عظمة القرآن – مجلة بلاغ العدد ٧٠ – رمضان ١٤٤٦ هـ⁩

الشيخ: المنصور بالله الحلبي

“إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته”، بهذه الكلمات القليلة وصف ريحانةُ قريش الوليد بن المغيرة القرآنَ الكريم!

قال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].

سبحان الذي أنزل هذا القرآن، حيث إنك تجد لكل سورةٍ من سوره شخصيتها المستقلة وجوها الخاص بها، وتأثيرها بما يناسب موضوعها، حتى ليظهر للقارئ أن السورة نفسها قد قسمت إلى مقاطع، ولكل مقطع جوه الخاص أيضًا، وإن القلب يتقلب بين هذه الجنان وتلك الرياض، فما يكاد ينتهي من النظر إلى دوحة من دوحاته حتى تلفت نظره روضة أخرى، فلا يستقر على مكان حتى يُعجب بمكانٍ آخر..

نعم إنه كلام الله، وهو أحسن الحديث، وهو السعادة، وهو الشفاء وهو الفرقان، وبه يتمايز الناس، وبه تحيا القلوب، وبه يعيش المؤمن جنته الدنيوية، ويشتاق لجنته الأخروية، ينتقل المسلم بالعيش معه لحياةٍ أخرى لا تشبه الحياة الزائفة، ويرى تلك الدنيا على حقيقتها مجردةً من زينتها، ومن ثم ينظر إلى الآخرة وما أعد الله للعباد كلٌ على حسب عمله، يتقلب الطرف بين آيات الكتاب الكريم وسوره، فيأتي على القرآن المكي والمدني، على آيات الجنة والنار، على آيات الترغيب والترهيب، يقف طويلاً عند قصص الأنبياء، ماراً بقصص القرآن الأخرى.

وأعظم آيات القرآن ما تكلم الله فيه عن ذاته العلية، وهل نزل القرآن إلا ليتكلم عن الله! عن أسمائه وصفاته، عما أحلّ وحرّم، ما يحب وما يكره، عن أقداره، عن نصره لعباده ومكره بأعدائه، عن رحمته وعن غضبه، وهل يطيب العيش بغير ذكر الله، وهل تحلو الحياة إلا بالأُنس بالله! وكيف يمكن للمؤمن أن يتغلب على هذه الدنيا إن لم يكن معه الله! فالقلوب تأنس بذكره، والصدور تنشرح بكلامه، وتفيض العيون شوقًا إليه، وتئن القلوب من طول انتظار لقائه، إذا سمع الفؤاد ذِكر ربه عاد له نشاطه، وسرت فيه حياةٌ ليست كغيرها من الحيَوات، وإن السعادة التي تغشى القلب وتلف الفؤاد لا يمكن شرحها، ويستحيل لبليغٍ أن يصفها..

والكلام في هذا الباب لا ينتهي ولو انتهت الأعمار وفنيت الآجال ونفد المداد، وهذا ليس مبالغةً أو إعطاء شيءٍ فوق حده ولا زخرفًا من القول، بل هو حقيقةٌ حقيقة..

لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

واسمع لقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67].

وهذه الآية تحمل في طياتها معانٍ ومعانٍ وجلالًا وجمالًا وكمالًا، ولمّا لم يكن للبشر أن يقدروا الله حق قدره فهل لهم أن يدركوا معنى كلامه أو يحيطوا بعلمه كله! فهذا ضرب من المحال فلا يصل المخلوق لحقيقة الخالق.

فسبحان الذي حبب كلامه للقلوب، وسبحان الذي تودد إلى عباده.

وإن من عاش مع أسمائه وصفاته نسي همومه وأحزانه، نسي التعب والجوع والفقر، نسي الدنيا بما فيها، نسي الكفر وسطوته، وأصبح فؤاده فارغًا إلا من الله، وأصبح لسانه ساكنًا إلا من ذكر الله، فبذكره تطمئن القلوب وتحلو الحياة ويعم السرور، نسأله ألا يحرمنا من ذلك.

مع هذه المعاني الجليلة عاش الجيل الأول، ولأجل ذلك صبروا صبر الجبال الرواسي، فقد كان القرآن دواءً لقلوبهم المكلومة، وبلسمًا لأرواحهم الحزينة، مثيرًا فيها مكامن الخير، مشوقًا للجنة ونعيمها، وما أعده الله للصابرين، وما أعده من عذاب لأعدائه الكافرين، يخبرهم أنهم يُعذّبون في سبيل الله، يعرّفهم على قوته وجبروته وسطوته وعظمته ورحمته ولطفه، فيقارن ذاك الجيل بين العذاب الآجل والنعيم العاجل فلا يختارون عندها إلا الدار الباقية بنعيمها على الفانية بعذابها.

فالقرآن سلوى لكل مهموم، وفرجٌ لكل مكروب، فهو كلام الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب. 

Exit mobile version