الأستاذ: أبو يحيى الشامي
بعد سنواتِ الابتلاءِ والتربيةِ والإعدادِ الربانيِّ لحملةِ لواءِ الفتحِ المبينِ دخلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلمَ مكَّةَ فاتحاً بفضلِ اللهِ، ودخلَ معهُ المستضعفونَ في الأرضِ الذين منَّ الله عليهم بالنَّصرِ والتَّمكينِ وجعلهم خلائفَ الأرضِ وجعلهم الوارثينَ، إنه أعظمُ فتحٍ على مرِّ التَّاريخِ لأنه غيَّر مجرى التَّاريخِ، وكان له ما بعدهُ من فتوحاتٍ عظيمةٍ كانت من قوةٍ أو من ضعفٍ.
إنَّ الفتحَ الذي يعقُبُ الضَّعفَ وحسنَ ظنِّ المؤمنينَ المتمسِّكينَ بالدِّينِ والمبادئِ على قِلَّتهِم، وسوءَ ظنِّ المنافقينَ المتفلِّتينَ النَّاكبينَ المكذِّبين بوعدِ ربِّ العالمينَ على كثرتهِم؛ إنَّهُ لفتحٌ أعظمُ من الفتحِ الذي تحققه القوَّةُ والكثرة.
ليميزَ اللهُ الخبيثَ من الطيِّبِ، ويشتدَّ عودُ جماعةِ المسلمينَ يتأخَّرُ النَّصرُ، ولأسبابٍ أخرى لا حاجة إلى ذكرها هنا، فلقد تحقَّقَ النَّصرُ والفتحُ وبدأت تظهرُ ملامحُ التَّمكينِ.
وأنا أتابعُ أخبارَ التَّقدُّمِ السَّريعِ لقوَّاتِ الإمارةِ الإسلاميَّةِ في أفغانستانَ (حركة طالبان) بعدَ بدءِ انسحابِ الولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّةِ وحلفها الدُّوليِّ، ذكَّرني دخولُ قواتِ الحركةِ إلى كابُلَ بدخولِ النبي صلى الله عليه وسلم وصحبهِ الكرامِ إلى مكَّةَ، وما الذِّكرى بسببِ النَّصرِ العظيمِ والفتحِ المبينِ بغيرِ قتالٍ، بل بسببِ ما تحلَّى بهِ الفاتحونَ، وتمثُّلِ قيادةِ الحركةِ وجنودِها أخلاقَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّمَ تواضعاً وعفواً، من دخلَ بيتهُ فهوَ آمنٌ، من قاتلَ قبل قليلٍ وتركَ القتالَ الآنَ فهو آمنٌ، من كان في الأمسِ مع قواتِ الحكومةِ العميلةِ وفي مؤسساتها فهو آمنٌ، ومن كان يخدمُ قواتِ التَّحالفِ المحتلةَ فهو اليومَ آمنٌ.
عفت حركةُ طالبانَ عمَّنْ قاتلها بلا قيدٍ ولا شرطٍ، كما لم يشترطِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلمَ على أهل مكَّةَ عندما تكرَّمَ عليهم بالعفوِ، ولم يُكرِههُم على الإسلامِ، وأنزلَ الناسَ منازلَهُم، ولقد أثلجَ لقاءُ بعضِ مسؤولي حركةِ طالبانَ المجاهدَ القديمَ المعارضَ للاحتلالِ وخصمَ طالبانَ قلبَ الدِّينِ حكمتيارَ أثلجَ صدوراً فقِهَت السِّيرةَ والسِّياسَةَ الشَّرعيَّةَ، وأضرَمَ في صدورٍ.
إنَّ الذي أمَّنَ كبارَ القادةِ الذينَ قاتلوا المجاهدينَ عشرينَ سنةً في جيشٍ يقودُهُ الصَّليبيُّونَ لينهلُ من نبعِ الرِّسالةِ وفيضِ أخلاقِ نبيِّ الإسلامِ وسياستهِ، فقد أمَّنَ كبارَ زعماءِ قريشٍ الذينَ آذَوهُ وأصحابَهُ وقاتلوهُم لمدةٍ مقاربةٍ لهذه العشرينَ منذ بدايةِ الدعوةِ إلى الفتحِ المبينِ.
ونردُّ على الذي فرَّقَ بين الكافرِ الأصليِّ الذي عفا عنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلمَ والمرتدِّ الذي والى الصليبيينَ في أفغانستانَ لدنيا يصيبها، نردُّ بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلمَ عفى عمَّنْ رِدتُهُ أغلظُ وأبعدُ، لقد عفى عن كاتبِ الوحيِ الذي ارتدَّ عن الدِّينِ وفرَّ الى مكةَ وكذَّبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلمَ وادَّعى تلفيقَ الوحيِ، بعد أن كان أهدرَ دمهُ ولو كانَ متعلقاً بأستارِ الكعبةِ، إنه عبد اللهِ بنُ سعدٍ بنُ أبي السَّرحِ الذي حَسُنَ إسلامهُ بعدها وقادَ جيوشَ الفتحِ في أفريقيَّةَ والبحرِ الأبيض.
طالبانُ لم تتغلَّب على مسلمينَ ولم تغصِبَ حكماً شرعياً قائماً، بل حرَّرتِ الأرضَ والإنسانَ من الاحتلالِ المعادي للإسلامِ الذي جاء ليسقط حكماً شرعياً قائماً ففشل، ولما أرغمت أتباعَهُ عاملتهم بالحكمةِ والاحتواءِ، فغايةُ المجاهد المسلم هدايةُ الناسِ لا هلاكُهم، وجذبُهم إلى دينهم الحقِّ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ ما أمكن من ذلك سبيلٌ.
وكما خرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلمَ بجيشِ الفتحِ ومن التحقَ به من أهلِ مكَّةَ لقتالِ أهل الطائفِ ومن معهم من العربِ في وادي حنينٍ، خرجت قواتُ طالبانَ مع من التحق بها من طلقاءِ قواتِ الحكومة العميلة سابقاً لقتال فلولِ الرافضينَ للحكمِ الشَّرعيِّ في أفغانستانَ، ممن قال لهم الشَّيطانُ لا غالبَ لكم اليومَ وغرتهم الدولُ الكافرةُ، فكسرهم اللهُ في وادي بَنْجشِيرَ، وعفت عنهم حركةُ طالبانَ وطلبت ممن غادرَ البلادَ أن يعودَ للمساهمةِ في البناءِ والعملِ.
انتظرتُ تشكيلَ حكومةِ تصريفِ الأعمالِ التي وعدتِ الإمارةُ الإسلاميَّةُ بتشكيلها فورَ تحريرِ كلِّ البلادِ، لأؤكِّدَ لمن يشكِّكُ في الوعيِ السِّياسيِّ لقيادةِ الحركةِ بالدَّليلِ أنهم ثابتونَ على المبادئِ مراعونَ لرُكنَي القُوَّةِ والأمانةِ، فوزراءُ الحكومةِ علماء متمكنونَ وطلبةُ علمٍ معروفونَ مشهودٌ لهم بالجهادِ والحكمةِ وحسنِ التَّدبيرِ، وتحت إشرافهم يعملُ أهلُ الخبرةِ والاختصاصِ ممن عملتِ الحركةُ على إقرارِهم في إدارتهم للإفادةِ منهم، كما أكثرتْ من وزاراتِ الإصلاحِ ومنها وزارةٌ خاصةٌ بالأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، وهذا يدلُّ على الخيرِ بعونِ اللهِ، والأمة تراقبُ ومن أبنائها الناقدُ البصيرُ الناصحُ المنصفُ.
