عامر عمر بركات رحمه الله – أبو العباس الحلبي

بقلم: أبو العباس الحلبي

 الحمد لله رب العالمين، الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، القائل (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).

 

 نقف اليوم مع شخص أحسبه من الغرباء القابضين على دينهم في زمن الفتن، وعابر سبيل ما لبث أن رحل من دار المحن، وأحسب أنه من الأخفياء الأتقياء الذين يقدمون ويضحون ويعملون تحت جنح الظلام دون أن يراهم أحد.

 

 إنه عامر عمر بركات: وُلد -رحمه الله- في مدينة حلب الشهباء عام 1973م وهو أصغر إخوانه الذكور، عاش يتيم الأب وتربى في بيئة معتدلة الالتزام الديني.

 درس المرحلة الابتدائية والإعدادية، ثم انصرف إلى عالم الرياضة، فتعلم رياضة كرة الطاولة وأتقنها من صغر سنه حتى وصل لمرحلة الاحتراف، فبرز اسمه ولمع نجمه بين الرياضيين على مستوى العالم، وحاز على عدة ألقاب كبطل العرب وممثل لمنتخب سوريا في عدة بطولات عالمية، سافر لدول عدة وحاز الكؤوس والشهادات حتى أصبح مدرباً لهذه الرياضة، فمكث في دولة الإمارات سنوات عدة يدرب الأطفال والأشبال.

 

 عرف -رحمه الله- بالتزامه الديني من صغر سنه فكان محافظاً على صلاته حريصاً على أداء زكاة ماله، صاحب عقيدة نقية صافية، محباً للسنة مبغضاً للبدعة، حريصاً على تحقيق التوحيد، شديد الخوف من الشرك والوقوع فيه، فكان يحب سماع دروس العقيدة والتوحيد وتعلمها وتعليمها للناس.

 

 عرف عنه أيضاً حبه لكتاب الله تعالى وإقباله عليه وتعليمه أبناءه، فحمل في صدره من القرآن ما يقارب تسعة أجزاء يتعاهدها كل وقت وحين، وابنته الكبيرة تحفظ القرآن كاملاً، وفرح فرحاً شديداً يوم نالت الإجازة بالسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبناؤه الذكور أيضاً كانوا يحفظون ما تيسر من القرآن الكريم، فكان بيته ينعم بالذاكرين الله آناء الليل وأطراف النهار.

 

 كان -رحمه الله- باراً بأمه كثير الإحسان لها، فهو الذي قام على رعايتها وحملها في فترة مرضها بمرض السرطان حتى توفاها الله عز وجل في بيته، فحزن عليها حزناً شديداً.

 

 مع انطلاق ثورة الشام المباركة التحق بركب الثوار وشارك في أول مظاهرة خرجت تطالب بإسقاط النظام المجرم في حي صلاح الدين بحلب، فاعتقله النظام المجرم شهراً كاملاً ذاق فيه أشكال وألوان التعذيب.

 

 وبعد خروجه من السجن التحق على الفور بصفوف المجاهدين فشارك إخوانه المعارك التي كانت تهدف لحرير المناطق من عصابة الأسد المجرمة في حلب وحماة وغيرها من المناطق والبلدات، وشارك في جبهات مورك وعزيزة وغيرها، وأصيب في أول معركة بعدة شظايا دخلت إلى جسده إلا أنها لم تهن من عزيمته فظل ثابتاً على طريق الجهاد في الوقت الذي فرّ منه الكثير من الشباب والرجال.

 

 لم يكتف -رحمه الله- بأنه كان يشارك بنفسه في الرباط والمعارك، بل ألحق ولده الأكبر بركب الجهاد ولم يبلغ حينها الرابعة عشرة من عمره، وأكرم الله الأب باستشهاد ولده في معارك حماة منغمساً مع إخوانه تقبلهم الله جميعاً.

 

 في فترة الثورة كان -رحمه الله- إماماً وخطيباً لمسجد سهل بن سعد في حي الفردوس بحلب، شغف قلبه حب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاهتم كثيراً بهذا الجانب وفرغ جلّ وقته في دعوة الناس وتعليمهم أمور دينهم.

 

 كان -رحمه الله- صاحب خلق رفيع وأدب نبيل، لا تفارق البسمة وجهه ويقابل إخوانه بكل تواضع واحترام، كلّ من عرفه شهد له بحسن الخلق وإخلاص النية، وورعه الجمّ وغيرته على الدين وحرصه على اتباع السنة.

 

 كان عفيف النفس زاهداً في الدنيا متقللاً منها، سخي اليد، رحيماً بأهله وإخوانه، لا يتكبر على أحد ولا يحتقر أحداً، لا يحمل في قلبه غلاً ولا حقداً ولا حسداً.

 

 كان -رحمه الله- رحيماً بالأرامل واليتامى مشفقاً عليهم، فكان يجمع لهم ما يتيسر له من ماله الخاص ويقوم بتوزيعه عليهم، وكان يتواصل مع بعض أهل الخير والفضل الذين يعرفهم واستطاع أن يحصل منهم على كفالة شهرية لعدد لا بأس به من الأرامل والأيتام وأسر الشهداء لم تنقطع عنهم إلى يومنا هذا، وأحسب أن هذا في صحيفة أعماله إن شاء الله.

 

 وفاته: انتقل -رحمه الله- إلى الرفيق الأعلى ليلة الجمعة في العاشر من الشهر التاسع عام 2020م، وذلك غرقاً في مياه نهر الفرات في منطقة جرابلس شمال سوريا بعد أن نزل إلى النهر لينقذ أولاده الذين غرقوا أمام عينيه، فاستطاع أن ينقذ ابنته وأكمل السباحة تجاه ولده ولكن الله قدر له ولولده أن تنتهي حياتهم، فلم يستطع إنقاذ ولده ولم يستطع النجاة من الغرق.

 

 صلى عليه هو وولده جمع كبير من الناس عقب صلاة الجمعة في مدينة الدانا، وتم دفنهما بجانب بعضهما.

 

 عاش -رحمه الله- نقياً خفياً تقياً لم يعرفه الكثير من الناس، ولكن يكفيه أن الله تبارك وتعالى كان شاهداً عليه مطلعاً على أعماله، ونحسب أنه قد نال الشهادة التي لطالما طلبها ولكن لم تصبه، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والغريق شهيد).

 

 ومما كُتب في رثائه:

 

 ونحن أيا فرات لقد أتينا

 إليك تشوقاً والحب غامر

 و(عامر) خاض أحداثاً جساماً

 بقلب حامد لله شاكر

 وتشهد صدقه حلب الضحايا

 كذا الأحرار تشهد والحرائر

 فتىً رفض المذلة عن يقين

 وأعلنها على الظلّام ثائر

 له سمت الصلاح وليس يرجو

 من الدنيا سوى زاد المسافر 

 كأن النور يملأ في حياء

 محيّاه ونور الحقّ باهر

 وأحسب أنه أمسى شهيداً

 وإن الله أعلم بالسرائر

 شهيداً في تغربه وحيداً

 وفي غرق وفي قلب مصابر

 عزائي أن مضيت نقي ثوب

 وقلب قد حوى أغلى المآثر

عامر عمر بركات رحمه الله – أبو العباس الحلبي/ مقال من صدى إدلب / / مجلة بلاغ العدد السادس عشر، لشهر صفر ١٤٤٢

هنا بقية مقالات العدد السادس عشر من مجلة بلاغ الشهرية لشهر صفر 1442 

 

Exit mobile version