الأستاذ: غياث الحلبي
كان لسانها لا ينفك يدعو على الطاغية الذي قتل زوجها عندما أغارت طائراته على سوق القرية فحصدت أرواحا كثيرة ودمرت مبانٍ عدة كان زوجها أحد الضحايا ولم تنته المأساة هنا بل أعقب القصف الجوي المكثف حملة برية أدت إلى نزوح أهالي القرى فراراً من بطش جيش الطاغية وإجرامه الذي تمكن من احتلال تلك القرى وقد خلت من أهلها وصارت أبنيتها أكواما من حجارة وتراب
وهكذا وجدت صبرية نفسها مع أطفالها في خيمة بائسة وقد فقدت الأسرة معيلها، بكت ما شاء الله لها أن تبكي ولكن متى كان البكاء يرد ميتا أو يعيد حقا، أو يطعم صغارا؟ وقد أدركت ذلك رغم جراحها ورأت أنه لا بد من أن تصبح منذ اليوم الرجل والمرأة الأب والأم معا
عملت “صبرية” في بيع المناديل الورقية والبسكويت وسجلت اسمها في بعض المنظمات لتحصل على إغاثة شهرية ولكن لم يكن ذلك ليكفيها لسد الرمق إذ الإغاثة تأتي شهرا وتنقطع شهورا وما تجنيه من بيعها لا يحصل لها ثمن الخبز فصغر سن أولادها لا يسمح لها بإمضاء وقت طويل في البيع
وأخيراً وبعد طول عناء تمكنت “صبرية” من العثور على مورد تعول به صغارها بعد أمضت أشهرا طويلة تكابد خلالها المشاق من أجل تحصيل قوتها وقوت صغارها فمرة تنجح وأخرى تخفق، وإذا فرحت لنجاحها نهارا عاودها الهم والحزن ليلا والسؤال يلح عليها: هل سأنحج غدا؟
لقد أرشدتها إحدى جارتها إلى عمل على مشقته يدر مربحا تتمكن به من كفاية نفسها وأولادها الحد الأدنى على الأقل وهو “تهريب المازوت” من شمال ستان إلى جنوب ستان إذ فرق السعر بين المنطقتين يجعل بيع المازوت سهلا وميسرا لكن الشاق في الأمر هو تجاوز الحاجز هناك، وقد أرشدتها جارتها إلى الطريق التي يجب أن تعبر حتى لا يراها العناصر الذين على الحاجز
استدانت “صبرية” مبلغا هو رأس مالها فاشترت به غالونا يتسع عشرين لترا ثم وقفت على الطريق تنتظر سيارة تحملها ولم يطل انتظارها حتى وقفت لها سيارة فركبتها ثم سارت بها إلى أول قرية بعد الحاجز فنزلت هناك واشترت من المازوت ما ملأت به غالونها ثم وقفت على الطرف الآخر من الطريق تنتظر سيارتها تقلها لتعود من حيث أتت
توفقت إحدى السيارات ونزل السائق فوضع الغالون في الصندوق الخلفي وركبت “صبرية” في المقاعد الخلفية فسألها السائق:
ــــ إلى أنت ذاهبة؟
ـــ إلى مكان قريب من هنا
ـــ وماذا يوجد في الغالون
ـــ مازوت
ـــ يجب أن تنزلي قبل المعبر حتى لا تتعرضي لمشاكل
ـــ سأنزل بعد مائتي متر، لا أريد الذهاب إلى المعبر
وقفت السيارة فأخذت صبرية غالونها وبدأت المسير في طريق شديد الوعورة لتفادي رؤية عناصر الحاجز لها، لم تمش صبرية إلا مسافة يسيرة حتى شعرت بتعب شديد الغالون ثقيل جدا والطريق وعر وطويل والبرد شديد وقفت قليلا لتستريح ثم حملت الغالون ثانيا وتابعت الطريق فعلت ذلك مرارا حتى ظنت أنها روحها ستخرج من شدة التعب
وبعد ساعتين تمكنت صبرية من تجاوز المكان الخطر لقد صارت الآن في أمان فرحت فرحاً شديدا أنساها ما مر بها من المصاعب وعانته من الآلام، تابعت طريقها حتى وصلت إلى بيت جارتها فباعت المازوت من زوجها وقبضت المال فوجدت أن الربح الذي جنته يكفيها لنفقة ثلاثة أيام فرأت في ذلك سعة وفرجا
كررت “صبرية ” رحلتها مرات عديدة وأخذت تعتاد الأمر فذهب كثير من الخوف الذي كان يعتريها عند محاذاتها الحاجز، كما أن شدة التعب التي كانت تجدها أخذت تقل شيئا فشيئا لاعتياد جسمها على الأمر.
وذات يوم ذهبت “صبرية” كعادتها وملأت غالونها ثم أدارت ظهرها عائدة وبينما كانت تسلك الطريق الوعر فوجئت بعدد من عناصر الحاجز يقطعون الطريق عليها، أخذت صبرية تتوسل إليهم أن يخلوا سبيلها ويسمحوا لها بالعبور فقال أحدهم مستهزئا:
ـــ بإمكانك أن تمري أما هذه الغالون فمصادرة
ــــ لماذا يا ابني أنا أرملة فقيرة أعول صغاري
ـــ ألا تعلمين أن تهريب المازوت ممنوع، كلكن فقيرات أرامل
ــــ والله يا بني أنا لا أكذب تعال معي لترى خيمتي وأولادي.
ـــ تهريب المازوت ممنوع لا يمكن مخالفة هذا القرار
ـــ طيب يا بني ومن أين أطعم صغاري؟ من يصدر قرارات كهذه عليه أن يقوم بحاجات الناس ويكفيهم
ـــ أنا هنا لست للمناقشة علي تنفيذ الأوامر
ــــ أوليس لك عقل تفكر به يا بني، أوليس لك قلب ترحم به ضعف هذه الأرملة المسكينة، أنا أرملة شهيد وواجبكم مساعدتي لا قطع الطريق عليّ، أو لا يكفي أني سلكت هذا الطريق الوعر المضني أو لا يكفي ما لاقيت من التعب،
ـــ لا أريد سماع محاضرة قلت لك هذا ممنوع وسوف نصادر المازوت
ـــ أجاد أنت يا بني فيما تقول؟ ألا تخاف الله؟ بأي حق تستحل مال أرملة مؤتمة؟
ـــ هذه هي التعليمات
ـــ ضع هذه التعليمات تحت قدمك يا بني إذا كانت تؤدي إلى ظلم الناس وامتصاص دمائهم
ورق قلب أحد عناصر الحاجز فقال لمعلمه:
ـــ دعها تمر وخذ منها تعهدا ألا تفعل ذلك مجدداً
فأجابه: هذا ليس من شأنك ولا تدخل فيما لا يعينك ثانية
ثم عاد يخاطب المرأة
ـــ ليس لدينا كثير وقت نضيعه معك دعي المازوت وتابعي طريقك
ـــ لا أستطيع هذا قوتي وقوت أولادي، ارحمني يا بني
ـــ إذا لم تتركيه بالحسنى فسنأخذه بطريقتنا الخاصة
ـــ لن أسمح لكم، اقتلوني ثم خذوه، ماذا أقول لأولادي؟ إذا قالوا: نحن جياع يا أمي
ـــ خذوا منها المازوت
ومضى بعض العناصر على استحياء قائلا: هاتيه خالتي
كان يشعر بخزي شديد من العمل الذي يقوم به ولكن “هيك بدو المعلم”
ارتمت صبرية فرق غالونها وأخذت تصرخ بشكل هستيري فارتاع العناصر وابتعدوا عنها فتقدم المسؤول وقد أخرج سكينا من جعبته
فقالت له: ماذا ستفعل أتريد أن تقتلني؟ تفضل ولكني لن أعطيك المازوت
فلم يلتفت إليها وإنما سدد يده نحو الغالون ثم شقه بها وأخذ المازوت يتدفق من الغالون ثم أخذ عناصره ومضى
نظرت صبرية بأسى شديد إلى المازوت الذي يجري متدفقا بين الصخور ويذهب عبثا وهدرا لتظل أرباح المستغلين في تصاعد مستمر ولو أدى ذلك إلى حرمانها وأطفالها من رزقهم وقوتهم.
جرت عيناها بدمع مسحاح، ورفعت يديها إلى ملك الملوك شاكية له الظلم الذي تعرضت وقد أسكت لسانها شدة البكاء فقامت الدموع مقام اللسان البليغ تشكو إلى الباري الظلامة وتسأله الإنصاف والانتصاف.
تحاملت صبرية على نفسها وحملت الغالون المشقوق ومشت نازلة إلى الطريق العام فلم يعد معها ما تخشى عليه من أعين الرقباء، كانت هناك طابور طويل من السيارات تنتظر التفتيش ليسمح لها الحاجز بالمرور بعد أن يتأكد أنها لا تحمل غالونا من المازوت أو حزما من الملوخية أو كيسا كبيرا من البطاطا أو الفليفلة الحمراء فهذه كلها ممنوعات لا يسمح بجلبه حتى لا يؤدي ذلك إلى انخفاض الأسعار في جنوب ستان
استأذنت إحدى السيارات بالركوب فسمح لها السائق وبعد أن وصلت نزلت تمشي بخطا متثاقلة نحو خيمتها وقد علا وجهها الكآبة والحزن، استقبلها أطفالها كالعادة فرحين ولكن رابهم الحزن على وجهها وازدادت ريبتهم عندما يجدوا معها الغالون كالعادة فجلسوا حولها صامتين لا يجرؤون على النبس ببنت شفة
ربتت على رؤوسهم بكفها ثم حكت لهم ما جرى وختمت حديثها رافعة يديها إلى السماء قائلة: شكوناهم إلى الله، وارتفعت الأكف الصغيرة تردد خلف أمها شكوناهم إلى الله وسمعت صبرية من مسجد مجاور صوت الشيخ وهو يروي حديثا ” ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم … ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ و تُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ و يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ”