د. أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
ففي خضم التدافع الحالي -الفكري منه والإعلامي والميداني- مع إفرازات الثورة المضادة الزائفة التي تسلطت على ثورتنا وتضحيات أهلها العظيمة أحببت إعادة نشر هذا المقال الذي كتبته من حوالي الأربع سنوات لمجلة بلاغ ضمن سلسلة معركة التغيير والأخطاء القاتلة لتوضيح جانب من جوانب حرف المسار ورهن القرار وتكبيل الثورة والثوار، فأقول وبالله التوفيق:
يقول تعالى في محكم تنزيله: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَر، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
المعركة بين الإيمان والكفر لم تتوقف يومًا، وإن من الأخطاء القاتلة في معركة التغيير؛ أن تتوهم جماعات الإسلام الحركي إمكانية التعايش مع المنظومة الدولية الجاهلية عبر المسارات السياسية التي رسمتها، والأدوات السلمية التي وضعتها.
وإذا كانت مكونات المنظومة الدولية الجاهلية نفسها لا تستغني مطلقًا عن القوة -الخشنة والناعمة منها- في تثبيت مكانتها والحفاظ على وجودها ومصالحها ونفوذها، فكيف يُتصور لجماعة إسلامية أنه بمقدورها أن تحافظ على وجودها وتستمر في مشروعها، وقد جردت نفسها من أبرز عوامل قوتها المتمثل بشوكتها العسكرية وإرادتها القتالية.
هذا وقد أثبتت كل من التجربة الجزائرية والتجربة المصرية، بما لا يدع مجالًا للشك، فشل تجربة الإسلام السياسي المجرد من الشوكة العسكرية، أمام الدولة العميقة -بمكوناتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية- المدعومة من قبل المنظومة الجاهلية..
وبالمقابل؛ فإن تجربة الإسلام الجهادي، تم اختراقها بالغلو، أو احتواءها بالتدجين والإقناع بإمكانية التعايش مع المنظومة الجاهلية، عبر مساراتها وأدواتها..
ولكن لم يمنع ذلك كله من بروز نماذج جهادية استطاعت أن تحافظ على مسارها السني، ثابتةً على مبادئها، مستمرةً في جهادها، فارضة أقدامًا قوية لا تستطيع المنظومة الجاهلية تجاهلها.
هذا؛ وإن من أبرز القضايا التي واجهت وتواجه جماعات الإسلام الجهادي على وجه الخصوص، هي قدرتها على التعامل بتوازن بين فقه دفع الصائل وفقه إدارة المحرر، فكما أن ترك إدارة المحرر للمشاريع والأجندات المدعومة من المنظومة الجاهلية، سيقود إلى تضييع ثمرات الجهاد، فكذلك جعله أولوية والانشغال به -بل وحتى الانسياق وراء وهم التعايش مع المنظومة الجاهلية والوقوع في فخاخها أحيانًا- عن دفع الصائل واستمرار معركة التحرير، سيقود إلى ضعف الشوكة العسكرية وإرادة القتال، وتسلط الأعداء، خاصةً إذا علمنا أن حالة الاستقرار المتوهمة والبناء عليها في إقامة المشاريع الإدارية والخدمية والتصدي للتدخل في الشؤون العامة بشكل تفصيلي، ستقود بشكل أو بآخر لخسارة المعركتين، على جبهة دفع الصائل، وجبهة إدارة المحرر.
ثم إن علمنا بقدرة المنظومة الجاهلية وتفوقها في كافة المجالات المعاصرة خلا الميدان العسكري بصبغته الجهادية، وتوظيف إنجازاته الميدانية بسياسة شرعية راشدة، يجعلنا ندرك مدى الانحراف الذي تقع فيه بعض الجماعات في تصور إمكانية الانتصار في ميدان الآخر، صناعةً وتحكمًا وإدارة.
*وفي ضوء ما سبق؛ تتضح الحقائق الآتية:
1- الصراع مع المنظومة الجاهلية صراع وجودي، تحكمه لغة الدم، والكلام عن إمكانية التعايش معها من خلال مساراتها المرسومة وأدواتها السلمية؛ نوع من العبث والمقامرة.
2- تغليب إدارة المحرر مع الوقوع في فخاخ المنظومة الجاهلية وأدواتها، على حساب الشوكة العسكرية والإرادة القتالية وفقه دفع الصائل، هو من باب تغليب التكتيكي على الاستراتيجي، وتقديم الفرع على الأصل، فالشوكة العسكرية والإرادة القتالية هي الحامل لباقي المشاريع وليس العكس.
3- الركون للحالة المستقرة المتوهمة، وبناء المشاريع الإدارية والخدمية المرتبطة بشكل أو بآخر مع المنظومة الجاهلية، على حساب الشوكة العسكرية والإرادة القتالية، هو خسارة المعركة على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي.
4- التوازن السني بين الفقهين، هو في ترسيخ الإرادة القتالية وتقوية الشوكة العسكرية، وحشد الناس على استمرار التحرير ودفع الصائل، مع إدارة المحرر تحت سقف حاكمية الشريعة، وإشراك المسلمين بطاقاتهم ونخبهم في إدارة شؤونهم بضوابط هذا السقف.