهم وإبرام اتفاقٍ انطلاقاً منه.
لا تلازم بين الشهادة بكفر الكافر وقتاله، فالقتال لغايةِ حمايةِ الدعوةِ والدفع عن المسلمين، وفي حال الحلف الباطني الصائل فقتاله واجبٌ على كل مسلمٍ، وفي حالة الاضطرار السياسي فقد عذرنا الفصائل الفلسطينية إذ أخذوا الدعم من هذا الحلف لصد عدوٍ صائلٍ آخرَ أقرب إليهم أخطر عليهم، فلو كانت دعوة النُّخَبِ هذه إلى أن يعذرَ المسلمون بعضهم فيما اضطروا إليه بغير تولٍّ للحلف الصهيوصليبي أو الحلف الباطني، لكانت دعوةً مقبولةُ، ولو كانت الدعوة أن ينشغلَ المسلمون في الإعدادِ لمواجهةِ المنتصرِ من هذين الحلفين، لكانت الدعوةُ أوفقَ وأكثرَ قبولاً.
فرحُ المسلمين بهلاك من هلكَ من الحلفين العدوَّين متوازنٌ لا يُعابُ، ولقد فرحَ أعدادٌ كبيرةٌ من الفلسطينيين واللبنانيين بالضربات التي تلقاها حلف الباطنية الذي جمع بين قتلهم بحجة المقاومة وإضعافهم وتفتيتهم فخدم العدو الصهيونيَّ، وإنهم والسوريين والعراقيين واليمنيين وسائرَ المبصرين لا يُهوِّنون من خطر الصهاينة الذين يهدفون إلى تفتيت المنطقة إلى “كيانات غوييم” ضعيفةٍ ليست محيطةً بالكيان المحتل فقط بل تحته وخادمةً له، وهذا موجودٌ في “خطة ينون” أو “خطة كيفونيم” التي كتبها “عوديد ينون” مستشار “أرييل شارون” عند اجتياح لبنان 1982، والخطة مستمدةٌ من تعاليم التوراة والتلمود، وتقضي بتفتيتِ واحتلال الشام والعراق ومصر وشمال الجزيرة، فسكانها كما يقول التلمود: حيواناتٌ في صورة إنسان.
هذا التفتيت حققه لهم الحلفُ الباطنيُّ الموظِّف للأقلياتِ الطائفية، وساهم تنظيم داعش وساهم الجولاني في تحقيقه، عبر اجتياح مناطق السنة، وسلب مقوِّمات القوة، واستعداء العالم ثم الانكفاء في مخابئ، أو منطقةٍ محاصرةٍ حرصَ الحلف الصهيوصليبي أن تكون بعيدةً عن الكيان المحتل، بينما الحلف الباطني يهجِّر أهل السنة المسلمين من سائر سورية أو يفتنهم في دينهم.
لذلك على هؤلاء النُّخَبِ التَّخفيف من حِدَّتهم، فالشعوب المسلمة تمتلك الوعي والمناعة ضد الحلفين المعاديَين، ولا يستطيع أحد الحلفين اختراق الأمة إلا عن طريق دعاةٍ يخدمونه بتوظيفٍ أو تطوِّعٍ، والأمة تعي أن هذا المحور الباطني خنجرٌ في خاصرة الأمة كخنجر أبي لؤلؤة المجوسي الذي يعظمه الرافضة… فصبراً، فكما خَذَلَ هذا الحلفُ المختَرَقُ الهزيلُ غزةَ ثم خذلَ لبنانَ ولم يدخل في حربٍ حقيقةٍ مع الصهاينة، لن يستغني عنه الصهاينة كأداةٍ وذريعةٍ لتدميرِ المنطقة، وهم يقبلون منه الإذعان وسيُذعن لهم، وسيخذل ويُخزي الملالي من دعا للتقارب معهم، فهم يخذلون من نزل تحتهم وفي الوقت ذاته يقتلون من لم ينزل.
في الختام أقدِّم طرحاً فيه ردٌ عمَلِيٌّ بدعوةٍ خير من دعوةِ هؤلاء النُّخَب، ويمكن أن نتعاون معهم فيها فتكون منطلقاً إصلاحياً جامعاً، أقربَ إلى الحقِّ وأهله، وإلى أسبابِ الصمود في وجه الأعداءِ المحتلين وبالتالي النصرِ والتَّمكينِ، وهي دعوةٌ إلى التَّقاربِ لكن ليس مع الحلف الباطنيِّ، بل دعوةُ المفتونين من أتباعه إلى التوبةِ مما هم فيه من نقضٍ للعقيدةِ ونبذٍ للشريعةِ وعداءٍ للإسلامِ والمسلمين.
وطالما أن الأمة على الإسلام والسنة، وهي الأكثرُ عدداً وانتشاراً والأطولُ عمراً والأضمنُ والأحسنُ عاقبةً، مهما تتالت وتمَطَّت الابتلاءات، والأمة هي الأصدقُ جهاداً والأثبتُ والأقدرُ على التحرير، فعلى الحريصين أن يدعوا إلى هذا الحق المبين، فإنها فرصةٌ دعويَّةٌ سانحةٌ لإنقاذ هؤلاء المفتونين في ساعةِ صدمةِ الحقائقِ وانكشافِ الوهم، وإن القانون الذي أنزله الله يحكم بيننا جميعاً، فإن أبوا وتولَّوا فإننا نقول ما أمرنا ربُّنا جلَّ وعلا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، والحمد لله رب العالمين.
لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا