الأستاذ: أبو يحيى الشامي
يومُ الحسابِ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111]، يومٌ عصيبٌ وموقفٌ عظيمٌ، تتلاشى فيه الأوهام، وتُدحَضُ فيه الحجج، ويزول فيه الغبش، وتظهر فيه الحقائق، ماذا فعلت فيما خُوِّلتَ وأُمرتَ يا عبدالله؟!، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94].
في هذه الحياة الدنيا يستطيع الإنسان التملص من واجباته بإلقاء اللَّومِ على غيرهِ من أفرادٍ أو جماعاتٍ أو دولٍ، وقد يدَّعي طاعةَ وليِّ أمره فيما أمر، مما يخالفُ أمر الله عز وجل، ويجدُ له الأدلةَ التي لا علاقة لها بالموضوع، وقد يعتذر بالعجز وهو قادرٌ، لكنه التبريرُ والمجادلةُ بالباطل، وفي يوم القيامة حيث الموازين القسط وشهود الحق، {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم: 57].
دهى الأمةَ المسلمةَ في بلادها دواهٍ عظيمةٌ، ودهمها العدو في عقر دارها، في مراتٍ تكرَّرت عبر تاريخها، فكان الجهاد المُتعيِّنُ على أبنائها جهادَ دفعٍ لا عذر فيه لمتخلفٍ، فكيف إن كان مرجفاً أو مخذّلاً -نعوذ بالله من الخذلان-، فكان لزاماً على كل مسلمٍ أن يدفع عن نفسهِ وأمته، لا ينتظر إذن غيره ولا ينظر إلى غيره، يتقدم ليؤدي ما عليه من فريضةٍ بكل ما يستطيع، يُفرِغُ وسعه فلا يترك للملامة إليه سبيلاً.
واليومَ، في وقت التَّكالبِ العالمي على قلبِ الأمة في الشام، والخذلانِ الإسلامي العربي لأهل الشام خاصةً غزةَ عسقلان، وجب على كل قادرٍ مستطيعٍ أن يجاهد بكل ما أوتي لنصرة إخوة الإسلام في غزة، فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، ولا يخذل المؤمن أخاه المؤمن، ولا يعتذر لذلك بعذر، فالله عزَّ وجلَّ خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب التَّكليف الذي يعمُّ كلَّ فردٍ مسلمٍ، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء: 84].
فقاتل، هذا النوع بالتَّحديدِ والتَّخصيصِ من أنواعِ الجهاد وهو القتال، فقاتل في سبيل الله لا تُكَلَّفُ إلا نفسك، إن لم تجد غيرها، ولا تُسألُ إلا عن نفسك إن لم يقم معك أحد، وهم عن أنفسهم يُسألون، فلا يعتذرُ مُكلَّفٌ بتخلُّفِ مُكلَّفٍ، ولو كان ذلك يصِحُّ لصحَّ في التَّوحيد والصَّلاة، ولو كان ذلك ممكناً لاعتذرت به الطائفةُ المنصورة وقعدت كما قعدَ سائر الأمة.
ما يمكن أن يفعله الأفراد الذين ثبَّطهم انتظارُ جماعاتهم أو دولِهم كثير، كل فردٍ مُكلَّفٍ عليه النهوض لفعل ما يستطيع، وهو بذلك يحقق فارقاً، وسيرى أن آلافاً من الأفراد قاموا بمثل ما قام به، ويتحقق وقتها ما يريد من نهوض أبناء الأمة، وإلا فكيف يكون تحريضُ المؤمنين إن لم يكن بالحالِ الذي يصدِّق المقال، وهل يتبع المؤمنون من يحرِّضُ على الجهاد وحاله يدعو إلى القعودِ والخذلان؟!
حتى الأعمال التي هي أقلُّ الجهاد، من احتجاجٍ ومظاهراتٍ واقتحامِ سفاراتٍ وكتابةِ كلماتٍ واختراقِ مواقعٍ وشبكاتٍ ونشاطٍ إعلاميٍّ ومقاطعةِ منتجاتٍ، كل هذه وغيرها تحتاج إلى حركةٍ وفعلٍ، وها هي جموعُ المتظاهرين في الأمم الكافرةِ تحقق فارقاً ولو يسيراً وتضغط في اتجاه منع عدوان الصـهاينة أو التوقف عن دعمه، لكن المطلوب من الأقرب أكبر.
هل فكر أحد علماء ووجهاء مصر أو الأردن في التوجه إلى الحدود مع الكيان الغاصب وحده، يتحمل الضَّربَ والسِّجنَ من قبل الأنظمة العميلةِ في سبيل نصرة المسلمين في غزة، بينما هم يجودون بأروحهم وأشلاء أطفالهم؟!، وليكن مثالاً عملياً في تطبيق هذه الآية والقيام بواجب تحريض المؤمنين بالحال والأفعال، إذاً لوجد غيره وغيره يقومون بهذا الفعل، وإن امتلأت السجون، وهكذا يكون الضغط المؤثر، فعدد السجانين أقل من عدد الشعب المسجون في مخاوفه وأوهامه، قلت الأردن ومصر لأن الرافضةَ سيطروا على حدود سوريا ولبنان ومنعوا الجهادَ السنيَّ الحقَّ بأكاذيبهم وتمثيلياتهم.
إن المعركة تحتاج إلى أشخاص يفهمون ويطبقون الدين ببساطة، كالعالم البحرِ العامل أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الذي على كبرِ قدرهِ وسنِّهِ نزلَ ساحة الجهاد يحرض المؤمنين ويتقدم صفوفهم ضد التتار الذين أرهبوا العالم، وكالمجاهد التركي مولود ألطنطاش الذي قتل السفير الروسي انتقاماً للمسلمين في حلب، إذ لم يجد إلا نفسه المُكَلَّفَةَ فوضعها على درب التضحية والفداء.
كلمني أحد الشيوخ العالمين العاملين، واشتكى تقاعُسَ الناس عن المظاهرات لنصرةِ غزة، فقلت له: يا شيخ، انزل الشارع وحدك بصوتك أو تحمل لافتةً، لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ، وأنا متأكد أن الكثيرين سيلتحقون بك، ويكون هناك تفاعلاً كبيراً، لأنك ستحرض المؤمنين بحالك وأفعالك، وهذا التحريض أبلغ من تحريض مقالك، وبه سيكون التأثير فتشتعل وتعلو الهمم.
أمةٌ ربما يكون من صحَّ إسلامهم منها أكثر من ألف مليون مسلم، قُيِّدَت بقيود مُتراكبةٍ، بعضها فوق بعض، لا يمكن أن تتحرر من قيودها إلا بتحرر أفرادها وانطلاقهم فرادى ليفصموا عرى الباطل، وليشكلوا كياناتٍ وتجمعاتٍ حرةِ منتشرةٍ تعتصم بحبل الله، وتستمسكُ بالعروة الوثقى لا انفصام لها، فمن تمسك بالباطل شغل نفسه به ولم يستطع الانتقال إلى الحق ونصرته، وإذا تركه شغر للحق في قوله وفعله مكانٌ.
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا وأعنا على الجهاد وتحريض المؤمنين بالقول والفعل… اللهم آمين.