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج : 41]، إن بلاءَ ما بعدِ النَّصرِ أكبرُ من بلاءِ ما قبله، وكذا الفرقُ بين الصَّبرِ على الرَّخاءِ والصَّبرِ على الشِّدَّةِ.
أصدرتِ الإمارةُ الإسلاميَّةُ بياناً اليومَ جاءَ فيه: “لقد كانت لمقاومتِنا الجهاديَّةِ طيلةَ العقدينِ الماضيينِ هدفينِ عظيمينِ، أحدُهما: إنهاءُ الاحتلالِ الأجنبيِّ وتحريرُ البلاد، وثانيهما: إقامةُ نظامٍ إسلاميٍّ متكاملٍ محكمٍ ومركزيٍّ في أفغانستانَ، ونظراً لهذينِ الأصلينِ، فإن الحكومةَ المستقبليَّةَ في أفغانستانَ وجميعِ شئونها ستكونُ متوافقةً مع ضوابطِ وأحكامِ الشَّريعةِ الغرَّاءِ”.
وفيه أيضاً: “ونحنُ نلتزمُ بجميعِ تلك القوانينِ والقراراتِ والمواثيقِ الدوليَّةِ التي لا تتعارضُ مع الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ“.
هذه الأقوالُ تصدِّقُها الأفعالُ التي رأيناها على مدى ثلاثةِ عقودٍ من عمرِ الحركةِ، وباستصحابِ الحالِ نحسنُ الظَّنَ وننتظرُ المزيدَ مما يُظهرُ صورةَ الإسلامِ الجميلةَ بنموذجٍ إسلاميٍّ شرعيٍّ عادلٍ راشدٍ، ويزرعُ في قلوبِ المسلمينَ أملَ تحقيقِ المزيدِ من النماذجِ وتوحيدِها.
ولا يحطُّ من قدرِ فرحةِ النصرِ واستحقاقِ التمكينِ ما يثيرهُ البعضُ ويضخِّمهُ من اعتقادِ منتسبي طالبانَ وانتمائهم المذهبيِّ، فمع تأكيدِنا على نبذِ الباطلِ وردِّ الخطأِ كائناً من كان فاعلُه، نذكِّرُ من ينشغلُ بذاك عن واجبِ جهادِ الكفارِ الصائلينَ ونصرةِ ودعمِ من يجاهِدُهم والفرحِ والبِشرِ بالنَّصرِ عليهم، نذكِّرهُ بما كان في عهدِ دولةِ العباسيِّينَ ومنهم المعتصمُ والأيوبيِّينَ ومنهم الناصرُ والعثمانيِّين ومنهم الفاتحُ وغيرِهم، ممن وقفَ معهم الثَّابتونَ الصَّادقونَ من أبناءِ الأمةِ ضدَّ الكفرِ وأهلهِ وضدَّ طوائفِ الباطنيَّةِ والزَّندَقةِ، ويكفيكَ هذا عناءَ التَّفصيلِ.
إن لمجاهدي طالبانَ ولأهلِ أفغانستانَ الصَّابرينَ المتمسِّكينَ بدينهم لهم علينا حقُّ النَّصرِ والنُّصحِ والصَّبرِ حتى نرى ثمارَ جهادهم تمكيناً يعزُّ بهِ الإسلامُ وأهلُه، وما نحن إلا عبادٌ للهِ العالمِ بما كانَ، وما هو كائنٌ، وما سيكونُ، وما لم يكنْ لو كانَ كيفَ يكونُ، وقد قال جلَّ وعلا: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس : 14].
اللهم وفِّق أهل أفغانستانَ إلى ما تحبُّ وترضى، اللهم انصر المجاهدينَ في سبيلكَ في كل مكانٍ، الله انصر أهلَ شامكَ وأقِم شرعكَ فيهم، إنك وليُّ ذلك والقادرُ عليه… اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين.
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا
لقراءة مقالات مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا