قراءة في آثار حملة التغريب ووسائل مواجهتها – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٣٠

مجلة بلاغ العدد ٣٠ - ربيع الثاني ١٤٤٣ هـ⁩

الدكتور: أبو عبد الله الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:

يقول تعالى: ((وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟).

قليل من التأمل في: إفرازات وتطبيقات الديانة الإبراهيمية الجديدة، وصفقة القرن، واتفاقات التطبيع، والثورات المضادة، وتغيير المناهج، ونشر الإلحاد، والثقافة النسوية الباطلة، والشذوذ، والإباحية..، يجعلنا ندرك حجم ومستوى الخطر المستفحل الناجم عن حملة التغريب المسعورة في المرحلة الحالية، وعلى الرغم من استنفار كثير من الصادقين للتصدي للحملة الحالية إلا أن الامر يتطلب جهدا أكبر وحراكا أشمل لنخب الأمة الصادقة.

وعليه فمن الجيد في هذا المقام تسليط الضوء على هذه الحركة الخبيثة؛ مفهومها، أهدافها، جذورها، وسائلها، أساليبها، وطرق مواجهتها:

أولا – في المفهوم والأهداف:

يعرِّف معجم «أوكسفـورد» المشهور مصطلح التغريب بأنه: جعْل الشرق تابعًا للغرب في الثقافة وأساليب العيش وطرق التفكير.

وتجمع التعريفات لمصطلح التغريب على أنه: هجمة نصرانية يهودية تجلت بتيار فكري واسع، ذي أبعاد عقدية وسياسية واجتماعية وثقافية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي؛ وذلك بهدف سلخهم عن دينهم وطمس هويتهم وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية، الأمر الذي يضمن استمرار السيطرة الغربية وضمان مصالحها حتى بعد إنهاء الاحتلال شكليا وبقائه عبر منظومات الحكم العميلة.

ثانيا – الجذور والتطور التاريخي:

رغم أن التاريخ المعروف لبدء حملة التغريب يعود إلى قرن ونصف تقريبا، إلا أن العلامة بكر أبو زيد رحمه الله يشير في كتابه القيم “الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان” إلى أن التغريب ببعده العقدي مر بأربع مراحل:

1 – في عصر النبي صلى الله عليه وسلم: ومن أمثلته قوله تعالى: ((وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) وقوله تعالى: ((وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)).

2 – مرحلة ما بعد القرون الثلاثة المفضلة: وكانت بإثارة شبهة أن الفرق بين اليهودية والنصرانية والإسلام كالفرق بين المذاهب الأربعة، وهذه الشبهة تلقفها دعاة وحدة الوجود والحلول والاتحاد من ملاحدة المتصوفة، وتصدى لهم العلماء الصادقون وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

3 – مرحلة النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري الموافق للنصف الأول من القرن العشرين الميلادي: حيث وقع في حبالها الأفغاني وتلميذه محمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وغيرهم.

4 – مرحلة الدعوة إليها في العصر الحاضر: في ظل ما يعرف بسيطرة القطب الأمريكي والنظام العالمي الجديد؛ حيث مؤتمرات ما يسمى بوحدة الأديان وحوار الأديان، والتي تكللت مؤخرا بالإعلان عن الديانة الإبراهيمية الجديدة، ونشر المذاهب الهدامة من فرويدية وداروينية وإلحادية، والتطبيع مع كل ما هو معاد للإسلام، ومحاربة كل مدافع عنه.

ما سبق يثبت أن التغريب تتواجد بذوره وتمتد جذوره إلى عصر النبوة، مرورا بالحملات الصليبية وإخفاقاتها، غير أن بلورته لتيار وسياسات جاء بعد ضعف الدولة العثمانية ونشوء النهضة الغربية المادية، وقد سبق التغريب ومهد له المهمات الاستشراقية التي قدمت دراسات وأبحاثا عميقة ظهرت تطبيقاتها العملية في تركيا (حل الانكشارية والبناء العسكري والإداري الغربي وبروز الفكر القومي) ومصر (محمد علي وأسرته وعلمنة مصر وتغريبها وصولا للأفغاني وعبده وقاسم أمين وطه حسين وغيرهم) وتونس وبلاد الشام؛ حيث ركز الغرب كما ذكر «ألبرت حوراني» في كتابه «الفكر العربي في عصر النهضة» -لتحقيق مسْعاه التغريبي- على المسيحيين العرب (كبطرس البستاني وجورجي زيدان) في بلاد الشام للنفاذ بثقافته إلى صُلب الأمة الإسلامية.

ثالثا – في وسائل التغريب وأساليبه:

للتغريب وسائل خشنة أهمها الاحتلال المباشر، ووسائل ناعمة أهمها الغزو الفكري والابتعاث، وما عجزت الوسائل الخشنة عن تحقيقه قامت الوسائل الناعمة بتحقيقه، والأدهى أن يكون ذلك عبر منظومات الحكم العميلة التي تحارب الإسلام وتزعم أنها تحميه، وعبر الساقطين في حبال التغريب ودعاويه كما مر معنا في الفقرة السابقة.

هذا، ويمكن تلخيص أساليب التغريب وفق الآتي:

1 – التغريب العقدي: ويهدف إلى سلخ المسلمين عن دينهم، وتحطيم عقيدة الولاء والبراء، وإلغاء فريضة الدعوة إلى الله وفريضة الجهاد، وهو يقوم على نظرية وحدة الأديان وخلط الإسلام بغيره من الأديان السماوية المحرفة والأرضية الوثنية والفلسفية، ونشر المذاهب الهدامة كالأنسنة والإلحاد والداروينية والفرويدية، والتشكيك بثوابت الأمة، والطعن بمصادر الدين، وما سلوك شيطان الجزيرة ابن زايد وابن سلمان والسيسي وغيرهم إلا نموذج عملي لهذا التغريب.

2 – التغريب السياسي: ويهدف إلى تقسيم العالم الإسلامي عبر نشر الفكر القومي وبعث الحضارات القديمة من ناحية، وتقسيمه عبر حدود سياسية مصطنعة إلى دويلات، تديرها منظومات حكم عميلة، تقوم على فلسفة علمانية، وآلة استبدادية إجرامية، وديكور ديمقراطي، وشعار وطني، يقول المستشرق الإنجليزي جب في كتابه: إلى أين يتجه الإسلام: “من أهم مظاهر سياسة التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة”.

3 – التغريب الاقتصادي: والذي يهدف إلى إقصاء النظام الاقتصادي الإسلامي، والاعتماد على اقتصاد ربوي تابع، وثقافة استهلاكية رائجة، يضمن الغرب من خلالهما استمرار السيطرة على ثروات العالم الإسلامي، وجعل بلدانه والشعوب المسلمة أسواق استهلاك لمنتجاته وحقل تجارب لاختراعاته.

4 – التغريب الاجتماعي: ويهدف إلى تدمير الأسرة المسلمة عبر دعاوى النسوية الباطلة وأسلوب الحياة الغربي المادي، ويكرس لهذا المؤتمرات والقرارات الدولية والفن وغيره.

رابعا – طرق مواجهة التغريب:

يقول تعالى: ((وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)).

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية”.

يقول صاحب الظلال رحمه الله: “إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح، واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقتان” انتهى كلامه رحمه الله.

* في ضوء ما سبق تتضح معالم طرق مواجهة التغريب، والتي تقوم في جوهرها على بيان سبيل الحق وسبل الباطل الكفرية والبدعية؛ فالصراط المستقيم (الإسلام) هو سبيل من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو ملة إبراهيم عليه السلام، ودين جميع الأنبياء والمرسلين وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نُسخت ببعثته الشرائع وسُدت الطرق إلى الله إلا طريقه، وهو غير سبيل المغضوب عليهم من اليهود وأشباههم الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به كبرا وحسدا، وهو غير سبيل النصارى الضالين وأشباههم، وغير سبيل المشركين شركا أرضيا (الأصنام) أو شركا سماويا (الكواكب)، وغير سبيل المجوس والفلاسفة والملحدين.

وعليه؛

– فربط الأمة بكتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم بفهم السلف،

– وتعزيز عقيدة الولاء والبراء وفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد،

– وتكريس التربية الإيمانية،

– والمحافظة على تماسك الأسرة المسلمة من ناحية،

– وتعرية دعاوى التغريب وأساليبها وإبطال حجج أصحابه وبيان أحكامهم والتصدي لمؤامراتهم بكل الأساليب المتاحة من ناحية ثانية،

يعتبر واجب الوقت المنوط بنخب الأمة الصادقة خاصة والمسلمين عامة، مستصحبين معية الله والثقة بموعوده في إبطال كيد الماكرين ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) وجعل العاقبة للمتقين، والله الموفق.

لتحميل نسختك من العدد 30 من مجلة بلاغ اضغط هنا 

لقراءة باقي المقالات اضغط هنا 

Exit mobile version