الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
عن عبد الله بن حَوالة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سَيَكُونُ جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَن» فقال رجل: “فخِرْ لي يا رسول الله إذا كان ذلك”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكَ بِالشَّامِ، عَلَيْكَ بِالشَّامِ، عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ، وَلْيَسْقِ مِنْ غُدُرِهِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ» رواه أبو داود وأحمد والحاكم وابن حبان والطبراني وغيرهم، وصحح الحديث بمجموع طرقه الحاكم والذهبي والهيثمي والألباني والأرناؤوط وغيرهم.
وهذا الحديث أحد أدلة فضل الشام وهي أدلة عديدة من القرآن والسنة معروفة في مظانها جعلت كلمة العلماء متفقة على فضل الشام وبركته.
وهذه كلمات في تعيين المقصود بأهل الشام ومعنى كفالة الشام وأهله، كما يلي:
أولا- من أهل الشام الداخلون في كفالة الله جل وعلا؟
كلمة أهل إن أطلقت على بلد فقد يراد بها معنى عام وهو سكانها والمختصون بها، ولكنها قد تطلق ويراد بها معنى أخص من ذلك وهم جزء خاص من أهلها، والمقصود هنا بأهل الشام هو المعنى الثاني وهو جزء خاص هم الصالحون من ساكنيها وليس كل من أقام عليها، فإن الصلاح هو النسب الحقيقي والرابطة التي تربط بين الناس والأشياء، وقد نفى الله جل وعلا أن يكون ابن نوح من النسب داخلا في أهل نوح عليه السلام الناجين لأنه غير صالح، قال تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).
وقد كتب أبو الدرداء رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي: “أن هلم إلى الأرض المقدسة”، فكتب إليه سلمان: “إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الإنسان عمله” رواه مالك في الموطأ وهو صحيح، فهذا تنبيه إلى أن المقام بأرض لا ينفع المقيم إلا إن عمل صالحا، بل قد يكون مقامه في الأرض المقدسة وهو غير صالح شؤم عليه تتنزل عليه بسبب إفساده في المكان الطيب العقوبة والوبال.
وورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: “لا تسبّوا أهل الشام، وسُبُّوا ظلَمَتهم”، رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، فنهى علي رضي الله عنه عن سب أهل الشام وأجاز سب ظلمة الشام، فأشعر ذلك بوجود فرق بين أهل الشام وهم الصالحون فيها وبين غيرهم من المقيمين بها.
وقد استشعر بعض العلماء من تتبع الأحوال مزيد فضل للصالحين المقيمين بالشام على غيرهم، فقال العز بن عبد السلام في رسالة له عن سكنى الشام: “هذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الشام وتفضيلها، وباصطفائه ساكنيها، واختياره لقاطنيها، وقد رأينا ذلك بالمشاهدة، فإن من رأى صالحي أهل الشام ونسبَهم إلى غيرهم رأى بينهم من التفاوت ما يدلُّ على اصطفائهم واجتبائهم”.
ثانيا- معنى كفالة الله للشام وأهل الشام:
تعددت تعبيرات العلماء عن معنى “تكفل لي بالشام وأهله” وتعدد تفسير ما يدخل في هذه الكفالة، ويدور كلامهم حول: أنه لا ضيعة عليهم، وحفظهم وحياطتهم وحراستهم، والانتقام من عدوهم، وحفظهم من تخطف الكفرة وتدميرهم بالكلية، أو أن ذلك الحفظ عند الفتن في آخر الزمان..
فمن أقوالهم في ذلك:
– قال أبو إدريس الخولاني أحد رواة الحديث كما في فضائل الشام للربعي: “من تكفل اللهُ به فلا ضيعة عليه”.
– وقال العز بن عبد السلام في رسالته عن سكنى الشام: “كفالته: حفظه وحياطته..، والذي ذكره كعبٌ موافق للمشاهدة والعِيان، فإن قوة مُلْكِ الإسلام ومعظم أجناده من أهل البسالة والشجاعة بالشام..، فإذا كان الشام وأهله عند الله بهذه المنزلة، وكانوا في حراسته وكفالته، ودلّت الأدلة على أن دمشق خير بلاد الشام، فلذلك أخبر السلف وشاهد الخلف أنَّ من ملك دمشق من ملوك الإسلام، فبسط على أهلها الفضل، ونشر فيهم العدل، فإن النصر ينزل عليه من السماء، مع ما يحصل له من الود في قلوب الأبرار والأولياء والأخيار والعلماء، ومع ما يلقيه الله من الرعب في قلوب الأضداد والأعداء. ومن عاملهم من ملوك الإسلام بخلاف ذلك، فأحلّ بهم شيئا من الضَّرَّاء وأنزل بهم نوعا من البأساء، أو أخذهم بالجبروت والكبرياء، فإن الله لا يُهمِلُه ولا يُمهِله، بل يعاجله باستلاب ملكه في حياته، أو بإلقائه في أنواع البلاء وأبواب الشقاء، وذلك لأنهم في كفالة رب الأرض والسماء، كما أخبر به خاتم الأنبياء”.
– وقال ابن رسلان الشافعي المتوفى 844 هـ في شرحه لسنن أبي داود: “هذا وعد من الله تعالى لرسوله بحفظ هذِه المملكة وحفظ أهلها، ولن يخلف الله وعده، لكن سياق الكلام يدل على أن المراد بالحفظ عند كثرة الفتن ومهاجرة الناس إليها، وسيأتي في كلام رواية أبي داود الطيالسي حفظ بيت المقدس من الدجال من رواية سفينة أن الدجال يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله تعالى عند عقبة أفيق. وروى أبو بكر ابن أبي شيبة، عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس. ويحتمل أن يراد عموم الحفظ في جميع الأزمان، والله أعلم”.
– وقال الطيبي في شرح المشكاة: “المعنى: أنه تعالى ضمن لي حفظها وحفظ أهلها من بأس الكفرة واستيلائهم بحيث يتخطفهم ويدمرهم بالكلية”.
– وقال ابن الملك في شرح المصابيح: “ضمن حفظها وحفظ أهلها القائمين بأمر الله تبارك وتعالى”.
* والذي يظهر من مجموع كلام العلماء أن الله جل وعلا تكفل بالشام وأهل الشام إكراما للنبي محمد صلى الله عليه وسلم كما تدل على ذلك كلمة “لي” في قوله صلى الله عليه وسلم “تكفل لي”، وهذه الكفالة أنواع متعددة من أهمها نوعان:
– بقاء طائفة فيها على الحق لا يضرها من خذلها ولا خالفها، فلا يُستأصل الإسلام منها بالكلية مهما كاد الأعداء، خلافا لما حصل في بلاد أخرى كالأندلس وبعض بلاد إفريقيا وأجزاء من الهند وغيرها.
– شدة الانتقام من عدوهم، فمن تعدى على مؤمني الشام عوقب عقابا شديدا سواء على أيدي المؤمنين أو على أيدي غيرهم أو بتقادير لا أسباب بشرية فيها، ولئن كان أعداء الإسلام عبر القرون كالصليبيين والتتار فعلوا في الشام أفاعيل، فإنه قد فُعل بهم كذلك الأفاعيل وقُتل من ملوكهم وأمرائهم وجنودهم، وذاقوا من المحن والبلايا ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وصدق الله جل وعلا القائل: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).
* فليستبشر الصادقون المجاهدون في الشام؛ فلن يستطيع الكفرة والفجرة مهما تحزبوا وتجمعوا وتآمروا ومكروا من إطفاء كل نور للإسلام في بلاد الشام، بل سيبقى صادقون يدافعونهم أبد الآباد مهما طال ليل الظالمين، وسينزل بالكفرة والفجرة من العقوبات والبلايا جزاء كفرهم وفجرهم وحربهم لأولياء الله في الشام ما لا يحصيه إلا الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين.